«لماذا العرب ليسوا أحراراً» لمصطفى صفوان

نشر في 09-01-2013 | 00:01
آخر تحديث 09-01-2013 | 00:01
No Image Caption
في الكشف عن بنى الاستبداد

صدر أخيراً عن دار «الساقي» كتاب «لماذا العرب ليسوا أحراراً» للفيلسوف وعالم الاجتماع السياسي المصري مصطفى صفوان، (ترجمة: مصطفى حجازي). بدأ صفوان بهذا الكتاب في يونيو 1967، بعد هزيمة الأيام الستة التي بدت له بمثابة هزيمة مجمل العالم الثالث باستثناء الهند.
عندما بدأ مصطفى صفوان في تدوين كتابه «لماذا العرب ليسوا أحراراً»، لم يكن لديه أي فكرة عن العلاقات بين الكتابة والسلطة. هنا تبرز أهمية هذا الكتاب الذي يكشف بنى الاستبداد ويحلل آلياته التي وطدت أركانه، ليس سياسياً فحسب وإنما اجتماعياً وثقافياً ولغوياً. إنه يمثل أداة للوعي بهذه البنى ودعوة إلى العمل على الانخراط الطويل النفس في معركة تغييرها. وتكمن أهمية الكتاب الذي بين أيدينا في التحليل الكاشف لبنى الاستبداد التي سادت خلال قرون مديدة مجتمعاتنا، وما زالت فاعلة إلى الآن رغم تغير الوقائع والأشخاص. ولا بد من كشفها في أماكن تخفيها وفضح آليات اشتغالها وصولاً إلى تغييرها من خلال مشروع نهضة اقتصادية علمية ثقافية، وبالتالي مؤسسية سياسية واجتماعية.

ومن أبرز مقومات بنى الاستبداد التي يعالجها هذا العمل، العلاقة بين اللغة والكتابة، وسلطات الاستبداد، كذلك ما يمكن أن نطلق عليه اللاوعي الثقافي، وعلى غرار اللاوعي الفردي، الذي يرسخ علاقة الاستبداد بين الحاكم والشعب. كذلك يعرض باقتدار عوامل تفوق الغرب من خلال ثوراته الصناعية التجارية والسياسية والثقافية والمؤسسية، ما أحدث النقلة النوعية على مستوى الممارسة السياسية وعلاقة الحاكم بالمحكوم. ويتوقف في أحد فصول الكتاب عند الأسئلة المنسية في فلسفتنا السياسية، حيث استورد العالم العربي مفاهيم الديمقراطية والتمثيل والحرية وما زال يرفع شعاراتها من دون أن يتم الشغل الكافي على تحديد دلالاتها وأبعادها وحدودها. وهو ما جعل الكثير من الحكام يغفلون ممارساتهم الاستبدادية ويجملونها من خلال رفع الشعارات ذاتها وتحويلها إلى ممارسات شكلية. وينتهي العمل بفصل حول المآل الراهن للربيع العربي في مصر، وكيف جرى السطو على منجزاته من خلال مساومات العسكر والإخوان المسلمين.

همّ تحرير الإنسان

 في مقدمته للكتاب، يرى المترجم مصطفى حجازي أن لدى صفوان يتكامل همّ تحرير الإنسان العربي من الاستبداد مع تحرره من الاستلاب الذي تمارسه عليه المكبوتات النفسية. هذه المكبوتات هي في الحقيقة الوجه الآخر للقهر السياسي والاجتماعي والثقافي. فعندما يتحرر الإنسان من الداخل يسترد ذاته الأصلية، ما يمكّنه من الانفتاح على الرباط الإنساني والاعتراف بالآخر، انطلاقاً من الاعتراف بالذات، ما يشكل أساس كل تحرير سياسي اجتماعي.

كذلك يطرح صفوان قضية اللغة الفصحى واللغة العامية في أكثر من فصل وأكثر من موضع في الكتاب. وله في ذلك نظرية لها وجاهتها على صعيد الديمقراطية. إنه يدعو بصراحة إلى الدفاع عن لغة الشعب التي يتعلمها المرء على ثدي أمه، ويعبر بواسطتها عن وجداناته وهمومه وتطلعاته. وقد ذهب بعيداً في المناداة بضرورة استعمال الكتّاب للغة التي يفهمها الشعب ويتداولها. فاللغة الفصحى واستعمالها يمثلان رقابة على التعبير الشعبي العفوي والأصيل، لأنها لغة فوق الشعب من حيث مرجعيتها. فاستخدام اللغة الفصحى هو رفض السماح للأميين بكلام ملآن حول مستقبلهم. ذلك أن الفصحى لغة نخبوية تقتصر على الخاصة الذين يكتبون بها ويتداولون هذه الكتابة في ما بينهم، في عزلة عن الشعب وتعبيره عن قضاياه المعيشة، وبالتالي فهي تبقى غريبة عن الشعب ولا تقوم بوظيفة التوعية المطلوبة.

يذكر صفوان في أكثر من مكان في الكتاب أن الثورة الثقافية المصاحبة للثورة الصناعية لم تقم في أوروبا إلا بعد الثورة على اللاتينية، لغة الكنيسة ولغة النصوص المقدسة التي لا وصول للشعب إليها إلا من خلال وساطة رجال الدين، وبالتالي فهي قد ضمنت هيمنة الكنيسة على مجموع المؤمنين. لم يكن قيام الديمقراطية ممكناً في أوروبا إلا بعد حسم المعركة بين اللاتينية وبين لغة الكلام الفعلي.

تكمل الكتابة مسألة السلطة والنخبة والسيطرة على الشعب. فتبعاً لأبحاث صفوان، بلاد الشرق الأوسط القديم التي اخترعت الكتابة قد جيّرتها سلطات الحكم المطلق فيها لخدمة أغراضها وجعلتها حكراً على موظفيها وخدامها، حارمة الشعب الذي أبقته على أميته منها، كي يسهل إحكام قبضتها عليه.

يضيف صفوان أن علاقة السلطة بالكتابة حالياً تغيرت في الشكل فحسب، لكن بقي الجوهر على حاله في شطره الأكبر. فسلطات الاستبداد لا تكتفي بتسخير رجال الدين وفتاويهم لخدمة سيطرتها، بل هي تسيطر على الكتاب وقطاعات الثقافة والإعلام. تؤمم الصحافة وتمارس الرقابة المشددة عليهم، وتشتري الكتّاب من خلال توظيفهم، ومن خلال السيطرة على اتحاداتهم. ويتحول هؤلاء الذين تغدق عليهم الأموال إلى أدوات لتعزيز سلطة الحاكم. من بينهم من يؤدي دور الشرطي الثقافي للنظام الذي يستوعب ما يفلت من سيطرة الأمن والتحكم في السلوك، ومن بينهم من يؤدي دور خبير تسويق النظام ويروج لإنجازاته العظمى والفذة، ومن بينهم من يؤدي دور اختصاصي تجميل المتسلط من خلال إغراق مساحات الصحف والشاشات بمحاسنه وفضائله وخصاله التي تسمو فوق البشر، ما يرفعه إلى مرتبة العصمة عن العيوب والأخطاء، فضلاً عن الرذائل.

أما المتمردون من الكتاب فإنهم يحاربون بلا هوادة، يحاصرون ويهمشون ويحرمون من فيض الخيرات التي تغدق على رؤساء اتحادات الكتاب ورؤساء تحرير الصحف والإعلام المرئي والمسموع. ومن لم يطوع من خلال سياسة «السيف والمنسف» فإنه قد ينفى أو يسجن، هذا إذا لم يهرق دمه، أو يتهم بالعمالة والخيانة، ويتحول إلى شهيد حي.

يعتقد صفوان أن الكشف عن بنى الاستبداد الخفية يهدف إلى تبيان معوقات النهضة الحضارية، إذ لا نهضة ممكنة مع وضع اليد على البلاد ومقدراتها، وخنق الطاقات الحية، وهدر الإنسان والموارد، التي تنتج بالضرورة من هذه البنى الراكدة التي تحافظ على ديمومتها، بدلاً من الانخراط في مشروع إنمائي حقيقي. ويقدم صفوان عرضاً متمكناً لعوامل نهضة الغرب التي أنجز ثورات صناعية تجارية وعلمية ثقافية متلازمة، وصولاً إلى الخروج من الحكم الإلهي والتحرر من سلطان الغيب. يبين هذا العرض عمليات هذه الثورات التي اقتضت معارك مديدة، وصولاً إلى فرض سيطرته على الطبيعة وعلى العالم الثالث بما فيه عالمنا العربي.

وفي خصوص الحراك الشعبي في المدة الأخيرة في العالم العربي، يعتبر صفوان أن بناء الإنسان والمستقبل وصناعة التغيير يتجاوزان التغيير السياسي وإسقاط الحكام المستبدين. ويتمثلان في مشروع نهضوي فعلي اقتصادي علمي معرفي اجتماعي ثقافي وسياسي مؤسساتي.

back to top