رحلة بحرية في شرق كندا... حيث يلتقي التاريخ بالطبيعة!

نشر في 20-02-2013 | 00:02
آخر تحديث 20-02-2013 | 00:02
«هل ترقصين معي؟»... هكذا سألني رجل شهم وظريف فيما كنتُ أنزل من على الدرج المتحرك في تادوساك، وهو مكان يشبه الميناء ويقع عند نقطة التقاء خليج سانت لورانس ومضيق ساغوناي في محافظة كيبيك. كان شعره رمادياً على الطرفين وكان يرتدي زياً مريحاً، فأمسك يدي وهو يبتسم ابتسامة عريضة وسحبني نحو مجموعة صغيرة من رفاقه، وهم فريق من الممثلين المكلّفين الترحيب بالزوار خلال الرحلة.
كان طلب الرقص المفاجئ فوق رصيف خشبي هش كفيلاً بإخراجي من أرض الواقع للحظات. لكن لِمَ لا؟ فيما كان عازفو الكمان يعزفون على آلاتهم بانسجام، وكانت النساء المبتسمات يرتدين الأثواب الكلاسيكية ويصفّقن بتناغم مع إيقاع الموسيقى، وكان الأولاد يقهقون ويستندون إلى طاولة تعج بقطع الحلوى، شعرتُ بأن رفض طلب الرقص لن يكون سلوكاً ودياً.

هكذا وجدتُ نفسي أجول على طول الساحل الشرقي من كندا، على متن سفينة «لو بوريال» (Le Boreal) التابعة لشركة تنظيم الرحلات البحرية La Compagnie du Ponant. تسع السفينة 264 راكباً وقد أبحرت من مدينة كيبيك مروراً بشبه جزيرة غاسب وصولاً إلى ميناء بوسطن. عند المرور بطريق مماثلة، يكون حجم السفينة مهماً. تمنحنا «لو بوريال»، طولها 466 قدماً، فرصة التنقل بين قرى صيد مدهشة وموانئ ضحلة تعجز السفن الأكبر حجماً عن دخولها.

تأخذ رحلتنا طابع الجولة الخريفية ولكن يمكن وصفها أيضاً بعبارة «البحث عن الممر الشمالي الغربي» أو «الحياة البرية المدهشة في شرق كندا». في الحقيقة، كانت الرحلة مزيجاً من هذه الأمور. تحدث المؤرخون على متن السفينة عن رحلة البحث الشاقة والمضطربة التي خاضها المستكشف القديم جاك كارتييه لإيجاد الممر الشمالي الغربي الضائع وعن علاقته المتقطّعة مع شعب الإيروكوا. يؤكد أنصار الطبيعة أن هذه المنطقة الواسعة تفيض بالحيوانات البرية والبحرية معاً، ما يولد فرصاً لخوض مغامرات شيّقة ومفيدة في آن.

بعد الصعود على متن السفينة، لم أتعجب حين وجدتُ نفسي وسط مجموعة من السياح الفرنسيين النشيطين الذين كانوا يتعاونون للبحث عن تاريخ مشترك واستكشاف أفضل المناظر الطبيعية في أميركا الشمالية. حصل ذلك بفضل شركة La Compagnie du Ponant المعروفة في أوروبا بتوفير جولات رائعة وخدمات أنيقة وسلسة.

كنتُ أجلس في مقصورتي المريحة لكن الفاخرة، وكانت السفينة تخترق خليج سانت لورانس باتجاه مضيق ساغوناي قبل أن ترسو في قرية تادوساك حيث وجدتُ ترحيباً حاراً. كانت تلك البلدة أول محطة تجارية فرنسية تقع ضمن المساحة التي تُعرف باسم «فرنسا الجديدة»، وهي لا تزال حارسة المضيق وقلب السياحة في ذلك الخليج.

في هذا المكان حيث تلتقي مياه المضيق العذبة بمياه سانت لورانس المالحة، تصبح البيئة الغنية بالمغذيات تحت الماء مصدراً مهماً للغذاء في الصيف بالنسبة إلى أجناس عدة من الحيتان: الحوت الزعنفي، المينك، الحوت الأبيض، الحوت الأزرق، فضلاً عن خنزير البحر. يجذب المكان الزوار الذين يبحثون عن رحلات لمشاهدة الحيتان والمسافرين الذين يبحثون عن مساحات حرجية هادئة تحيط بالمضيق. يكفي التجول حول البلدة مع وجبة خفيفة اسمها «بوتين» (طبق من الكيبيك يتألف من البطاطا المقلية المنقوعة في صلصة اللحم) للاستمتاع بيوم جميل.

لكن كان لدي يوم فقط في الميناء لأنني كنت مضطرة إلى العودة إلى السفينة بحلول المساء للمشاركة في الاحتفالات المسائية. يُقدَّم العشاء في واحدة من الصالتين، وكان جيراني الفرنسيون يرتدون ملابس أنيقة لحضور المناسبة. قيل لي إن امرأة فرنسية مرموقة موجودة على متن السفينة، وقد اشتبهتُ بأنها السيدة الأنيقة التي تقف في الجزء الآخر من الصالة. لا شك في أن جدتي كانت لتعتبر سلوكها مثالياً، وهي كانت لتكسب لقب «ملكة جمال الآداب» بكل سهولة.

صحيح أن السفينة ترفع العلم الفرنسي، لكنّ المأكولات كانت جزءاً من مطبخ دول أميركا الشمالية لحسن الحظ. وحتى الجماعات الأنغلوفونية تناولت الطعام بنهم. لكن بعد العشاء، كشفت السفينة عن طابعها الفرنسي من خلال مسرحية باريسية لامعة عُرضت في المسرح. شعرتُ بأننا عدنا إلى باريس في أيام همنغواي وبيكاسو وقد توقعتُ إيجاد إحدى تلك الشخصيات بالقرب مني.

تصبح الأمسيات هادئة بعد عودة معظم الزوار إلى غرفهم في الساعة التاسعة. وتتحول الصالة إلى ديسكو مصغر حيث تتعالى أغاني الثمانينيات. تسللتُ إلى «صالة المرصد» الجميلة حيث الكراسي البيضاء الرفيعة والمناظر الأخاذة.

جو عليل

يُوضَع برنامج بلغتين لتحديد نشاطات اليوم التالي في مقصورتي كل مساء حين أتناول العشاء. بعد أن غبتُ عن محاضرة مهمة في وقت سابق، أدركتُ أهمية تخصيص بعض الوقت لمراجعتها في كل مساء.

تحضر السفن وترحل، لكن تبقى جزر مادلين (أرخبيل في خليج سانت لورانس) عالقة في الذاكرة دوماً. في الوقت الذي رسونا فيه هناك، حتى وسط الجو الصباحي المشمس من شهر سبتمبر، يمكن الشعور ببرودة في الجو بفعل هبوب الرياح.

إذا كان الطقس بهذه البرودة في شهر سبتمبر، فكيف سيكون في منتصف الشتاء؟ أخبرني الدليل السياحي الذي رافقنا في الرحلة، هوغو بتتباس، بأن «الجو عليل». لكنّ سكان المنطقة (يقتصر عددهم على 13 ألف نسمة من الأكاديين) يروون قصة مختلفة عن فصول الشتاء التي تكون طويلة وباردة جداً.

كانت الأشجار الموجودة هناك في الأصل مسطحة وقاحلة وقد قُطعت جذورها منذ أكثر من مئة سنة تمهيداً لإنتاج أرض مسطحة نسبياً تشمل الصخور البركانية والكثبان الرملية. تكفي نظرة إلى المكان للحصول على صورة قاتمة تعكس ضعف الدفاعات الطبيعية ضد مفاعيل الطبيعة في هذه السلسلة المدهشة من الجزر حيث تتكل العائلات منذ أجيال.

أخبرنا هؤلاء الناس أيضاً بأن موقعهم البعيد جداً عن أرض كندا الأساسية هو الذي يُبقي جزيرتهم الأم أكثر اعتدالاً. بما أنني من كاليفورنيا، يبدو لي الأمر نسبياً. لكن من الواضح أن الأكاديين يجيدون الصمود في وجه الصعاب. بحلول عام 1875، حين قُطعت جميع الأشجار ورُبطت في حزم وأُعيدت إلى بريطانيا لاستعمالها كأرضيات خشبية، أصبح صيد الكركند أهم مصدر رزق لسكان الجزيرة. قيل لي إن الأكاديين المعاصرين يصطادون اليوم كماً هائلاً من الكركند ويعيشون من أرباح يجنونها بعد انتهاء موسم الصيد.

اليوم، تحضر أعداد متزايدة من الصيادين إلى الجزر بسبب وجود حوالى 200 فصيلة من الطيور هناك، وقد بدأت السياحة تزدهر أيضاً. على صعيد آخر، تبرز جماعة واعدة من الفنانين الذين يصممون ويصنعون تحفاً فنية مذهلة من زجاج ورمال البحر المحلي، تُعرض بالقرب من منطقة لاغراف.

لم نتوقف في جميع الموانئ على طريقنا كما فعلنا في تادوساك، لكن برز عامل ساحر آخر في لونينبيرغ في مقاطعة نوفا سكوتيا. صنّفت منظمة «اليونسكو» هذه المنطقة على قائمة «مواقع التراث العالمي» حيث تقف المباني الحمراء والزرقاء والصفراء المشيّدة منذ قرون وكأنها جنود مكلفّون بحراسة هذه المستوطنة البريطانية، وكنتُ أشاهدها من على سطح السفينة حين تصبح البلدة مرئية للعيان.

هذه المنطقة نموذج مهم عن طابع الاستعمار البريطاني الغابر، إذ تُعتبر الواجهة البحرية هناك قلب المدينة النابض كما هو الوضع في معظم البلدات الساحلية في هذا الجزء من كندا. كانت عمليات الصيد وبناء السفن والحياة الاجتماعية تتمحور حول المخازن الغنية بالسمك والفرو (بما في ذلك فرس البحر الذي يتم صيده راهناً) حين بُنيت هذه البلدات في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لا يزال الوضع على حاله اليوم، لكن أُضيفت عائدات السياحة إلى مصادر الدخل.

المهرجان السنوي للفنون الشعبية في لونينبيرغ حدث شهير، ويبدو أن زملائي في الرحلة البحرية يعلمون ذلك لأنهم قرروا النزول بأعداد كبيرة من السفينة لحضور العرض. تجولنا معاً في الشوارع المنظّمة والمتوازية وزرنا متحف «كنوت-رولاند» التاريخي حيث الآثار التاريخية الأصلية والتحف المستنسخة. وبما أنني أجيد الحياكة، جذبتني المتاجر الصغيرة التي تبيع المنسوجات الصوفية الثقيلة والمصنوعة يدوياً والمصمَّمة لحماية البشرة الحساسة خلال البرد الشديد.

بعد المحطة الأخيرة في منطقة بار هاربور الحيوية، نزلتُ في بوسطن حيث شعرتُ براحة لم أعرفها منذ أسابيع، ربما بسبب هواء الليل العليل الذي تسلل عبر باب الشرفة بعدما تركتُه مفتوحاً. لكن ثمة منافع أخرى تَعِد بأن تدوم لفترة أطول. للمرة الأولى، تعلّمتُ بعض الأمور عن أهم الأسرار التي أجادت كندا الاحتفاظ بها: إرثها الثقافي الغني وساحلها الأطلسي المدهش!

back to top