كتاب كان يجب أن تقرأه إدارة بوش!

نشر في 16-03-2013
آخر تحديث 16-03-2013 | 00:01
يروي كتاب ديفيد فرومكن القصة المأساوية عن أن الدبلوماسيين البريطانيين والفرنسيين في نهاية الحرب العالمية الثانية أعادوا رسم خريطة الشرق الأوسط بطرق كان من المؤكد أنها ستؤدي إلى صراعات طوال عقود أو ربما قرون.
 سلايت في السادس والعشرين من فبراير عام 2003، ألقى الرئيس جورج بوش الابن خطاباً في معهدAmerican Enterprise Institute، محدداً فيه ما اعتبره الرابط بين الحرية والأمن في الشرق الأوسط. ذكر: "يستطيع العراق المحرَّر أن يُظهر قدرة الحرية على تحويل تلك المنطقة المهمة"، وذلك بتشكيله "مثالاً بارزاً وملهماً... لأمم أخرى في المنطقة".

غزا بوش العراق بعد ثلاثة أسابيع، لكن نشر الحرية لم يكن الدافع وراء هذه الحرب، إلا أنه اعتُبر تأثيراً جانبياً مشجعاً، ولم تكن هذه وجهة نظر بوش وحده، فقد أعلن نائب وزير الدفاع في إدارة بوش، بول ولفوفيتز، في الخريف السابق أن الشرارة التي يولدها تغيير النظام "ستكون بالغة الأهمية بالنسبة إلى العراق... وستلقي بظل كبير على المنطقة، بدءاً من سورية وإيران وصولاً إلى سائر أرجاء العالم العربي".

بعد عشر سنوات، تبيّن جلياً أن حرب العراق ألقت "بظل كبير" حقاً، لكنه كان أكثر سوداوية من الأوهام التي توقعتها السياسة الخارجية الأميركية يومذاك. اعتقد بوش أن الحرية حالة الإنسان الطبيعية: إذا رفعنا الغطاء القاسي الذي استخدمه الحاكم المستبد لقمع الشعب، تدفقت الحرية كنافورة ماء، ولكن بعد الإطاحة بصدام حسين، كان الأمر الوحيد الذي تحرر الكره الأعمى الذي قمعته عقود من الحكم المستبد وأبقته تحت الرماد.

حُذّر بوش مما سيحدث، فقبل شهرين من الغزو، خلال أسبوع مباراة "السوبر بول"، زار ثلاثة منفيين عراقيين بارزين البيت الأبيض، فعبروا عن امتنانهم وحماستهم بشأن الحملة العسكرية الوشيكة. ولكن خلال مرحلة ما من ذلك الاجتماع، شددوا على ضرورة أن تكبح القوات الأميركية التوتر الطائفي الذي قد يعيد إشعال الصراع بين السنّة والشيعة عقب الإطاحة بصدام. فنظر بوش إلى هؤلاء المنفيين كما لو أنهم يتحدثون لغة غريبة غير مفهومة. ثم أمضوا ما تبقى من الوقت في التوضيح له أن العراق يضم نوعَين من العرب، واللذين يعود الصراع بينهما إلى قرون مضت. وقد بدا جليّاً أن بوش لم يسبق أن سمع بأمر مماثل.

حظي عدد من مستشاري بوش ببعض المعلومات عن هذه المسألة، إلا أنها كانت بعيدة كل البعد عن مقدار المعلومات التي يجب أن يمتلكها مَن ينوون شن حرب على العراق وإصلاح كامل النظام السياسي في هذا البلد.

لا تُعتبر هذه المعلومات علم ذرة، بل معلومات تاريخية بسيطة، وما كان عليهم للاطلاع على التاريخ إلا قراءة سجلات كبيرة مملة جمعتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أو وزارة الخارجية (مع أن ذلك كان سيفي بالغرض). كان يكفي أن يقرؤوا كتاباً واحداً يخبرهم بكل ما يحتاجون إلى معرفته في هذا الصدد: كتاب ديفيد فرومكن A Peace to End All Peace (سلام لإنهاء كل سلام)، الذي صدر عام 1989 وحقق أعلى المبيعات.

تحت العنوان الفرعي "سقوط السلطنة العثمانية وإنشاء شرق أوسط عصري"، يروي كتاب فرومكن القصة المأساوية عن أن الدبلوماسيين البريطانيين والفرنسيين نحو نهاية الحرب العالمية الثانية أعادوا رسم خريطة الشرق الأوسط بطرق كان من المؤكد أنها ستؤدي إلى صراعات طوال عقود أو ربما قرون.

قبل الحرب العالمية الثانية، ما كان للدول التي نعرفها اليوم باسم العراق، وسورية، ولبنان، والأردن، والمملكة العربية السعودية، وإسرائيل، وتركيا أي وجود. كانت كلها جزءاً من السلطنة العثمانية التي حكمت المنطقة طوال 500 سنة. ولكن مع انهيار هذه السلطنة، وضع البريطانيون والفرنسيون خططاً لربط هذه المناطق بإمبراطورياتهم. فصيغت أسماء الدول، رُسمت الحدود، اختير زعماء القبائل أو أعطوا الوعود مقابل طاعتهم. ولكن تبين لاحقاً أن الحرب أنهكت البريطانيين والفرنسيين، فنفدت خزائنهم وعيل صبر شعبهم. وعلى مدى العقدين التاليين، انهارت هاتان الإمبراطوريتان. لكن الحدود التي رسمتاها في الشرق الأوسط استمرت.

يُعتبر الجزء الأكبر مما يحدث في الشرق الأوسط اليوم نتيجة انهيار هذا النظام، فعندما أطاح الجيش الأميركي بصدام حسين، شكّلت هذه العملية قفزة، إنما لم يتضح في البداية في أي اتجاه. ولكن سرعان ما تبيّن أن الإدارة الأميركية لم تضع أي خطط للعراق ما بعد الحرب، ويعود ذلك في جزء منه إلى أن بوش لم يرَ أي ضرورة لذلك (فالديمقراطية ستفرض ذاتها تلقائياً ما إن ينهار النظام المستبد). كذلك لم يرغب وزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد وكبار القادة العسكريين في الخوض في مسألة "بناء الأمة". وقد جاءت الضربة القاضية عندما أصدر الحاكم الأميركي في العراق، بول بريمر، أمرَيه الشهيرين. فحل الجيش العراقي ومنع أعضاء حزب البعث من تبوء مناصب حكومية. وهكذا انهار النظام بالكامل. وفي هذا الفراغ ظهرت حركة التمرد، التي لم تتألف يوماً من ثوار موحدين، بل من عدد من المجموعات التي تكن الكثير من الكره وتملك طموحات واسعة. فقد رفض بعض هذه المجموعات الحكومة المؤقتة وبعضها الآخر المحتل الأميركي أو حتى بعضها بعضاً. فاشتد القتال وتوسع، ولم يكن لدى القادة الأميركيين (خلال سنوات الاحتلال الثلاث الأولى على الأقل) أدنى فكرة عما يجب القيام به. وهكذا تفاقم الصراع وتحول إلى حرب أهلية.

تنشأ في هذا الإطار الأسئلة التالية: إلى أي مدى سيتفشى هذا الوضع؟ هل تندلع الحرب الأهلية في دولة اصطناعية تلو الأخرى؟ هل يمتد الوضع في سورية إلى لبنان والأردن ثم المملكة العربية السعودية؟ هل يحمل السنّة أو الشيعة أو كلاهما الصراع الطائفي عبر الحدود إلى درجة تنهار معها كل حدود؟ وإذا حدث ذلك، هل تُرسم في مرحلة ما حدود جديدة تتماشى مع عدد من الانقسامات الطائفية "الطبيعية"؟

توقع ديفيد فرومكن كل هذه التطورات حين وضع A Peace to End All Peace قبل نحو ربع قرن، فقد أشار إلى أن المعمعة الوشيكة آنذاك ستستمر فترة طويلة، مشبهاً ذلك الوضع بحالة أوروبا خلال القرن الخامس، "عندما أدى انهيار سلطة الإمبراطورية الرومانية في الغرب إلى أزمة حضارة اضطر معها رعاياها إلى ابتكار نظام سياسي جديد خاص بهم". وتابع فرومكن:

"احتاجت أوروبا إلى ألف وخمسمئة سنة لتحل أزمة الهوية الاجتماعية والسياسية ما بعد الإمبراطورية الرومانية: مرت ألف سنة تقريباً قبل أن ترضى بشكل الأمة-الدولة كنظام سياسي، وخمسمئة سنة أخرى لتقرر أي أمم قد تكون دولاً، قد يتضح أن الأزمة المتواصلة في الشرق الأوسط اليوم أقل عمقاً وديمومة، لكن محورها هو عينه: كيفية تجمع شعوب متنوعة لإنشاء هويات سياسية جديدة لأنفسهم بعد انهيار النظام الإمبراطوري البالي الذي اعتادوه".

يكمن الخطر في أن تؤدي هذه النظرة الواسعة إلى السياسات العالمية إلى السلبية: تبدو تفاعلات الصراع بالغة القوة وعدائية، ما يجعل التدخل الخارجي أو حتى الاهتمام الخارجي عديم الجدوى. لكن الوضع يمكن أن يكون مختلفاً، فمن الممكن تغيير التاريخ. يستطيع قادة الأمم اتخاذ خطوات والتحالف مع قادة آخرين بهدف التخفيف من بؤس البشر، وضبط معدل العنف، والحؤول دون ظهور إمبراطورية جديدة قد تهدد أمننا وهي بكامل قوتها.

يحمل كتاب فرومكن درساً واضحاً: ثمة حدود لما نستطيع نحن، خصوصاً نحن القوى العلمانية الخارجية، إنجازه. ويشير الدرس الثاني إلى أن قادتنا، إذا أرادوا التدخل في مصير بلد آخر (لا في الشرق الأوسط فحسب)، يجب أن يملكوا قبل ذلك مقداراً من الفهم لسياسات هذا البلد وتاريخه وثقافته، ما يعني أن من الضروري أن يكوِّنوا مفهوماً ما عن عواقب أعمالهم. ولا شك أننا نحن والعالم بأسره كنا سنبدو أفضل حالاً، لو أن بعض الأشخاص في إدارة بوش قرأوا كتاباً واحداً.

* فريد كابلان | Fred Kaplan

back to top