زاهي وهبي في «تعريف القبلة»

نشر في 04-01-2013 | 00:01
آخر تحديث 04-01-2013 | 00:01
No Image Caption
قبلة على جبين الشعر... جديدة

في جديده «تعريف القبلة» يبدو الشاعر اللبناني زاهي وهبي مصرّاً على الاستمرار في استيطان قلبه، ومجدّداً انتسابه إلى الحبّ بكلّ ما فيه من رَجُل يتوق إلى امرأة، غير أنّه ترك في صدر جملته الشعريّة مساحة لأوجاع إنسانيّة تنتمي أيضاً إلى حدائق الحبّ الكثيرة.
قد تكون القُبلة للحبّ قِبلته. فهي اليد تسكن شفتين وتفتح باب الجسد. وهي الألِف التي تصل نارُها إلى الياء مروراً بالحروف، الموشومة بالشّوق، كلّها. وتشهد القبلة أنّ الإنسان، عاشقاً، يستطيع أن يكون كلّه مقيماً في شفتيه حين يكون في حضرة من يعشق.

لم يعبر الشاعر زاهي وهبي الأربعين من دون أن يقف تحت قناطر العمر ليعلن أنّه لا يزال على قيد الحبّ والجسد، وأن شبكة نزقه لا تزال تغوص على سمك الأنوثة الصغير في عمق أعماق اللذة، يقول في «تعريف القبلة»: «بعد الأربعين.../ عن برق الجسد أكتب/ عن رياح الخصر وجنون الركبتين/ عن أفق السرّة ومكر شفاهٍ مدرّبة/ لن أترجّل عن حصان الغيب/ لن أهبط سلالم الرغبة»... إنّه نجا بجسده من لعنة العمر، وأبعد العين عنه بتعويذة الرغبة وخرزتها الزرقاء، فكأنّه لا يريد أن يعترف بأنّ «الأربعين» رأس الهرم، وكأنّه ينزل صعوداً، عاثراً على مفتاح الحكمة التي تمدّه كلّ ليل بنجمة، داعياً كلاًّ منّا إلى البحث عن نجمته: «لن أهب حكمتي لأحد / ليعثر كلٌّ على نجمته». غير أنّ زاهي في قصيدة «تعب الليل» يتهيّب العمر، ويعترف بأن نسغ الوقت ذهب به الوقت، وبأنّ الضجر حلّ ضيفاً ثقيلاً على السنين: «حطبٌ حطبٌ، هذا الوقت حطب/ والأيّام مواقد/ من عرائش سنيني تتدلّى عناقيد الضّجر»... وتمسك الكآبة زاهي من يده التي تؤلمه وتقف وإيّاه على شرفتها الطاعنة في الهدوء وتسمعه ما لا يُسمع: «... دمعتي حجر/ ذاكرتي قصب/ أسمع صفير العمر/ رنين ثوانٍ على نحاس الدّهر».

وإذا كان الشاعر الأربعينيّ يعترف بما للعمر من ثقل، فإنّه يعود في قصيدة «غافلتني الينابيع» إلى إيقاعه الأوّل ويلوذ بالحلم متحدّياً به العمر: «ربيعي فيّ/ بلغتُ الأربعين ولم يغزُ الشيب أحلامي»... إلاّ أنّه لم يعد مرتدياً جسده على امتداد الوقت إنّما يسارع إلى ارتدائه في حضرة امرأة تحرّضه على أنّه لا يزال الفارس الممتطي حصان الجسد: «أراكِ أرتدي جسداً وقبّعة»... وفي قصيدة «أتحصّن بك» يتّضح أنّ مفتاح حكمة زاهي ليس سوى المرأة التي تمسح بمنديلها العاشق غبارَ الوقت عن مراياه، وبقبلة تجعل للشباب «ملحَقاً» وتنجز أشهى الإضافات إليه: «بقبلة تجدّدين شبابي/ وبلفتة واحدة/ أعود مراهقاً نزقاً في وعر الرّغبات»...

وشم الفرح

الإنسان الكثير في زاهي وهبي دائم الحضور أمام الحياة التي تستكثر على الإنسان ابتسامة عابرة ليس لها أن تترك وشم الفرح على الشفاه، كما في قصيدة «مصعد إلى الله» وقد أهداها الشاعر إلى صديقته ر.س. وإلى كلّ المصابات بسرطان الثدي. يتضامن وهبي مع صديقته، ويصلّي ارتجاف شفتيها وارتفاع يديها مؤمناً بأنّ الثدي كالشمس يغيب ليعود: «لثدييك قدرة الشمس على العودة/ ... شفتاك ترتجفان كصلاة غائب/ يداكِ ترفعان سقفاً من دعاء». وإذا كان من مداواة فالحبّ يضع يده في يد الصّبر ويتعاونان ليجترحا الدواء: «نداويكِ بعطر القبلات/ برائحة الصّبر في ثيابك». وزاهي الشاهد على الكيمياء والأشعّة والشحوب والأرق يراهن على طائر حميم عند الموجوعين واسمه: الرجاء، فحين يضيق صدر الأرض يحفّ المتألّم عينيه على أزرق السماء طمعاً بأعجوبة هي لا تقيم إلاّ في أصابع الله: «رجاؤكِ مستجاب/ أيّتها الممتحَنَة/ لكِ الله... يُكتبُ لك عمر جديد/ تعودين غزالة في براري الأحلام»...

وفي قصيدة «يدان مبصرتان» يواصل زاهي وهبي رفع قبّعة قلمه لألم الإنسان مهدياً قصيدته إلى كفيفة، يرغب إلى راحتها ورقة حظّ، وإلى وجهها يوم سعد، بينما هي في ظلمتها تقرأ ألفباء الغيب وتصطاد بعينيها ما لا يُرى: «راحتُكِ ورقة حظّي/ وجهكِ يوم السعد/ أمس ألفيتك تقرئين كفّ المياه/ تنبئين الغيب بما يضمره»... ويحاول الشاعر عطاءً فيحمل إلى كفيفته على بساط صوته ألف نيسان ونيسان: «أستميحكِ حبّاً/ مُودعاً في مسامعك مليون حديقة»، برغم أنّها تستعيض باليدين عن العينين مستعينة على ظلمة الأيام وظلمها ببصيرتها: «يداك مبصرتان/ تفسّران مفردات جلدي.../ بصيرتُكِ شرفة/ والأيّام طوع قلبِكِ».

أمّا طواحين الحبّ فهي تطرّز جديد وهبي بضجيجها الجميل، وإليها يسوق مياه مفرداته ولمعان معانيه. وفي قصيدة «أحبّ الحبّ» يدوّن كلّ عوارض المحبّين بالتفاصيل الصغيرة: «أحبّ الحبّ / وما يفعله في العاشق الملتاع/ أرق الليالي المثمر/ تعباً أسود تحت العينين/ استيقاظاً قبل الأوان/ نهارات تطول ترقّباً لمساءات العناق/ تلعثم الجملة الأولى»... ويعرف الشاعر العاشق كيف يغسل هذه التفاصيل بماء القصيدة ويسقيها من إبريق الخيال دون أن تفقد انتماءها إلى الواقع. وفي هذا السياق يتردّد القارئ أمام جملة زاهي، أهو في حضرة خيال العاطفة أم عاطفة الخيال، فخيال زاهي طيّارة ورق يطيّرها قلبه وتبقى مشدودة بخيطها إليه.

وللقبلة مع زاهي في قصيدة «تعريف القبلة» حكاية خبير، فيرصدها في أوضاعها كافة ناظماً حلاواتها في عقد لغويّ شهيّ: «... متفتّحة كجمرة وحشيّة/ في ركن مظلم/ أو خلف باب/ على أريكة جلوس/ أو وقوفاً قبالة مرآة»... وهو بذلك يكتب نشيد القبلة التي تبدأ من المدرسة وتستمرّ فلا تنجو جغرافية منها ولا زمان لتجرّ وراءها تاريخاً يركب عربة فريدة: خشبها من شجرة اللذة وأحصنتها شفاه: «في باص مدرسيّ او في حافلة مهجورة/ موشّاة بالضباب»... ومن القبلة إلى قصيدة «شفتان» فيكمل زاهي إضاءته أقمار اللذة في سماء الفم المثقل بالأنوثة والجحيم، ويحرص على أن الشفتين: «معصرة القلب والجوارح»، وأنّهما توحُّش الزهر وأَنْعَمُ الصّوّان وهما أبو النار وأمّها قبل الصوّان: «نمريّتان زهريّتان/ ترشحان كبريتاً لا يُرى/ تقدحان شرراً كلّما تلامستا/ في بريق نشوتهما تتمرّيان».

وكم هو زاهي وهبي معترف بما للمرأة من كمال إنسانيّ في قصيدة «أن تكونها» وكأنّه يقول: ذروة كمال الرّجل أن يكون المرأة بأبعادها الإنسانية: «أن تكونها.../ أن تدع عنك خشونة مكتسبة/ وعبوساً لا يجدي/ تبتسم كما يليق بعاشق نبيل/ تسافر طائراً أخفّ من ثقل الجاذبية/ لا تعود ذكورتك عبئاً/ ولا فروسيّتك استبداداً»... يمدّ زاهي يده في هذه القصيدة إلى أعماق الرّجل العربي، ويدعوه إلى رجولة نظيفة، وفحولة بيضاء، ووجه تفتحه المرأة بنظرة...

على امتداد جديده «تعريف القبلة» يتجلّى زاهي وهبي شاعراً سخيّاً كلامٍ على غير هدر لغويّ، وخبير مجاز فلا يدع خياله يرتكب معصية الطلسمة، ولا يترك كلمته بلا منديل ضباب، وصاحب قلب متفرّغ للحبّ والألم، ولا وقت لديه ليخفُقَ لحامله.

زاهي في «تعريف القبلة» ترك قبلة على جبين الشعر... جديدة.

back to top