ألتونيان... وساحة النجمة في بيروت

نشر في 08-07-2013 | 00:02
آخر تحديث 08-07-2013 | 00:02
حين كتب المهندس اللبناني جاد تابت {الإعمار والمصلحة العامة} (دار الجديد) عن بيروت وتراثها في خضم التخطيط لإعادة إعمار وسط المدينة (بيروت) المنكوبة والمدمرة والمنهوبة، وأراد أن يوصّف واقع عمارتها ونسيجها الاجتماعي والسياسي والثقافي، اختار الساحتين كاستعارة: ساحة البرج (الشهداء) في أيام عزها، وساحة النجمة التي حافظت على عمارتها التراثية، متألقة ببرلمانها الذي نحته إزميل الفنان الأرمني الأصل مارديروس ألتونيان. والاختيار لم يكن اعتباطياً، فالصلات الغريبة التي نسجت بين المكانين هي التي {رسمت مصير تلك الضيعة الصغيرة} (بيروت) التي تلقت منذ قرن من الزمن {صدمة الحداثة}!
إذا كان المبنى المعلم في ساحة البرج {الأسطورية} قبل زواله، عمارة قديمة ومربعة يعلوها سقف قرميد أحمر، فإن الساحة نفسها شكلت حيز {تواصل وتبادل} و{باب العالم إلى المشرق عبر المدينة التي غدت إلى حين إحدى عواصم المتوسط اقتصاداً وثقافةً وعمراناً}. وفي مقابل دينامكية {البرج} ودراميتها و{أسطوريتها} تمحورت ساحة النجمة حول تشكيل ناجز (وجامد): البرلمان اللبناني وهو مقر سياسي ورسمي. على أن صورة ساحتي البرج والنجمة المختلفتين والمتصارعتين لم تكن صدفة، فهي نتاج تراكم {أزمنة عمرانية}، فذاكرة بيروت الثقافية لا ترتبط بأحداث 6 أيار (مايو) 1916 وإعدامات جمال باشا فحسب، بل بوجه آخر للعثمانيين لا يقل أهمية، هو ما حدث عام 1915 والذي دُعي في حينه مشروع والي بيروت عزمي بك لتخطيط شوارع العاصمة.

إزالة ثلثي المدينة

مشروع عزمي في شكله هو إزالة ما مساحته ثلثي المدينة التقليدية العثمانية، من ساحل البحر غرباً إلى ساحة رياض الصلح شرقاً. وجاء في جريدة {لسان الحال} العدد 7450، تاريخ 22/1/ 1914: {تألفت شركة بيروتية لهدم المدينة القديمة من الميناء إلى سوق المنجدين فالسّور فباب الدركة فالميناء، لتكون بيروت بأسواقها على نسق أوروبي باتساع الطرق والأرصفة. وعلمنا أن حضرة الوالي يدرس هذا المشروع وهو ينوي انتخاب لجنة من الأهالي، واستقراض مبلغ للقيام به}. وترجع بداية مشروع عزمي بك إلى أوائل عام 1914 حيث كان الاقتصادي شديد التداخل بما هو سياسي، حينها كانت التحولات صاخبة على المستوى العمراني، وصدرت أوامر من عزمي بك بهدم المباني الخشبية في بيروت، وقد بوشر بعمليات الهدم سنة 1915 بإشراف مهندس نمساوي يعمل في البلدية اسمه دورفلر.

 في 30 سبتمبر 1918 انتهى تاريخ بيروت العثماني ورحلوا عنها، وحين نزلت القوات الإنكليزية والفرنسية على شواطئ بيروت عام 1918، لم تجد أمامها إلاّ وسط شبه مدمر، ونسيجاً مدينياً لا بنية له، ومدينة قد فقدت هويتها. وقام الحلفاء بإكمال المشاريع وهدموا المدينة القديمة. وأعلن الجنرال غورو ولادة لبنان الكبير عام 1920. ومن ثم حاول الانتداب الفرنسي، في أقل من عقد من الزمن، إكساب المدينة معالم جديدة، وتأسيس بداية أزمنة حديثة عبر الخطط العمرانية التي عمل على تنفيذها. وبدأ في لبنان استعمال الباطون المسلح، الذي كان تأثيره كبيراً في التغيرات التي طرأت على الهندسة المعمارية، أولى المباني التي شيدت بالباطون المسلح كان {حاووز} المياه في الأشرفية. وفي عام 1927 شيّد المطار الدولي في بئر حسن، وشقت الشوارع بين المدن اللبنانية، وبُني كورنيش المنارة. وتوسعت بيروت، ونشطت الخدمات العامة، وحل الباطون المسلح تدريجاً محل الحجر في البناء. وبرزت أسماء لامعة في العمارة مثل أنطوان تابت ويوسف أفتيموس.

ومن خلال الثغرات التي خلفتها السلطات العثمانية في بيروت، جهدت السياسة العمرانية للإنتداب الفرنسي في سعيها إلى إقامة أشكال مدينية تتلاءم مع العصر الجديد، وأستعين بمفهوم البارون هوسمان الذي صمم باريس كما تُرى اليوم، بشوارعها الضخمة والعريضة ومن بينها ساحة النجمة الشهيرة، ولم تكن ساحة النجمة المستحدثة في وسط بيروت سوى صورة مشعة مصغرة تحاكي الساحة الباريسية (كانت محلة في الزمن العثماني وعرفت بـ{زاروب الجورة}) وتم ترسيمها على شكل دوائر متّحدة المركز، وتتفرّع من الأخير ثمانية شوارع متساوية الزوايا، وشارع أللنبي. أرادوها أن تحاكي ساحة النجمة في باريس. إلا أن المدينة القديمة لم تستسلم. واستطاع النسيج المديني القديم، وإن مزقته الشوارع والتخطيطات الجديدة، أن يحافظ على بعض رموزه وإشارته: فإنجاز ساحة النجمة لم يكتمل، اذ كان اتمامه يقتضي هدم الكاتدرائيتين الأولى التابعة للروم الارثوذكس والثانية للروم الكاثوليك ومسجد الأمير منصور عساف. وبقيت النجمة المثمنة الأضلاع مبتورة.

 وينبه جاد تابت إلى أنه إذا كان من شأن كل حيز عمراني أن يرمز بحد ذاته إلى مظهر من مظاهر المدينة، أو إلى حقبة معينة من نموها، فإن الطبيعة الدفينة لهذا الحيز غالباً ما تتبدى من خلال غرار فريد يبدو وكأنه يحتاج إلى وسيط من شأنه أن يسلط الضوء على ما يظل غامضاً من دونه. هكذا يبدو أن تشكيل ساحة النجمة يتمحور حول مبنى البرلمان، وهو عمارة على الطراز النيو كلاسيكي {حداثوية} و{مستعربة}، تحدد بتصدرها نطاق الساحة. ويجهل كثيرون من زائري وسط بيروت وساحة النجمة أن مصمم مبنى المجلس النيابي اللبناني هو التركي من أصل أرمني واللبناني الشهرة مارديروس ألتونيان (-1889 1958)، المولود في منطقة بورسا التركية (أو أرمينيا الغربية). كًُلّف بوضع تصاميم المجلس النيابي بين عامي 1933 و1934، وأنشأه على طراز عثماني مستحدث واستعمل عناصر مستوحاة من فن العمارة في بنايات منطقة الشوف من حيث استعمال النوافذ المزدوجة والقناطر المثلثة فوق قوس على المدخل.

 

مبنى تراثي

أصبح مبنى مجلس النواب جزءاً لا يتجزأ من «التراث اللبناني» والمعماري ونقطة التقاء السياح والمغتربين والعرب. وقبل أن يكون رمزاً تراثياً وعمرانياً وسياحياً يصوره «زوار الوسط»، وقبل أن يكون صرحاً لـ»الديمقراطية اللبنانية»، كان رمزاً سياسياً للانتداب الفرنسي، يصفه بعضهم بـ «عمارة كولونيالية مستعربة»، وشكل في بدايته علامة من علامات التحول نحو السياسة الغربية، الفرنسية تحديداً، وحمل مع نشوئة أشكالاً جديدة من التشريعات والقوانين والثقافات. وإذا كانت جدران المبنى تبدو صماء وخرساء ولكنها تروي بالمعنى المجازي كواليس أطياف السياسة وتبدلاتها في مجلس النواب بين الانتدابية والقومية العربية والعروبية و{الممانعة» والسورية واللبنانية والفاشية والطائفية...

 على أن براعة ألتونيان، وهو مهندس ونحات ورسام، لم تقتصر على تصميم البرلمان، فقد فاز بالمرتبة الأولى في امتحان أفضل تصميم «حارسة البرلمان» ساعة العبد التي قدمها المغترب الثري والمكسيكي من «أصل لبناني» ميشال (أو ميغيل) عبد والتي حملت اسمه (ثمة من ينسب خطأ ساعة العبد إلى الزمن العثماني ويخلط بينها وبين الساعة الحميدية). وزائر ساحة النجمة لا يسعه إلا أن يلاحظ برج الساعة، الذي يقف متحدياً كافة العوامل الزمنية والطبيعية، وبات ملتقى لكثيرين، ومعلماً مميزاً لا يمكن لأحد أن يضيعه. يبعد برج الساعة نحو ثلاثين متراً عن البرلمان، ارتفاعه نحو 15 متراً، بشكل مستطيل تزينه فتحات هواء، وتعلوه غرفة مغلقة تطل أيضاً على المدينة من الجهات الأربع.

 وقد دشّن برج الساعة في مطلع الأربعينيات في احتفال كبير أقيم في الساحة، وكان تاريخ البلد، خلال العقود الثلاثة التي أعقبت الإنجازات الكبيرة لعهد الانتداب الفرنسي تاريخ {إعادة اجتياح القديم للحديث واللامنتظم للمنتظم} (سمير قصير– {تاريخ بيروت})، على غرار ما حصل في ساحة النجمة والحوض الذي يحيط بساعة العبد، فقد استعمله لاحقاً الحمالون في سوق النورية ليغسلوا وجوههم ثم، عندما قررت البلدية تجفيفه لوضع حد لهذه الظاهرة، تحول إلى مكان لتفريغ البضائع. ولم يقتصر الاجتياح الشعبي على ساحة النجمة، فإبان تدمير السلطان العثماني لبيروت، وإعادة بنائها من الفرنسيين بطريقة عمرانية آنذاك، لم يستطع التمدن أن يبعد الناس عن بيروت. ففي أربعينيات القرن الماضي، تحولت ساحة البرج إلى سوق شعبي، وفتحت المحال فوق المباني المتمدنة.

على أن ساعة العبد بقيت صامدة في مكانها حتى عام 1966، حين صدر قرار من بلدية بيروت أثنى عليه كل من جورج نقاش ونينا حلو بنقلها الى محلة كورنيش النهر ـ العدلية، بعدما اكتشفت آثار في الموقع الذي أقيمت فيه أصلاً (ثمة من يزعم بأنها نقلت من مكانها بسبب الحرب الأهلية). وبعد مرور 30 سنة، قدّر لهذه الساعة أن تسترجع موقعها، إذ عادت إلى ساحة النجمة ودارت عقاربها مجدداً في 22 أكتوبر عام 1996.

 تعد ساعة العبد أكثر مثيلاتها اجتذاباً للمارة والمتسوّقين والسيّاح، وواحدة من سلسلة ساعات لها أبراج هندسية تشير إلى التحولات العمرانية التي حدثت في لبنان، فقد شيد برج الساعة في الجامعة الأميركية (1869)، ومن ثم الى طرابلس مع ساعة التل (1901) وساعة السرايا الكبيرة (1897)، ونتذكر في هذا الباب الساعة الحاكية والناطقة المزهرية التي اختفت من ساحة البرج.

مهندس كوزموبولوتي

مبنى البرلمان وبرج الساعة شيدا في مرحلة اتسمت فيها بيروت بالطابع الفرنسي نظراً إلى ظهور {العمارة الكولونيالية} بالمعنى الأيديولوجي. وألتونيان مهندس كوزموبولوتي وارستقراطي ومهني بامتياز، فهو المتخصص في مجال العمارة البيزنطية أنشأ صروحاً دينية مثل كاتدرائية مار بولس للروم الكاثوليك في حريصا (1949) وجامع الامام أبو بكر شارع فوش (1932) وفي سنة 1937 بدأ بناء كنيسة القديس غريغوريوس للأرمن الأرثوذوكس في انطلياس وسنة 1956 بدأ مع مهندسين ترميم كنيسة ميلاد يسوع في بيت لحم لكن العمل توقف بوفاته. وعدا عن ذلك اشتغل في عواصم عربية من بغداد الى بيروت والقدس وعمان، وكان قريباً من الطبقة السياسية اللبنانية، نفذ لوحات فينيقية لمعرض في نيويورك بطلب من السياسي إميل إده، أنشأ رموزاً معمارية سياسية في زمن بيروت الفرنسية، هو نفسه الذي طلب منه الرئيس بشارة الخوري تصميم ونحت لوحة تذكارية تؤرخ جلاء القوات الفرنسي والجيوش الأجنبية في 31 كانون 1946، فأنجزها على أحدى صخور نهر الكلب خلال أسبوعين. وسبق له أنه أنجز بلاطة تذكارية وهي ترمز إلى دخول الجيش الفرنسي في 25 تموز 1920 إلى لبنان بقيادة الجنرال غورو. واليوم ربما قلّة ينتبهون إلى أنه صمم مبنى البرلمان وساعة العبد في ساحة النجمة، حتى بعض من يهتم ويكتب الدراسات حول العمارة نادراً ما يذكر ألتونيان!!

 وبعد نحو 80 عاماً على تصميم مبنى البرلمان الشاهد الأبرز على مسار ساحة النجمة، وهو ركن من أركان حياتها وربما استيهام موتها وقد حافظ على تألق حداثته، بعد نهاية الحرب الأهلية (-1975 1990) وإعادة الإعمار... برزت صورة لساحة النجمة تختلف عن ماضيها {الذهبي} كما يسمى اليوم، فالساحة وإن عرفت بأنها كحيز متكامل وجامع ومدروس و{تراثي} ومخطط {بشكل مسبق}، وله بنية توحيدية من شأنها تنسيق العناصر للعمران، لكن الزائر إلى الساحة من أي جهة كانت يشعر أنه تحت المراقبة، فقد منعت السيارات من الركون عند مستديرة ساعة العبد، وفي المقابل كثرت الحواجز الحديدية التي تغلق المنافذ المؤدية إلى البرلمان، وترى قوى أمنية من شرطة المجلس والجيش ومسلحين بزي مدني، كأن البرلمان الذي صممه ألتونيان غدا {قلعة سياسية} في ساحة اعتكفت متعالية، في وظائفها الرسمية، يتخلل حيزها وطقوس نراجيل في المقاهي وأعراس وقداديس في الكنائس وسائحين من هنا وهناك.

اللافت أن جدران مبنى البرلمان الصماء والعمارات المحيطة به كأنها قليلة التعبير ولم تصنع حكاية لكتاب، فقل ما نجد كتاباً عن ساحة النجمة أو حتى مجرد مقالات عابرة، على عكس ساحة البرج الديناميكية التي مارست غواية على الشعراء والكتاب والرسامين والفنانين وصدرت حولها عشرات الكتب، وحتى في فراغها الآن لا تزال تمارس الغواية نفسها في السياسة وفي انتظار تصميمها الجديد.

back to top