الروائية إيمان حميدان: لا يوجد قارئ عربي بالمفهوم الواسع للقراءة

نشر في 13-09-2013 | 00:02
آخر تحديث 13-09-2013 | 00:02
إيمان حميدان روائية لبنانية لها لغتها الخاصة وسردها الدافئ، ترجمت رواياتها إلى لغات أوروبية من بينها الإنكليزية والفرنسية والألمانية، تعكف أخيراً على كتابة رواية في بلاد المنفى من خلال تقنية جديدة. معها هذا الحوار.
ما شعورك وأنت اللبنانية حين تطالعين روايتك مترجمة إلى اللغات الأوروبية؟

طبعاَ، أشعر بالفرح والاعتزاز لأن عملي وجد طريقه إلى العالم ليس عبر اللغة العربية فحسب، إنما اللغات العالمية أيضاً من إنكليزية وفرنسية وألمانية إضافة إلى لغات أوروبية أخرى. نحن نكتب لنُقرأ والكتابة ليست متجهة إلى الداخل فحسب بل هي قبل كل شيء حوار مع العالم الخارجي بامتداداته الثقافية ولغاته المتعددة، وهي تواصل إنساني يطمح إليه كل مبدع، ولا يتم هذا التواصل خارج القراءة. أتصور أن القراءة هي الجهة الأخرى المقابلة للكتابة. نحن نكتب ونقرأ وثمة متعة لا تقاس في هذين العملين، متعة في فهم الآخر وسبر غور ذاته الإنسانية إلى أي لغة أو مكان انتمى. والترجمة تساهم بشكل كبير في هذا التواصل المنشود.

ما الذي يدفع دور النشر الغربية إلى ترجمة روايتك، هل المضمون أم العلاقات أم الفكرة؟ وما الفرق بين دور النشر العربية والدور الغربية لناحية المردود المادي للكاتب؟

جيد أنك سألت عن روايتي بالذات وليس عن الترجمة عموماً، ذلك أن التعميم يصعب هنا وكل كاتب أو كاتبة له أو لها تجربة شخصية وخاصة. للحقيقة، لا أستطيع أن أجيب بالنيابة عن دور النشر، ولكن بإمكاني أن أخبرك قصصاً طريفة حصلت معي وكانت بداية ترجمات أعمالي. قصة  ترجمة كتابي الأول والثاني فعلاً جميلة ومحببة إلى قلبي ودائماً أحب أن أحكيها للأدباء الشباب. عام 1999، يرن هاتف بيتي وأنا كنت في المطبخ أعدّ غداء العائلة، حين أجبت سمعت صوت سيدة تتكلم العربية بلهجة شامية خالصة لتعرف عن نفسها أنها مترجمة فرنسية واسمها فاليري كروزو وأنها اشترت روايتي «باء مثل بيت مثل بيروت» من مكتبة معهد «الانماء العربي» في باريس وأنها تتمنى أن تترجمها، لكنها تريد موافقتي أولاً. هكذا ترجمت روايتي الأولى وبعد نجاحها في الفرنسية ترجمت إلى أربع أو خمس لغات أخرى. قد تكون قصة ترجمة روايتي الثانية «توت بري» إلى الألمانية شبيهة بقصة روايتي الأولى، ذلك أنه وصلتني عبر البريد الإلكتروني رسالة من مترجم ألماني مشهور عرفني بنفسه وقال لي إنه قرأ «توت بري» واقترح  على دار النشر التي يتعامل معها أن تترجمها وتنشرها. المترجم هو هارتموت فايندريش، أحد أشهر المترجمين الألمان، التزاماته المتراكمة حينها دفعت دار النشر إلى إعطاء الرواية إلى مترجمة أخرى لا تقل أهمية عنه هي كريستينا شتوك. وبعد سنة ونصف السنة، ترجم فايندريش «باء مثل بيت مثل بيروت». أستطيع أن أقول عموماً إن روايتي الأولى فتحت الباب بعد ذلك لرواياتي الأخرى أن تترجم. هنا يمكن لنا أن نتحدث عن علاقة ما يبنيها الكاتب مع دار النشر وهي تقوم على احترام الدار لعمل الكاتب ولمضمون ما يكتب ولجديته والتزامه نحو كتابته، في المقابل يحترم الكاتب أيضاً العلاقة هذه من حيث الالتزام بمواعيد تسليم النص والتقيد بحيثيات العقد المبرم بينهما.

أما الفرق بين دور النشر العربية والغربية من حيث المردود المادي، فللحقيقة ليس شاسعاً بالضروري بحيث يدفعنا إلى التحدث بجدية عن فرق ما. لنقل إن الكتابة الإبداعية في مجملها نادراً ما تكون المورد الوحيد للكاتب إلا إذا حصل الأخير على جوائز عدة تسمح له بعيش كريم، أو إذا كتابه «ضرب» كما يقولون وأصبح الأكثر مبيعاً عالمياً، وليس محلياً فحسب. أعتقد أن بعض الدور العربية لا يقل احترافاً ومهنية عن الدور الأجنبية، إلا أن المشكلة الحقيقية هي في القارئ. لا يوجد قارئ عربي بالمفهوم الواسع للقراءة، أي بمعنى أنه يحدد حياة كتاب وسيرورته. ثمة ماكينة ثقافية أو قريبة من السلطات الثقافية وهي التي اخترقت الجو الثقافي وسممته، إن من حيث الجوائز المغطاة بتروليا أو من حيث السوق والنقد الأدبي الذي هو سوق أيضاً. أود هنا أن أعطي مثالاً بسيطا عن الحياة الأدبية في ألمانيا حيث تُقام شهرياً جائزة أفضل قائمة كتب، وصاحب القرار مجموعة تختلف من مدينة إلى أخرى وتتباين أذواقها أيضاً. ثمة ذائقة ثقافية بعيدة كل البعد عن تأثير السلطة المالية والسياسية، وهذا للأسف غير موجود في العالم العربي حيث قد يحتل كاتب أو كاتبة ما صدارة أي نشاط ثقافي بسبب القرب أو العلاقة الخاصة مع ممولي النشاط، من دون الاخذ بعين الاعتبار مستوى العمل المقدم!

في حال كتبت روايتك في الأساس بلغة أجنبية، هل كان مضمونها وجرأتها سيختلفان؟

لا أعلم. لا أستطيع الإجابة. أعتقد أن الكتابة بلغة أجنبية لها حسناتها ولكن لها الكثير من السلبيات ايضاً. قد تسمح لنا لغة أخرى بشعور أقل إزاء سلطة الرقيب اللغوي أو الثقافي ولكنها ستحد بالتأكيد من تلك المساحة التي لا حدود لها التي يقيم فيها خيالنا اللغوي والثقافي... من قصص وتاريخ جماعي وأساطير وأمثال وكلمات وتعابير تعطي لأحاسيسنا شكلاً وقالباً... سيفقد النص الكثير من روحه إذا كتبنا بلغة أخرى. ثمة أيضاً جانب المشاكسة اللغوية التي يعمد إليها المبدع وذلك لكسر اللغة الرتيبة المعتادة وتشكيل لغة شخصية خاصة وذات نبرة جديدة طازجة. هي معركة مع التقليد ومن الصعب خوضها مع لغة بعيدة عن تاريخنا وجلدنا إلا بعد سنوات لا تحصى من التعامل مع هذه اللغة الثانية. هذا هو رأيي. باختصار، من المستحيل أن نخرج بعمل إبداعي مميز إذا كتبنا أدباً بلغة تختلف عن لغة أحلامنا أو لاوعينا. هنا أعني فعلاً وحرفياً ما أقول.

ماذا أضافت إليك الإقامة في فرنسا وأوروبا في هذه المرحلة. هل الغربة تعطي دفعاً آخر للكتابة والأصوات الروائية، وأي شكل روائي ستكتبين من خلاله روايتك المقبلة؟

تتغير علاقتي مع المكان دائماً. ومفهوم الهجرة والإقامة خارج وطن ما يتغير أيضاً وله معنى بالنسبة إلي مختلف تماماً عما لدى الأدباء الذين ينتمون إلى أجيال سابقة. أذكر خلال الثمانينيات أثناء دراستي الجامعية في علم الاجتماع ومن ثم الإنثروبولوجيا، كنت دائماً أتناقش مع أستاذي حول مفهوم الهوية والانتماء. كنت أردد أن لي هويات عدة تقوى واحدة على أخرى وفق الزمان والمكان والحدث، بمعنى أن هذه الهويات «سائلة» وغير ثابتة. لا أريد استعمال كلمة متحولة لأن هذا ليس قصدي هي ليست متحولة لكنها تتخذ أشكالاً مختلفة في اختلاف الزمان والمكان. هذا الحديث لا يعجب بالطبع أصحاب القوميات والوطنيات الذين اتخذوا من الخطاب الخشبي الذي لا يتغير رأسمالاً وحيداً لهم وابتلونا بوابل من الكتابة الخشبية التي اضطررنا إلى قراءتها.

ساعدتني تجربتي في أن أتعامل مع إقامتي في فرنسا، إلى جانب تنقلاتي الدائمة بين أوروبا وأميركا ولبنان، بشكل إيجابي لأنها تضيف الكثير إلى تجربتي الإبداعية وتعطي معنى مختلفاً لقلقي الوجودي الذي يبدو في الإقامة خارج الوطن والعائلة عارياً تماماً من أي أوهام، إلى درجة أنه كثير الحقيقة كثير الجمال. أكتب روايتي الرابعة الآن في فرنسا. أقول أحياناً أريد العودة إلى بيروت لزيارة مكتبة الجامعة الأميركية، لقراءة ارشيف ما يتعلق بروايتي... لكن أعترف في اليوم التالي أنني أستطيع أن أجد أي أرشيف أريد في أي مكتبة عامة في باريس، وما قراري بالعودة سوى شوق يفور من وقت إلى آخر ثم يغيب تحت وطأة اليومي ووقعه السريع.

الشكل الروائي الذي اعتمده راهناً متعدد الأصوات والأزمنة. ولا أعتقد أن هذا الأمر له علاقة بتنقلاتي ولا بإقامتي خارج لبنان. قد تأتي روايتي الخامسة التي بلورت خطوطها الأولى، وذلك حتى قبل انتهائي من الرواية التي بين يدي الآن، قد تأتي مختلفة من حيث الشكل الروائي ومتأثرة بتجربة حياتي الجديدة تلك.

هل اطلعت على الكتابات الجديدة في أوروبا وهل العالم العربي يواكب كل جديد في الغرب؟

عادة أقرأ بنهم وأطالع كتباً تعود الى أنواع أدبية عدة وألسنيات، فضلاً عن الدراسات الاجتماعية والإنثروبولوجية التي هي اختصاصي. ولا أتابع الكتب الصادرة حديثاً فحسب، بل أحيانا أجدني أعود إلى كتب قرأتها سابقاً. أعود برغبة تشبه رغبة القراءة الأولى، والكتاب الجيد دائماً نكتشف فيه صورة أو فكرة لم ننتبه لها في السابق. أقرأ راهناً رواية ج. ك. رولينغ The Casual Vacancy. أحاول عبر قراءة روايتها الجديدة، إخراج هذه الكاتبة من عالم هاري بوتر الذي وضعت نفسها فيه، حتى أصبح من الصعب على القارئ والناقد معاً الاستمتاع بقصة مختلفة للكاتبة رولينغ خارج أجواء هاري بوتر نهائياً.

أما رواية الكاتب الأميركي بول أوستر Sunset Park، وهو كاتبي المفضل، فسحرتني بالفعل.

رغم كل شيء ما زال لبنان، إلى حد ما، يواكب الإصدارات الجديدة وذلك بفضل الجو الثقافي الذي يسمح للغات مختلفة بالعيش والتنفس والتعبير والمساهمة في تشكيل هذا الجو. وأي كتاب يصل إلى لبنان يجد مطالعين له إن كان بالفرنسية أو بالإنكليزية. كذلك يجب ذكر حركة الترجمة في العالم العربي والتي نشطت في السنوات الأخيرة عبر مشاريع ترجمة ممولة خليجياً. لكن كما ذكرت سابقاً، تبقى القراءة ومشكلة القارئ أمراً واقعاً في غياب أي سياسة لدعم الكتاب وتشجيع المكتبات العامة أو رصد أي دعم مالي لإنشاء مكتبات خارج المدن الكبيرة، بحيث تشجع الشباب على إقامة علاقة مع الكتاب. هذه المشكلة تتفاقم في ظل الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة التي يعانيها ليس فقط لبنان ولكن العالم العربي بدرجة أولى، وتنسحب على الحياة الثقافية ودور النشر والمكتبات ومجمل الأنشطة المتعلقة بالكتاب في الوطن العربي كله. 

back to top