محمّد الحجيري في «طيور الرّغبة»... ليس لقلمه ظلُّ قلمٍ آخر

نشر في 25-01-2013 | 00:01
آخر تحديث 25-01-2013 | 00:01
No Image Caption
تصادر الحرب المساحة الأكبر في الرواية اللبنانية، ربّما لأنّها لم تنته بعد، إنّما هي أعادت تشكّلها، ورسم خنادقها، وتموضع ناسها... والروائيّ، من حيث يدري أو لا يدري، يؤرّخ ما هو خارجه حين يفيض عن ذاته، فيكتب أحيانًا سيرة ذاتيّة تجتاز صاحبها لتكون سيرة عامّة هي أشبه بمرآة خاصّة جدًّا وتتّسع للجميع.

 رواية محمد الحجيري «طيور الرغبة» تغمس الإصبع عميقًا في جروح اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة...يضع محمّد الحجيري روايته الأولى «طيور الرّغبة» في خزانة الأدب العربيّ مرتاحًا لعبثيّته، معترفًا بأنّ للحبر شهيّة إلى قتل المعاني: «الرواية ليست جثّة، لكنّ الكلمات والعبارات تتحلّل، والمعاني تُقتل بالحبر أيضًا». غير أنّه رغم ذلك اقترف الكتابة وحاول استثمار قمامة ذاكرته ربّما ليتخلّص منها: «الكتابة لن تكون أكثر من قمامة الذاكرة»، وربّما لأنّ الكتابة تعيد تصنيع هذه القمامة وتمنحها قيمة وجوديّة باعتبارها نتيجة تجربة إنسانيّة مثقلة بالألم. وعلى امتداد الرواية يتقمّص الحجيري شخصيّة ألبسها عباءة البطل المنتقل من هزيمة إلى أخرى، وسجَنَها في ضمير المتكلّم منذ أن فتح باب السّرد: «كنت الصبيّ الوحيد لأمّي / الحياة سلسلة انكسارات فحسب»... ولم ينس أن يذكّرنا بما قال «غوته» قبل أن يقول كلمته هو: «كلّ شيء محض استعارة». ولا شكّ في أنّ الحجيري يضمّ هذه الجملة إلى روايته ويتبنّاها بقوّة، لأنّه يشعر ويصرّح في مواضع كثيرة بأنّ اللغة أعجز من أن تقول، وأنّ ما يحدث يقول نفسه بحدوثه، إذًا، إنّنا نستعير اللغة لنعبّر، مثلما نستعير الحياة أحيانًا حين نكون على قيدها وهي ليست معنا.

صحيح، أنّ الرواية تستمدّ حياتها من الحرب، وكأنّ الحرب تعوّض عمّن تقتلهم بالروايات، إلاّ أنّ العاطفة، لا سيّما تلك التي يجب أن يصنعها البيت بمؤسّسة تسمّى العائلة، تحاصر السّرد من ألفه إلى يائه. فالأمّ هي أمّ وأب ناقصان، وهي زوجة منكوبة تتّكئ على ظلّها كبدل من ضائع لرجل موجود لكنّه مجاز من مجازات الحقيقة. والأب هو بالمعنى نفسه مجاز بالنسبة إلى أولاده وتحديدًا بالنسبة إلى بطل الرواية، وحيد أمّه، الذي وجد نفسه مرغمًا على الوصول إلى رجولته من دون أن يرتكب الجريمة التقليديّة: «لن أقتل أبي لأنّه غير موجود».

الأمّ في قرية عرش إيل، في شرق بعلبك، والأب يمضي أربعين سنة مقيمًا في سقي الحدث وحيدًا، ولا يعود إلى قريته إلاّ ليموت في الغرفة التي مات فيها أبوه: «رأيته ميتًا في الغرفة التي مات فيها جدّي... صرت أجري محاكمة لنفسي عن علاقتي به، كأنّ الإثم ينمو في الغياب». ولهذا الأب أب موازٍ بالنسبة إلى البطل الراوي وهو «لينين» الذي ربّما ووري الثرى مع الوالد خاطر محمّد الدلباني في آن: «مات أبي وبقي محنّطًا في ذاكرتي مثل جثمان لينين».

ويبدو النقص العاطفي وجعًا من أوجاع معظم شخصيّات الرواية إلى حدّ أنّه يفرض نفسه سببًا من أسباب الحرب، لأنّ البحث عن العاطفة أو الثأر لغيابها قد يكونان بمنتهى الكارثيّة وكم وُفّق الحجيري قائلاً: «لا شيء أكثر عنفًا من فقدان الحنان. لا شيء أكثر روعة من فقدان الحنين».

ملف الحرب

يفتح الروائي ملفّ الحرب اللبنانيّة، وينظر إليها من نافذة شخصيّة هي على مسافة واحدة من كلّ صانعيها، فلم يوفّر حزبًا أو ميليشيا أو احتلالاً. وفي الرحلة الطويلة من عرش إيل إلى الرميلة وشارع جبل العرب، وسقي الحدث والحمرا وعين الرمانة وسن الفيل نشر على حبل السّرد مشاهد الحرب ساخرًا من قضايا أهلها ومن زعمائها، فالسائق المسلم في بيروت الشرقيّة كتائبيّ: «هكذا كنت مسلمًا وأحمل بطاقة كتائبيّ»، و»الثكنة... تصنع القتلى أو ما يسمّى الشهداء» و{قراءة لينين لم تغيّر شيئًا في مسار العصبيّات» و»الشهادة احتلال للوعي وهزيمة للطمأنينة»... وحاول الحجيري تقديم كلّ شخصيّاته ضحايا بشكل من الأشكال، وأوّل هذه الشخصيّات شخصيّة الراوي – البطل الآتي من قرية بعلبكيّة ينوء ظهرها بحمل الدّين: «كلّ شيء مسلّم بالإرادة الإلهيّة في تلك الديار»، ومن بيت تضربه عواصف الحياة ولا تبقي فيه حجرًا يعيش في موته بسلام، ومن مجتمع يبني السور بين المرأة والحياة، وبينها وبين جسدها، لتغدو كائنًا عاجزًا عن الشعور بالامتلاء حيث الرّجل يصادر الحضور والحلم والزمان والمكان: «المرأة لا تقدر أن تتصالح مع جسدها في عرش إيل، تنصاع للدين والتقاليد وتتحدّى ما يريده الجسد».

وعلى امتداد صفحات «طيور الرغبة» تتّصف كلّ الأمكنة بعدم قدرتها على الاتّساع للسلام والطمأنينة، إنّها أمكنة تخذل الرغبة التي هي بوصلة الحجيري روائيًّا. وهي رغبة متعدّدة لطائر واحد. فالراوي – البطل رغب في الهروب من عرش إيل، من جغرافية حزينة ومؤلمة لا بدّ من اعتناق حلم أو رغبة للنجاة منها. والبديل لن يكون سوى في المدينة التي تحترم الحريّة والفوضى والعبثيّة حيث الجسد يتخلّص من خوفه، وحيث النساء «يضيّفن» الجنس لمن يثير شهيّتهنّ، و»سارة حوماني» نموذج في هذا السياق. حتّى النوافذ في بيوت المدينة هي شاشات طبيعيّة تعرض أجساد النساء العاريات... الجنس والحرب متلازمان في الرواية، وهما بديل من العاطفة أو ثأر لغيابها. يسقط الجنس حين ينمو في فيء القلب حبّ أبيض، لذلك بدت «زليخة عقيقي» علامة فارقة بين شخصيّات الرواية. والحرب تسقط أيضًا حين الأحزاب تغتالها انتصاراتها الوهميّة وترمي البندقيّة التي لا تستطيع أن تشحذ من أحد أفقًا لها: «الأحزاب اللبنانيّة أيضًا تهتك حرمة الموت، تحوّله مجرّد كرنفال للانتصارات الوهميّة»...

الراوي الذي حمل لقب «ريغو» في ثكنة الرميلة الشيوعيّة وجد أفكار لينين في الكتب لا في اللينينيّين. فهؤلاء يخشون الكتاب ويخافون على عقولهم من حركة الفكرة فيها. ووجد السلاح بلا جدوى في مجتمعات يئد غشاء البكارة ثوراتها: «ينتابني شعور أنّ أكبر جدار في وجه الثورات هو غشاء البكارة الذي لا نقدر أن نتخطّاه منذ أبصرت عيوننا نور الشمس». ومضى في مسيرته من صدمة إلى صدمة محتفظًا في صدره برماد رغبته المتعدّدة، معلنًا موت المكان من عرش إيل إلى سنّ الفيل، وموت الزمان من طفولته إلى وفاة والده خاطر محمّد الدلباني، وموت ما قالته السماء، وما قالته الأرض بلسان لينين...

طيور رغبة محمد الحجيري تأسر الحرب اللبنانيّة في دائرة اللامعنى، وبين واقعيّة الأحداث وخيال الروائي تنازل الحجيري عن الخيال الذي يفترس الحقيقة وأدّى جملة روائيّة راقية لا يبدو عليها ظلّ قلم غير قلمه.

back to top