التحريم على كيف كيفكم

نشر في 21-05-2013
آخر تحديث 21-05-2013 | 12:54
 باسم يوسف "والأباجورة دي حرام" قالتها بسخرية الفنانة ياسمين عبدالعزيز في فيلم "الثلاثة يشتغلونها" وهي تمر بطور التطرف في الفيلم، وطبعاً بالغ صناع الفيلم في تصوير مرحلة التطرف، فجعلوها تحرِّم كل شيء مثل الأباجورة والتلفزيون وغيرهما من الأشياء التافهة الأخرى.

إن مشهداً مثل هذا المشهد ساهم على مدى سنوات مع أفلام ومسلسلات أخرى في ترسيخ صورة نمطية للسلفيين أو الإسلاميين بصفة عامة.

ولكن هذه الصورة النمطية المبالغ فيها لم يكن سببها الشباب الملتزم بصفة عامة، ولكن ما كان يسمعه الناس من نجوم الشيوخ الذين اختاروا أن يصبغوا الحياة الدينية في مصر بصبغة دين غريب علينا لم تعرفه مصر قبل السبعينيات، ساعتها لم يكن هناك ما يسمى شيوخ الفضائيات، ساعتها لم تكن هناك فضائيات أصلاً، ده حتى "التلفزيون كان أصلاً حرام".

تعال لما أفكرك

أتذكر حينما كنت في المرحلة الإعدادية هذه الشرائط الصوتية التي كانت تباع أمام المساجد وكانت مليئة بفتاوى التحريم، فهذا حرام لأنه بدعة وذلك حرام لأنه ضلالة، وفي الآخر كل شيء سيذهب إلى النار، هذه فترة سيتذكرها مواليد السبعينيات أمثالي، فحين كنا في مرحلة المراهقة (في الثمانينيات وأوائل التسعينيات) كان نجوم الفضائيات حالياً مازالوا نجوماً على شرائط الكاسيت، وكنت إذا ركبت سيارة أجرة أو ميكروباص أو دخلت محل صنايعي تسمع صوت الشيخ مدوياً زاعقاً مرعباً ليذكرك بذنوبك، ويعدد الأفعال الحرام التي تقترفها والتي حتماً ستلقي بك إلى النار، وأتذكر أن من الأشياء التي كانت محرمة تحريماً شديداً التلفزيون، وبالتبعية وصلات الدش، لم يتأثر بهذه الفتاوى مَن رجع من العمل بالخليج فقط، ولم يقتصر تأثير هؤلاء الشيوخ على الطبقة الفقيرة من المجتمع، فمن عاصر هذه الفترة فربما يتذكر أن أثر ذلك امتد إلى الطبقة الغنية، بل إلى طلبة الجامعات الخاصة مثل الجامعة الأميركية، حيث كان هناك مد سلفي واضح، حتى وإن اقتصر على نسبة صغيرة مقارنة بعدد الطلاب.

أتذكر أن صديقة قديمة من أيام المدرسة تخرجت في الجامعة الأميركية، اختارت أن تلتزم بالنقاب وتزوجت زميلاً ملتزماً لها بالجامعة، وكان جزءاً من روتين حياتهما حضور دروس هؤلاء الشيوخ، بل واستضافة الدروس الدينية في منزلهما، بعد سنوات قابلت زميلتي وقد طلقت (لأسباب عديدة لا مجال لذكرها) وخلعت النقاب وحكت لي أن من الأشياء التي كانت محرمة في منزلهما التلفزيون والدش، فهذا هو مدخل الشيطان كما كان يوصف في هذه المجالس، بل إن زوجها كان يتهمها بأنها "تريد أن تفسد عليه دينه" لأنها كانت ترغب في وجود تلفزيون بالمنزل.

 كان ذلك طبعاً قبل انفجار تجارة الدين من خلال الفضائيات، والآن بعد أن أصبح الكثير من القنوات الدينية يحقق مكاسب خيالية توارت خجلاً فتاوى تحريم التلفزيون، فجأة أصبح التلفزيون "ميت فل وعشرة" وأصبح أكثر من ربع القنوات المفتوحة على "الدش" قنوات دينية يظهر فيها نفس الشيوخ الذين كانوا يحرمون هذه البدعة أيام كانوا حبيسي شرائط الكاسيت والدروس الدينية، أنا فقط أتساءل: ألا يواجه هؤلاء الشيوخ أياً من هذه الأسئلة ممن يحضرون دروسهم في المساجد والشوادر؟ أم أن الكلام عن ذلك غير مستحب من منطلق "لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"، فقد بدت هذه الأشياء في صورة مرتبات ضخمة وفئات مالية مختلفة لتقديم البرامج أو حتى الاستضافة، ودخل أصحاب القنوات في البيزنس بكل ثقلهم، فها هو إعلان عن اللحاف الإسلامي، والتلفون الإسلامي والرنات الإسلامية، وكل ذلك بيزنس وشغال من خلال التلفزيون الذي كان محرماً والدش الذي كان رجساً من عمل الشيطان.

ومع التلفزيون لابد أن تأتي الموسيقى، ولكن ماذا يفعلون مع فتاوى تحريم المعازف؟ لدينا الدف والأصوات البشرية والأناشيد التي تبتعد عن استخدام الآلات الموسيقية، ولكن للأمانة أنا أحترم منهم ذلك الالتزام، فإذا كان البعض ينظرون إلى الموسيقى كشيء محرم فذلك شأنهم، وإذا كانوا يعتقدون أن الأصوات البشرية حلال في حين أن الأصوات الصادرة من الآلات الموسيقية حرام، فهم أحرار في ذلك، لا بأس من استخدام البدائل الأخرى، لكن الذي استفزني على مدى السنوات الأخيرة هو "التطوير" الذي تم إدخاله على الأصوات البشرية.

جرِّب أن تشاهد بعض القنوات الدينية وشاهد مقدمات وفواصل البرامج والإعلانات "الإسلامية" التي تم تنقيحها وتعديلها لتناسب أسلوب المحطة، ستجد أنك ستخدع أكثر من مرة في هذه الموسيقى "البشرية" وربما سوف تقع في حيرة إذا كانت هذه موسيقى من فعل حنجرة البشر أم أن مصدرها الآلات الموسيقية، وستكتشف أنها مصنوعة بتقنية عالية جداً في استديوهات الصوت التي تنتج الموسيقى المحرمة، ويتم إدخال مؤثرات عديدة عليها فتخرج كأنها موسيقى حقيقية.

أذكر أنني قابلت أميركية أشهرت إسلامها منذ سنين وعلقت على هذا الموضوع، قالت بما معناه "طيب هما بيضحكوا علينا، فاكرين أنهم حيضحكوا على ربنا؟".

وهذا هو مربط الفرس في فكر هؤلاء، هم يدّعون التقوى والالتزام، ولكن وقت اللزوم والمصلحة يستطيعون ليَّ عنق النصوص والقواعد، فاليوم التلفزيون حرام، وغداً هو وسيلة لنشر الدعوة، بالأمس الموسيقى حرام، واليوم الاستديوهات التي تكلف أموالاً أكثر من الآلات الموسيقية كفيلة بإخراج منتج صوت بشري "ملعوب فيه بصياعة" فلا تفرقه عن الموسيقى.

السنة اللي فاتت القروض حرام، السنة دي فوائدها رسوم إدارية، وما كان يعرف بقرض أصبح صكاً، الانتخابات حرام، ولكن الآن لا مانع من استخدامها للوصول إلى الحكم، خروج السيدات للتصويت حرام، ولكن إذا كان المرشح إسلامياً فنحن نحتاج إلى صوت كل أخت نصرة لله.

وهنا لا أملك إلا أن أكرر سؤال الأخت الأميركية المسلمة:

"طيب هما بيضحكوا علينا، فاكرين أنهم حيضحكوا على ربنا؟".

* ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top