دورة التاريخ: نظرية ابن خلدون
منذ ستة قرون، اعتبر المفكر العربي ابن خلدون أن التاريخ يسير وفق دورات ثابتة: تدوم السلالة في العادة ثلاثة أجيال قبل أن يحين وقت الانحطاط بحسب رأيه. فينهار الهدف المشترك بين أتباع تلك السلالة إلى حين ظهور جماعة أخرى غير فاسدة، فتكون روابط التضامن بين أعضائها أقوى وتسعى إلى إنشاء سلالة جديدة. من ناحية معينة هذا ما حدث خلال الربيع العربي، وربما تستطيع نظرية ابن خلدون المساعدة على توقع ما سيحصل في المرحلة المقبلة. كيف؟ الإجابة في السطور التالية من The Economist.
لم تكن الأنظمة التي سقطت حديثاً في تونس ومصر واليمن وليبيا عبارة عن سلالات بمعنى الكلمة. لكن نشأ الشكل الاستبدادي في تلك الدول (وحتى في معظم الدول الأعضاء داخل جامعة الدول العربية) منذ ثلاثة أجيال تقريباً، حين كسب معظم الدول العربية استقلاله وبدأت الثروات الناجمة عن عائدات النفط تتزايد في مناطق عدة. كانت مصر، أكثر البلدان العربية اكتظاظاً، نموذجاً بارزاً في هذا المجال: أنشأ ضباط الجيش نظاماً استبدادياً بعد فرض سيطرتهم غداة تنفيذ انقلاب في عام 1952، فكان ذلك النظام فعلياً أشبه بسلالة من الجنود المتضامنين وقد صمد حتى عام 2011.صحيح أن الثورات العربية الأخيرة جعلت من الحكام (مثل الرئيس المصري حسني مبارك) محور الغضب الشعبي، لكن كان التحدي الفعلي الذي طبع الربيع العربي يتعلق بـ{السلالات» التي يمثّلها هؤلاء الحكام. سبق وسقطت أنظمة عدة وواجهت أنظمة أخرى اضطرابات كثيرة، من بينها عائلة آل خليفة الحاكمة في البحرين والنظام العلوي الحاكم في سورية. إذا افترضنا أن نظرية ابن خلدون عن دورة التاريخ صحيحة، فيمكن أن نتوقع استمرار موجة التغيير لفترة إضافية.
ستشهد الأردن تحديداً اضطرابات لافتة في عام 2013. يواجه الملك عبد الله الثاني، الذي سيبلغ 51 عاماً في شهر يناير، ارتفاعاً في حدة المطالب لتسليم السلطة فعلياً، لكن يفتقر عبد الله إلى الجاذبية التي أبقت والده حسين جالساً على العرش طوال خمسة عقود مضطربة. كذلك، تفتقر مملكته إلى الموارد والأموال التي يمكن أن تهدّئ الناخبين.أما الملك المغربي محمد السادس فلم يتمتع أي حاكم بالجرأة التي تحلى بها. فقد قرر هذا الأخير صياغة دستور توافقي وتعيين معارضة شبه إسلامية، ما ساهم في تخفيف حدة الاحتجاجات المتصاعدة في عام 2011. من دون القيام بخطوات مماثلة، قد تواجه الأردن والكويت وضعاً مضطرباً في عام 2013.وعد النظامان في الجزائر والمملكة العربية السعودية بتطبيق إصلاح ديمقراطي أيضاً منذ فترة طويلة. ساهمت محاولتهما الخجولة في إبقاء السلطة ضمن نخب محدودة لها علاقة بالسلالة الحاكمة، وهي تتألف من آلاف الأمراء السعوديين من جهة أو من جنرالات ومسؤولين موالين للنظام ويسيطرون على الثروة النفطية الجزائرية من جهة أخرى. كبح النظامان حتى الآن الدعوات إلى التغيير عبر صرف أموال طائلة على الإنفاق الاجتماعي، لكنهما يواجهان مشاكل وشيكة على مستوى الخلافة. من المعروف أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مريض وقد لا يُكمل ولايته الثالثة في السلطة، وهي تنتهي أصلاً في عام 2014. كذلك، يقارب الملك السعودي عبدالله من عمر التسعين وأصبح ولي عهده سلمان في أواخر السبعينات. نظراً إلى استمرار ارتفاع أسعار النفط حتى عام 2013، لن يختبر أي بلد منهما على الأرجح اضطرابات سياسية خطيرة. لكن قد يؤدي الفراغ في السلطة والمشاكل الاجتماعية المزمنة، لا سيما ارتفاع معدل البطالة، إلى احتمال انتشار الفوضى. جماعة قبليةماذا عن البلدان التي شهدت اضطرابات سابقة؟ استناداً إلى نظرية ابن خلدون، قد تكون السلالة النموذجية المرتقبة عبارة عن جماعة قبلية تنبثق مباشرةً من الصحراء وتتحرك وفق نسخة «موثوقة» من الإسلام. قد تبدو القوى التي خلّفها الربيع العربي بعيدة عن هذا الوصف، إذ تفتقر تلك البلدان، من تونس إلى اليمن، إلى أي قيادة متماسكة. لكن بعيداً عن هذا الجو المتوتر، نشأ أمر مألوف بالنسبة إلى ابن خلدون.انبثقت النزعة الإسلامية والعلمانية الليبرالية (نزعتان سياسيتان ناشئتان في العالم العربي) نتيجة ممارسات الأنظمة الاستبدادية. لكن أظهرت الجماعات الإسلامية، مثل «الإخوان المسلمين» في مصر وحزب النهضة في تونس، «عصبية» أقوى من غيرها. يستعمل ابن خلدون هذا المصطلح للإشارة إلى التضامن والتماسك. اتضح هذا الانضباط والوحدة خلال الانتخابات التي تلت الثورة حيث تجاوز الفريقان جماعة العلمانيين المتخبطة.لا يعني ذلك أن الإسلاميين يمثلون وحدة قوية أو أنهم سيحكمون في نهاية المطاف، فقد خسروا في الانتخابات الليبية عام 2012 مثلاً. وقد نشأت الانقسامات في مصر وتونس بين الإسلاميين وبين السلفيين الأكثر تشدداً وحتى ضمن الجماعة نفسها. يشكّل العلمانيون في البلدين الآن التحالفات وبدأوا يتواصلون مع جماعات أخرى خارج إطار الناخبين المثقفين في المدن كي يتابعوا نضالهم في عام 2013. رغم ذلك، سيعود الإسلاميون إلى الواجهة في معظم الأماكن ويتنقّل أتباع «الإخوان المسلمين» في أنحاء المنطقة.لكن يوجد عامل واحد لم يتصوره ابن خلدون وهو تجدد التوتر بين السُّنة والشيعة. هذا ما سمّم الأحداث التي بدأت على شكل انتفاضات سلمية في البحرين وسورية، حيث استعملت الأقليات الحاكمة قوة وحشية وعززت التقاتل الطائفي للحفاظ على السلطة. يبدو أن الحرب الأهلية التي تزداد وحشية في سورية تحديداً ستسمم السياسة في الدول المجاورة خلال الأشهر أو حتى السنوات المقبلة. قد لا تجد «السلالة» المقبلة، بغض النظر عن طبيعتها، أي «مملكة» كي تَرِثها.