سيّدة النُّور تُطفئ حياة سليم الثاني

نشر في 18-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 18-07-2013 | 00:01
مع وصول السلطان سليم الثاني إلى سُدة الحكم (في الفترة من سنة 1566 إلى سنة 1574م)، أخذت سلطة وسلطان الحرملك في التزايد وأصبحت واضحة للعيان وأمرا معترفا به داخل أروقة القصر العثماني، بل في الدول الأوروبية التي بدأت تتصل بالحرملك لمخاطبة السلطانات لمناقشة الأمور الدولية، فالنفوذ الذي أرست دعائمه السلطانة «خُرَّم» أيام السلطان سليمان القانوني، جاءت السلطانة نوربانو زوجة السلطان سليم الثاني بن سليمان القانوني لتبني عليه مجدها وتلعب الدور الأبرز في توجيه السياسة العثمانية لسنوات.
بدأ سليم الثاني سلطنته، بالتوجه فورا إلى إسطنبول حيث جلس على العرش العثماني، بعدها توجه إلى الجبهة النمساوية، فقابل الجيش العثماني العائد من انتصاره على النمساويين يتقدمه نعش العاهل العظيم السلطان سليمان القانوني، وسلم الصدر الأعظم محمد باشا صوقوللو على سليم الثاني بسلام السلطنة، وفي صحراء سيرم خارج بلغراد، بايع الجيش العثماني وريث العرش، بعدها أدى السلطان الجديد وخلفه الجيش صلاة الميت للقانوني، ونادى خواجه سلطاني عطاء الله أفندي مربي سليم الثاني في الجيش قائلا: «الصلاة للميت»، وأقام الصلاة، بعدها انطلق الجيش في موكب جنائزي تحيطه ذكرى سليمان القانوني بالهيبة والوقار، وفي مدينة إسطنبول أقيمت مراسم جنائزية ضخمة تليق بالقانوني، وكان لافتا اشتراك الآلاف من أهالي مدينة إسطنبول في حمل جثمان السلطان الراحل إلى مدفنه بمسجد السليمانية عرفانا بالعدل الذي أسبغه على رعيته طوال عهده الطويل.

بدأ السلطان الجديد سليم الثاني عهده بأن أبقى على الصدر الأعظم محمد باشا صوقوللو في منصبه، وهو الرجل الذي سيتولى إدارة الدولة بحزم واقتدار طوال عصر السلطان سليم، وتوجه السلطان إلى مدينة أدرنة حيث قضى شتاء سنة 1567م، والتقى هناك بسفيري إيران وألمانيا، اللذين قدما واجب العزاء وطالبا بتجديد معاهدات الصلح مع الدولة العثمانية، لم يكن السلطان سليم راغبا في الدخول في معارك حربية لذلك أقر معاهدات الصلح مع الدولتين، كما استغل وجوده في أدرنة لوضع حجر الأساس لمسجد السليمية هناك.

الصراع السياسي انقسم في عصر السلطان سليم إلى شقين، أولهما بين رجال الدولة في الديوان، صراع قاده بمهارة الصدر الأعظم محمد باشا صوقوللو، زوج ابنته السلطانة أسمهان، الذي أحكم قبضته على الدولة وأصبح بالفعل الآمر الناهي في الدولة، في ظل وجود السلطان سليم ضعيف الشخصية، لذلك كان رجال البلاط ينظرون إلى صوقوللو باعتباره ديكتاتورا، استفاد من ترك سليم الثاني كل أمور الدولة للحكومة، ولم يُكنّ سليم الثاني أي محبة لصوقوللو باشا، الذي ردع السلطان عن نزواته، في المقابل مال سليم إلى مؤدبه مصطفى باشا «لالا»، لكنه كان ضعيف الشخصية فلم يظهر ميله الشخصي لمصطفى باشا أمام نفوذ محمد باشا صوقوللو، المدعوم من فرق الجيش خاصة فرقة الإنكشارية (القوات الخاصة في الجيش العثماني).

أما الوزير مصطفى باشا «لالا» فاعتمد في نفوذه على علاقته المتينة بالسلطان سليم، فهو من قدم خدمات جمة إلى السلطان سليم، وضمن له العرش من خلال تنفيذ مؤامرة ضد الأمير بايزيد أطاحت به في النهاية وحسمت ولاية العهد لسليم، أما الوزير الثالث داماد بياله باشا الذي تزوج من ابنة السلطان سليم، فقد اعتمد على مصاهرته لتدعيم نفوذه في البلاط العثماني.

هؤلاء الوزراء هم من سيطروا على توجيه السياسة العامة للدولة العثمانية طوال عهد السلطان سليم الثاني، خاصة الصدر الأعظم محمد باشا صوقوللو، الذي بسط شخصيته ونفوذه طوال سنوات حكم سليم الثاني، وقيل إن الفضل في عدم تسرب الضعف إلى جسد الدولة في ظل سلطنة سليم الثاني عديم الكفاءة ضعيف الشخصية يرجع في المقام الأول إلى قوة شكيمة الصدر الأعظم صوقوللو، الذي استطاع أن يواصل مسيرة العظمة التي شهدتها الدولة في عهد السلطان سليمان القانوني.

الصراع الثاني الذي شهده عصر السلطان سليم الثاني، دار في الحرملك، بعد أن أصبح له دور لا يقل أهمية عن دور كبار الوزراء، منذ السلطانة خُرَّم التي رسخت نفوذ الحرملك في سياسة الدولة العثمانية، فسليم الثاني ليس وحده من وصل إلى سدة الحكم، فشقيقته السلطانة محرمة (المعروفة عربيا بالسلطانة مريم) احتلت المساحة التي كانت تشغلها السلطانة خرم بعد وفاتها، خصوصا أنها زوجة الصدر الأعظم السابق رستم باشا، ومع الوقت صار للسلطانة محرمة النفوذ الأكبر داخل القصر العثماني، وورثت مكانة والدتها ولُقِّبت بالسلطانة الأم، ومارست نفوذها منذ السنوات الأخيرة من عصر والدها السلطان سليمان القانوني، وتتابع نفوذها في عهد أخيها في الفترة الأولى من حكمه ولعبت دورا في تحريك الأحداث داخل القصر العثماني، ويكشف المسجد الضخم الذي يحمل اسمها عن مدى النفوذ الذي كانت تتمتع به السلطانة محرمة، لكن نفوذها المتصاعد واجهته بحزم امرأة أخرى استطاعت أن تحد كثيرا من نفوذ السلطانة محرمة وتدخلها منطقة الظل وتستأثر هي بكل السلطان، فمن هذه المرأة؟!

سيدة القصر

لم ينسَ الحرملك العثماني النفوذ الهائل الذي مارسته السلطانة خُرَّم، وأدارت الحرملك عبر مجموعة من المؤامرات التي حسمت معركة الحرملك لصالحها، لذلك لم يكن غريبا أن تسير بنات الحرملك على السُّنَّة التي استنتها لهن السلطانة خُرَّم، كانت إحدى بنات الحرملك القادمة من بلاد البندقية، تعي هذا الدرس جيدا وتنظر للسلطانة خُرمَّ كمثل أعلى وقدوة، تلك الجارية تدعى «نوربانو» التي انضمت إلى الجواري المخصصات للأمير سليم بن السلطان سليمان القانوني، نجحت الجارية «نوربانو» في الاستحواذ على فكر الأمير سليم، حتى قيل إنه لم يكن يغادر مخدعها إلا عندما يستدعيه السلطان القانوني.

 وثبتت نوربانو مكانتها عند الأمير الشاب بعد إنجابها أربعة أبناء، ثلاث بنات، وولد هو الأمير مراد، الذي سيتولى السلطنة فيما بعد باسم السلطان مراد الثالث، وعندما تولى سليم العرش العثماني خلفا لوالده أصبحت جاريته المفضلة سيدة القصر، ومارست نفوذا هائلا من خلف ستار الحرملك واستعادت سيرة السلطانة خُرَّم، لكنها اختلفت عنها في شيء جوهري، وهو أن السلطانة خُرَّم عاصرت أعظم سلاطين الدولة العثمانية قاطبة، وهو السلطان سليمان القانوني الذي مارس سلطانا غير متنازع عليه في إدارة الدولة، ما حجم نفوذ خُرَّم وحصره داخل الحرملك، في حين أن «نوربانو»، عاصرت سلطاناً ضعيف الشخصية لذلك امتد نفوذها من الحرملك إلى السلاملك.

هناك خلاف بين المؤرخين حول أصول السلطانة «نوربانو» فوفقا لسجلات مدينة البندقية (فنيسيا الإيطالية) يفترض أن سيسيليا أو أوليفيا هي ابنة سيد مدينة بروسا فيرنييه نيكولوس، أو ابنة لدوق البندقية سيباستيانو فينييه ووقعت في الأسر عندما غزا العثمانيون جزيرة سيكلاديز باروس، حيث ولدت، خلال الحرب سنة 1537، واختطفت من هناك واقتيدت كجارية إلى حريم السلطان سليمان القانوني، حيث وقع في غرامها الأمير سليم الذي أطلق عليها اسم «نوربانو»، أيّ سيدة النور، وكأنه اختار هذا الاسم لأنها ملأت حياته نورا بعد ظلام.

لكن في المقابل، هناك من يرى أن نوربانو تعود إلى جذور إسبانية يهودية وأن اسمها الحقيقي هو راشيل بنت جوزيف ناسي، وهو ما يمكن استخلاصه من بعض مراسلات السلطانة صفية مع جمهورية البندقية، لكن لا سند تاريخيا لهذه الرواية، أما الرواية التاريخية الأكثر شهرة وهي أن «نوربانو» تعود بأصولها إلى جزيرة كركيرا التابعة لإدارة البندقية، والتي صمدت لحصار الأسطول العثماني أكثر من مرة إلا أن حصار سنة 1537 كان شديدا وكادت أن تسقط الجزيرة في قبضة العثمانيين، إلا أنهم انسحبوا نتيجة شدة الطقس واستبسال القوات المدافعة، خلال انسحاب القوات العثمانية اصطحبوا معهم العديد من الأسرى، كان من ضمنهم نوربانو نفسها، وبيعت الجواري في أسواق القسطنطينية، حيث تم البيع في مزاد علني، وكان من ضمن الأسرى الجميلة كالي وأمها وشقيقها، وكالي هي نوربانو التي دخلت القصر السلطاني وهي بنت سبعة أعوام، أما أمها فقد استطاعت العودة إلى بلادها، كما حصل شقيقها على حريته، وعاد إلى أمه في كركيرا، بعد أن حاول استرجاع حرية أخته من قصر الباب العالي بلا فائدة، وتعد هذه الرواية هي الأقرب إلى الصحة التاريخية بعد اكتشاف خطاب في مكتبة ميلانو مرسل من أم السلطانة «نوربانو» إليها بعد أن أصبحت سلطانة، تطالب فيه ابنتها بزيارتها في إسطنبول، ولا نعرف حقيقة ما إذا كانت الأم قد رأت ابنتها بعد أن أصبحت سلطانة أم لا، لكننا نعرف يقينا أن المراسلات بين البنت التي أصبحت سلطانة أعظم دولة في العالم وبين أمها لم تنقطع قط.

 مهما يكن أصلها فقد وقع الأمير سليم في عشق هذه الجارية الجميلة التي اعتبرها أجمل ما في حياته، فألحقها بجواريه سنة 1545، وهو في الحادية والعشرين من عمره، وكانت نوربانو وقتها في الخامسة عشرة، وولدت لسليم، الأمير مراد في سنة 1546 في المصيف الجبلي «بوزداغ» التابع لسنجق (ولاية) مانيسا التي كان سليم واليا عليها، باعتباره ولي عهد الدولة العثمانية، فأصبحت «نوربانو» بعد إنجاب الأمير مراد في مرتبة باش خاصكي سلطان، وهي مكانة أرفع من كل جواري الأمير سليم، وأصبحت بمنزلة زوجته الأولى.

 ومع تولي سليم السلطنة بعد وفاة والده السلطان سليمان القانوني في سنة 1566م، دخلت نوربانو سلطان في صراع على رئاسة الحرملك مع السلطانة محرمة (أو مرماه) بنت السلطان سليمان والتي حملت لقب السلطانة الأم وهو صراع سيظل مستمرا حتى وفاة الأخيرة في سنة 1578م، وبعد تخلصها من نفوذ محرمة أصبحت نوربانو هي سيدة الحرملك بلا منازع، وحاذت على نفوذ كبير داخل القصر العثماني وعلى يديها ترسخ نفوذ «الحريم» داخل الدولة واعتبر سلطة قائمة بذاته، ومن مكونات دوائر صنع القرار في الدولة العثمانية، وصارت لكلمة «الحرملك» نفس مفعول وقوة كلمة السلطان، ومنذ «نوربانو» لم يعد السلطان قادراً على اتخاذ أيّ قرار دون الرجوع إلى السلطانة الأم أو جاريته المفضلة أم ولي العهد، خاصة أنها استمرت تمارس نفوذها مع تولي ابنها مراد الثالث السلطنة، والذي استمر يحكم الدولة لأكثر من عشرين سنة، كان خاضعا في معظمها لوالدته نوربانو.

نفوذ السلطانة نوربانو تعاظم مع شخصية زوجها السلطان سليم الضعيفة، مقارنة مع شخصية والده السلطان سليمان القانوني الذي يعد آخر سلاطين الدولة العثمانية العظام، فعرف عن السلطان سليم إدمانه على الشراب مسرفا في تناول الخمور حتى لقب بـ«سليم مست» أي سليم السكير، وكان كما -يقول الدكتور عبد العزيز الشناوي مؤرخ الدولة العثمانية- مشهورا بارتكاب أنواع الرذائل، وقضى سليم معظم أوقاته داخل القصر يمارس هوايته في شرب الخمور، مطلقا العنان لشهواته البهيمية ومسامرا لحثالة من حاشيته، ولذلك يرى بعض المؤرخين أن هذا السلطان هو أسوأ السلاطين العثمانيين، وأنه البداية الحقيقية لاضمحلال الدولة العثمانية، وأنه أول من يستحق وصف «التنبل»، وعلى رأس السلاطين التنابلة الذين لا عمل لهم إلا اقتناص المتعة الشرعية وغير الشرعية، تاركا سيدات القصر ووزراءه ليقمن بإدارة شؤون الدولة بدلا منه.

ولم يذهب السلطان سليم إلى ساحة القتال أبدا، مع أن عهده شهد إرسال حملة عسكرية لإعادة السيطرة العثمانية على اليمن، وإرسال حملة أخرى لفتح قبرص، وذلك يرجع إلى أن قوة الدولة كانت لا تزال متأججة برغم ضعف ذلك السلطان، ويرى بعض المؤرخين أن أحد دوافعه لفتح قبرص هو أن مستشاره اليهودي الماجن جوزيف ناسي أقنعه بأن نبيذ قبرص هو أعظم نبيذ في العالم، مما جعل السلطان يهتف قائلا لصديقه اليهودي: «ستكون مَلكاً على قبرص»، وقد بلغ من حظوة ذلك اليهودي عند السلطان سليم الثاني أن أعطاه جزيرة ناكسوس بعد أن نجحت الدولة في الاستيلاء عليها، وقد تشجعت الدول الأوروبية بضعف هذا السلطان فتنادت إلى عقد حلف مقدس ضد الدولة العثمانية، وتولى بابا روما عقد الحلف بين ملك إسبانيا ودوق البندقية وعدد من الإمارات الأوروبية الصغيرة، وأرسل البابا بيوس الخامس إلى ملك إسبانيا فيليب الثاني قائلا: «لا توجد دولة في العالم المسيحي يمكنها أن تقف وحدها تجاه الدولة العثمانية، لذلك يجب على الدول المسيحية كافة، أن تتحد لتكسر الغرور التركي».

كان الأسطول العثماني على علم بالتحركات الأوروبية، لذلك جاب الأسطول العثماني شرق البحر المتوسط بحثا عن أسطول الدول المتحالفة، واحتاج الأسطول العثماني إلى السلطان ليبث روح الجهاد في رجاله، لكنه فضل الاستماع إلى نصيحة الصدر الأعظم محمد باشا والوزراء ورجاء «نوربانو» بعدم الخروج، بذلك فقد رجال الأسطول حماسهم للقتال، خاصة أن قادة الأسطول كانوا من متوسطي الكفاءة ولم يكونوا على دراية كافية بفنون البحر، وهو ما اتضح في قرارات الوزير برتو باشا، الذي صدرت الأوامر بقيادته للأسطول العثماني، حيث أمر بوضع قوات الأسطول الرئيسية في ميناء ليبانتو بالقرب من خليج كورنثة ببلاد اليونان، وعندما بدأت طلائع الأسطول الصليبي تظهر، طلب قادة الأسطول العثماني من قائدهم الأعلى برتو باشا الاستماع لنصائحهم بما لهم من خبرة في قتال البحر، بمغادرة الساحل والدخول إلى المياه العميقة من أجل إعطاء السفن العثمانية القدرة على المناورة البحرية، إلا أنه رفض الاستماع إطلاقا، وقال بعد أن أعماه الغرور: «أيّ كلب هو ذلك الكافر حتى نخافه؟!»، مضيفا: «إني لا أخشى على منصبي ولا على رأسي، إن الأوامر الواردة من الديوان تشير إلى الهجوم، ولا ضير من نقص خمسة أو عشرة أشخاص من كل سفينة، ألا توجد غيرة على الإسلام، ألا يصان شرف البادشاه»، حاول أولوج علي باشا أحد أهم البحارة العثمانيين إقناع برتو باشا وحاول استصراخ من حوله قائلا: «أين الذين حاربوا مع خير الدين باشا وطرغدجه باشا، لماذا لا يتكلمون، هل يمكن أن تكون حرب بحرية في الساحل؟!».

دارت معركة ليبانتو البحرية التي تعد علامة من علامات العصور الوسطى، وانتهت بهزيمة الأسطول العثماني باستثناء الجناح الأيمن الذي قاده أولوج باشا ولم يخسر أي سفينة، ورغم أن الخسائر كانت هائلة في الطرفين، وأن الدولة العثمانية لم تخسر أيّ أرض كسبتها في الحروب السابقة، فإن الخسارة المعنوية كانت الأشد إيلاما للعسكرية العثمانية وسمعة إسطنبول في أوروبا، فقد زالت عن الخلافة العثمانية لأول مرة هيبة الدولة التي لا تقهر، وثبتت فعليا إمكانية قهرها بمزيد من الجهد، أما الخسائر المادية فاستطاعت الدولة العثمانية، التي تمتعت برفاهية خرافية وقتها، أن تعيدها من خلال إعادة بناء أسطول جديد في أقل من سنة.

ولكي يعاقب نفسه على الهزيمة اعتزل الوزير برتو باشا الحياة السياسية، فيما كافأ السلطان سليم أولوج علي باشا الذي أظهر كفاءة ودراية بحرية نادرة بأن كلفه بقيادة الأساطيل العثمانية كلها وعينه ناظرا (وزيرا) للبحرية، وغير لقبه إلى «قيليج علي» أي علي القاطع، وثبت علي باشا الوجود العثماني في قبرص كما استطاع تحرير تونس من الغزو الإسباني.

كان على السلطان سليم أن يتحرك بجدية لكنه فضل أن يترك زمام الأمور في يد الصدر الأعظم محمد باشا صوقوللو الذي كان؛ من حسن حظ الدولة العثمانية، قائدا بارعا، أما السلطان فأسلم قياده لحبيبة قلبه نوربانو، ولم يعد يشاهد في مجالس رجال الدولة، واقتصرت حياته على ملازمة عشق حياته في الحرملك لا يكاد يخرج إلا بعد إلحاح من الصدر الأعظم حتى يطمئن الرعية أنه مازال على قيد الحياة.

ما يوضح طبيعة الاختلاف في الشخصية بين السلطان سليمان القانوني وولده السلطان سليم الثاني، أن الأول مات وهو يقود الجيش العثماني المحاصر لإحدى القلاع النمساوية وقد تجاوز السبعين من عمره، في حين مات السلطان سليم إثر سقوطه جراء انزلاق قدمه أثناء استحمامه في حمامه في قصر الباب العالي، توفى بعد عدة أيام من هذه الحادثة بسبب نزيف دماغي، في 15 ديسمبر سنة 1574، وهو في الـ50 من عمره، بعد أن دامت سلطنته 8 سنوات و3 أشهر و8 أيام، وتوفى في نفس عمر جده السلطان سليم الأول، ولم تتجاوز فترة سلطنة سليم الأول فترة حفيده سليم الثاني إلا 50 يوما فقط، أوجه الشبه بينهما تتوقف عند هذا الحد، فسليم الثاني لم يكن عسكريا كجده سليم الأول أو والده سليمان القانوني، فرغم مشاركته في عدد من غزوات والده السلطان سليمان، فإنه منذ توليه السلطنة لم يخرج على رأس قواته أبدا في سابقة هي الأولى منذ تأسيس الدولة العثمانية، كما أنه يعد أول سلطان عثماني يترك إدارة الدولة لصدره الأعظم، مما سيكون له أثره الخطير على مصير الدولة العثمانية.

كان السلطان سليم، أول سلطان يولد في إسطنبول، وهو كذلك أول سلطان يموت في العاصمة العثمانية، ودفن في فناء جامع أيا صوفيا في قبر من تصميم المعماري الكبير سنان باشا، وكان محبا للخمور، يتقن الشعر، حتى قيل إن أجمل شعر في الأدب التركي كله، يرجع إلى السلطان سليم في قوله:

«نحن بلبل يشكو من حرقة نار الفراق لو مرت ريح الصبا بحدائق أورادنا لانقلبت نارا»

كان ولي العهد الأمير مراد أولو شهزاده واليا على مانيسا عندما وصله نبأ وفاة والده، على الفور توجه إلى إسطنبول ليجلس على العرش، بناء على استدعاء من والدته «نوربانو» خاصكي سلطان، كان مراد الثالث واليا على آقشهر مدة 3 سنوات، ثم ما يقرب من 14 سنة واليا على مانيسا، ثم وليا للعهد منذ جلوس والده على العرش العثماني، وبوصوله إلى إسطنبول للجلوس على عرش السلطنة، صعد نفوذ «نوربانو» إلى الذروة وحصلت على لقب «السلطانة الأم» رسميا، واستعادت أمجاد السلطانة حفصة خاتون من جديد، لتمارس نفوذا غير مسبوق.

 الانكشارية

الإنكشارية (من التركية العثمانية يني جري، التي تعني الجنود الجدد) وهي الفرق الخاصة وعماد الجيش العثماني، نشأت مع بدايات الدولة في القرن الرابع عشر الميلادي، وكانت فلسفة هذه الفرق العسكرية برمجة أسرى الحروب من الغلمان والشباب وإحداث قطيعة بينهم وبين أصولهم، وتربيتهم تربية إسلامية، على أن يكون السلطان والدهم الروحي، كما تكون الحرب صنعتهم الوحيدة، وتطور أسلوب جمع أفراد الإنكشارية لدى سلاطين بني عثمان لاحقاً، إذ باتوا يؤخذون من الأسر المسيحية وفق مبدأ التجنيد الذي سمي بـ»الدوشرمه» أو «الدويشرمه»، في عملية جمع دورية تجري كل سنة أو ثلاث أو أربع أو خمس، لتجلب عناصر إنكشارية جديدة يقارب عددها من 8 إلى 12 ألف فرد.

وقد بدأت ظاهرة تدخل الإنكشارية في سياسة الدولة منذ عهد مبكر في تاريخ الدولة العثمانية، غير أن هذا التدخل ظل تحت السيطرة في عهد سلاطين الدولة العظام؛ أمثال محمد الفاتح وسليم الأول وسليمان القانوني لأن قوة السلطان كانت تكبح جماح هؤلاء، حتى إذا بدأت الدولة في الضعف والانكماش بدأ نفوذ الإنكشاريين في الظهور للعلن، فكانوا يعزلون السلاطين ويقتلون بعضهم، ولم يكن سلاطين الدولة في فترة ضعفها يملكون دفع هذه الشرور أو الوقوف في وجهها، ولم يستطع السلطان أحمد الوقوف أمام تعاظم قوة سلطان فرق الإنكشارية التي اعتادت السلب والنهب في عاصمة الدولة العثمانية بلا رقيب ولا حسيب.

back to top