تبحثون عن الحشيش في القاهرة؟ تكلموا مع الشرطة!

نشر في 30-08-2013 | 00:02
آخر تحديث 30-08-2013 | 00:02
No Image Caption
النفوذ الخفي لرجال الشرطة الذين يتاجرون بالمخدرات

في مارس 1986، ظهر شكل جديد وأقوى من الحشيش في شوارع القاهرة. أطلق تجار المخدرات اسم {باي باي رشدي} على هذا النوع من الحشيش الذي سُمّي تيمناً بوزير الداخلية المخلوع أحمد رشدي، وهو إصلاحي كان قد أطلق حملة وطنية لمكافحة المخدرات في السنة السابقة. مارك بيري تابع التفاصيل في {فورين بوليسي».
لم يكتفِ أحمد رشدي بإعلان الحرب على المخدرات، بل طرد أيضاً مسؤولين في الوزارة بسبب تورطهم في تجارة المخدرات وكانوا يشملون قادة رفيعي المستوى في قوات الأمن المركزي المصري (الشرطة التي تستعمل الهراوات والبنادق وتضطلع بمسؤولية الحفاظ على النظام العام). لكنه فشل في مساعيه.

في صباح يوم 26 فبراير، اقتحم آلاف العناصر من شرطة قوات الأمن المركزي قسم شرطة الهرم وفندقين سياحيين مجاورين. تصرف المجنّدون بتحريض من قادتهم الذين روجوا لإشاعة مفادها أن رشدي يخطط لتخفيض رواتبهم وتمديد فترة خدمتهم. فتوسعت حركة التمرد. خلال 24 ساعة، استولى المتمردون على معظم مدينة الجيزة وأطلقوا حملة من أعمال الشغب في أجزاء من القاهرة. حين سيطرت قوات الأمن المركزي على منشآت أساسية في أسيوط، على نهر النيل، قيل إن اللواء زكي بدر فتح أقفال قناة أسيوط فأغرق بذلك ثلاثة آلاف عنصر من قوات الأمن المركزي مع قادتهم.

تحت وقع الأحداث الصادمة، أمر الرئيس حسني مبارك الجيش بالتدخل لفرض النظام العام. قبضت وحدات الدبابات على المتمردين خلال معارك في شوارع القاهرة بينما اقتحم الجنود المصريون ثلاثة مخيمات تابعة لقوات الأمن المركزي (في شبرا وطرة والهايكستب‎). لا أحد يعلم عدد الضحايا على وجه التحديد، لكن تشير التقديرات إلى مقتل بين أربعة وستة آلاف عنصر من قوات الأمن المركزي وقد طُرد رشدي بعدها بأمرٍ من مبارك واستُبدل ببدر المعروف بصداقته مع الرئيس وبآرائه الشرسة ضد الإسلاميين.

جرّد بدر قوات الأمن المركزي من متمرّديها وحرص في المقابل على إبقاء أكثر المسؤولين فساداً في قوات الأمن المركزي (فضلاً عن حماية تجارة المخدرات التي يسيطرون عليها). لذا كان ظهور شعار «باي باي رشدي» أشبه بالاحتفال وطريقة لإبلاغ ثقافة المخدرات في القاهرة بأن الأمور عادت إلى مسارها الطبيعي.

تمرّد

فهم حركة التمرد التي نشأت في عام 1986 أمر مهم جداً لمقاربة الوضع الراهن بسبب ما تصفه الحكومة الموقتة التي أنشأها حديثاً الجنرال عبد الفتاح السيسي بحملة خارجة عن القانون في سيناء على يد مجموعة مختلطة من رجال قبائل البدو والعائلات الإجرامية و{الإرهابيين المجاهدين» و{مقاتلين مرتبطين بالقاعدة». حاول المراسلون الغربيون معرفة هوية تلك العصابات الإجرامية وهؤلاء المجاهدين لكن لم يحالفهم الحظ كثيراً. أخبرني مراسل يعمل في صحيفة إخبارية بارزة عبر رسالة إلكترونية في الأسبوع الماضي: «يمكن أن يتكهن الجميع ما يشاؤونه لأن أحداً لا يستطيع الوصول إلى هناك».

قد يشعر الصحافيون الأميركيون بالارتباك بشأن ما يحدث في سيناء، لكن تراقب مجموعة من كبار الضباط في الجيش الأميركي المشكلة عن قرب. في الأسبوع الماضي، أخبرني أحدهم (ضابط استخبارات في البنتاغون) أن مشاكل سيناء لا تنجم حصراً عن {قبائل البدو} الغاضبة بل عن {قادة قوات الأمن المركزي في سيناء} كونهم ينوون حراسة طرق تهريب المخدرات التي يتابعون السيطرة عليها بعد 30 سنة تقريباً على حملة رشدي لمكافحة المخدرات. يقول الضابط البارز: {ما يحدث في سيناء خطير ويمكن وصفه بالإرهاب. لكن لا يقتصر الوضع على ذلك. تشير أحداث سيناء إلى أن ما يُسمى {الدولة العميقة} قد لا تكون عميقة بقدر ما نظن}.  

اليوم، بعد شهرين تقريباً على الانقلاب الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي، تتضح قوة {الدولة العميقة} في مصر (أي الشبكة المعقدة من المصالح التجارية الراسخة والعائلات التي تستمد نفوذها من ثرواتها والنظام البيروقراطي الثابت) أكثر من أي وقت مضى. في قلب هذه الدولة العميقة نجد الجيش المصري فضلاً عن قوات الأمن المركزي المؤلفة من 350 ألف عنصر، وهي منظمة شبه عسكرية نشأت في عام 1969 لضمان الأمن المحلي وسحق المعارضة المعادية للحكومة. تُجنّد قوات الأمن المركزي الشباب الفقراء والأميّين والمنتمين إلى الطبقة الدنيا في مصر، وهي تكسب أرباحاً خفية بقيمة عشرات ملايين الدولارات من بيع المخدرات والأسلحة وتتقاسم هذه النسبة مع حلفائها في الجيش المصري الذي يحظى باحترام أكبر.

يقول روبرت سبرينغبورغ، خبير في الشؤون المصرية في مدرسة الدراسات البحرية العليا في مونتيري، كاليفورنيا: “هذه الأحداث كلها لا تصدمني ولا تفاجئ معظم المصريين. سمعتُ قصصاً عن قوات الأمن المركزي منذ السبعينيات. هل يسيطرون على تجارة المخدرات؟ لا داعي لطرح هذا السؤال، فهذا الأمر أشبه بتقليد حقيقي بالنسبة إليهم». يؤكد سبرينغبورغ على أنه لم يتفاجأ أيضاً من سيطرة الأجهزة الأمنية على طرق التهريب من وإلى سيناء: «إنه معقلهم. إنه محور عملهم. التهريب تجارة بالغة الأهمية بالنسبة إليهم».

وردت الشهادة نفسها في تقرير مُوجّه إلى مسؤولين في الاتحاد الأوروبي من شركة استخبارية خاصة تنشط في الولايات المتحدة ولها روابط مع الجيش المصري، لكن ترافق التقرير مع تحذير. قال أحد كبار المستشارين في الشركة: “يجب أن يتحمّل الإسرائيليون جزءاً من هذه المسؤولية. تعج سيناء بهذه الأعمال غير الشرعية ويرتبط عدد كبير منها بالتجارة مع عائلات إسرائيلية مرتبطة بالمافيا. هذا الوضع يناسب قوات الأمن المركزي طبعاً».

يقول خبير الشؤون المصرية غرايم بانرمان إن جزءاً من المشكلة يتعلق بواقع أن “الأجهزة الأمنية المصرية واجهت معاملة وحشية من الجيش منذ تأسيس قوات الأمن المركزي. كانت تُعتبر حثالة الحثالة طوال سنوات متلاحقة وكانت تتلقى اللوم من الناس حين تسوء الأوضاع». يدرك المصريون هذا الواقع جيداً: انتشرت دعابة في القاهرة مفادها أن المجندين يُسأَلون في أول يوم لهم في الجيش إذا كانوا يجيدون الكتابة والقراءة. فيأمرهم أحد الضباط: «ليقف كل من يجيد القراءة والكتابة على اليسار وليقف الآخرون على اليمين». بعد هذه الغربلة، يعلن الضابط: «أنتم الأغبياء الذين لم تتحركوا، ستعملون في الأجهزة الأمنية».

لكن يؤكد بانرمان على أن طريقة التعامل مع قوات الأمن المركزي تغيرت في الفترة الأخيرة «لأن الجيش يدرك أنه ما عاد يستطيع إساءة معاملتها. يمكن ملاحظة هذا الأمر في الشوارع. حين فرّقت قوات الأمن المركزي الاحتجاجات بعد أحداث 3 يوليو، شاهدنا الجيش وهو يقف جنباً إلى جنب مع الأجهزة الأمنية. إنه مؤشر إيجابي». يؤكد بانرمان الذي يدافع عن انقلاب الجيش المصري على الحكومة المصرية («يمتعض الجيش عند سماع كلمة «انقلاب» لأنه يعلم أن الشعب يدعمه، وأنا أوافق على ذلك») على أن السيسي ورفاقه يواجهون «مشاكل كبرى في سيناء وهم يدركون ذلك ويعلمون أنهم يضطلعون بمهمة كبرى». في الوقت الراهن، يقول بانرمان إن «هدفهم إرساء الهدوء في القاهرة والنيل. لكنهم سيصلون إلى سيناء. هذا أمر مؤكد».

مشاكل سيناء ليست جديدة. تذمر الزعيم القبلي النافذ في سيناء، ابراهيم المنعي، أمام مرسي من طريقة التعامل مع البدو في سيناء وطالبه بتغيير الجهاز الأمني الفاسد الذي كان دوماً في يد وزارة الداخلية منذ معاهدة مصر مع إسرائيل في عام 1979. بعد هجوم أودى بحياة 16 جندياً مصرياً في أغسطس 2012، أقدم مرسي على ذلك تحديداً: فاستبدل وزير الداخلية محمد ابراهيم (احتفظ بمنصبه منذ أيام مبارك)، وطرد رئيس الأركان الذي يحظى بتأييد الجيش، وعيّن رئيساً جديداً للحرس الجمهوري التابع للجيش، وأجبر قيصر الاستخبارات في مصر على التقاعد، وأقال حاكم شمال سيناء، وضمن الحصول على موافقة إسرائيل لنشر آلاف الجنود المصريين في منطقة سيناء الحدودية، وأطلق غارات جوية على «معاقل إرهابية مشبوهة» في المنطقة.

موجة غضب

ردّت إسرائيل بشكل إيجابي على خطوات مرسي. قال حينها الجنرال عاموس جلعاد، الرئيس السابق لفرع الأمن السياسي في وزارة الدفاع الإسرائيلية: {ما نشهده في مصر يعكس موجة غضب عارمة ويتّضح تصميم النظام والجيش على فرض القانون في سيناء لأن هذا الأمر من مسؤوليتهما}. أصر مرسي أيضاً على أن تُجري قيادة {حماس} دوريات على جانبها من المنطقة الحدودية التي تفصل مصر عن غزة، فضلاً عن السيطرة على عمليات التهريب والتحرك ضد شبكة العصابات الإجرامية في غزة.

سرعان ما تبين أن التغيرات التي أحدثها مرسي في أغسطس 2012 لم تنجح فعلياً في إضعاف نفوذ قوات الأمن المركزي. صحيح أن مرسي نجح في إقالة ابراهيم من منصبه لكنه أُجبر على إحداث تغيير آخر حين قوبلت الاحتجاجات المعادية للحكومة بتحركات المسؤولين في قوات الأمن المركزي، فهم تلقوا أوامر من مديرية الأمن التابعة لوزارة الداخلية بتفريق تلك الاحتجاجات عبر استعمال القوة اللازمة». بدأ مرسي وكبار مساعديه يفكرون بإجراء إصلاح شامل في الوزارة على أن يشمل إضعاف الوحدة النافذة في قوات الأمن المركزي. ثم أمر مرسي بهدوء كبار المسؤولين الأمنيين الذين كانوا حلفاءه بتعديل عمل مديرية الأمن التابعة لوزارة الداخلية. كانت رسالة مرسي إلى كبار مستشاريه واضحة: يجب ألا يتوقعوا من الوزارة أن تصلح نفسها بنفسها.

ساهمت هذه الخطوات كلها في ردع كبار المسؤولين والضباط العسكريين الأميركيين الذين كانوا يراقبون الفوضى القائمة في سيناء، وهم يشككون الآن بادعاء حكومة السيسي القائل إن مرسي وحركة {حماس} تعاونا لزعزعة استقرار الدولة المصرية ودعم {المجاهدين} في سيناء. قال مسؤول بارز في البنتاغون: {هذا الأمر غير منطقي. سُرّ الإسرائيليون بمقاربة مرسي فيما شعرت وزارة الداخلية بالاستياء. لقد كان محقاً: الجهاز الأمني هو أكبر مؤسسة إجرامية في مصر}. هذا ما يفسر وجود إجماع واسع بين كبار ضباط الاستخبارات العسكرية على أنّ ما حاربه مرسي وما يحاربه السيسي الآن في سيناء لا يرتبط فعلياً بالإرهاب بقدر ما يتعلق بشبكة تجار ومهرّبي المخدرات الذين يريدون استعادة سيطرتهم على المنطقة. صرح زعيم قبلي من سيناء لصحيفة {لوس أنجليس تايمز} في نهاية شهر يوليو: {لا وجود للقاعدة أو ما يشبهها في سيناء. ربما تنتشر الإيديولوجيا الأصولية هنا لكن تم استيرادها إلى سيناء بسبب الفراغ الأمني}.

استنتج المسؤول التنفيذي الأمني البارز من شركة الاستخبارات السياسية الأميركية: {حين أنظر إلى ما حدث في مصر خلال الشهرين الأخيرين، أرى مأساة حقيقية. أظن أن مرسي حاول فعلاً تغيير الوضع وحاول بكل جدية إصلاح النظام وتغييره. ويشمل ذلك التغيير قوات الأمن المركزي المترسخة بعمق». توقف المسؤول عن الكلام لبرهة ثم قال: «ربما هذا هو جوهر المشكلة».

بالعودة إلى القاهرة، تعهد ابراهيم بإعادة إرساء الأمن الذي كان سائداً في أيام مبارك. إنها أنباء سيئة بالنسبة إلى مناصري مرسي، لكنها أنباء سارة على الأرجح بالنسبة إلى أبرز تجار المخدرات في القاهرة لأنهم سيتمكنون الآن من وصف الحشيش الذي توفره قوات الأمن المركزي بعبارة «باي باي مرسي»!

back to top