سورية وضربة أوباما والاستراتيجية البيزنطية

نشر في 09-09-2013 | 00:01
آخر تحديث 09-09-2013 | 00:01
No Image Caption
بانشغال دولتين كبيرتين، مستبدة إحداهما بالأخرى، في قلب الشرق الأوسط، حدَّ ذلك من مشاكل كانت ستسببه كلتاهما طوال عقد تقريباً. لذلك، حظي ريغان بهامش تحرك إضافي سمح له بالتركيز على أوروبا والاتحاد السوفياتي ومطاردة السوفيات في أفغانستان.
 Robert Kaplan  في مارس عام 1984، كنت أغطي الأخبار في منطقة هور الحويزة في جنوب العراق قرب الحدود الإيرانية. كانت الحرب العراقية- الإيرانية دخلت سنتها الرابعة. وكان الإيرانيون أطلقوا لتوهم هجوماً برياً شرساً، فرد عليه العراقيون بالغاز السام. رأيت مئات الجنود الإيرانيين الشبان مكومين، تعوم جثثهم على سطح المياه في "هور الحويزة"، كما لو أنهم لعب، من دون أن تبدو عليهم أي إصابات.

قام جندي عراقي بوخز أحدهم بواسطة عكاز وأخبرني: "هذا ما يحل بأعداء صدام [حسين]". لا شك أن الإيرانيين كانوا جنوداً معادين يجتاحون الأراضي العراقية، لا مدنيين. لكن صدام انتقل بعد ذلك إلى قتل النساء والأطفال أيضاً بالأسلحة الكيماوية. ففي شهر مارس عام 1988، أطلق غازاته السامة على الأكراد، قاتلاً نحو 5 آلاف منهم. وكما ذكر المراسل البريطاني الذي رافقني في منطقة "هور الحويزة"، "يمكنك أن تضع كل حقوق الإنسان في العراق على رأس دبوس ويبقى أمامك مساحة كافية لتضع إلى جانبها حقوق الإنسان في إيران".

تجاهلت إدارة ريغان قتل آلاف الأكراد بالغاز السام، وواصلت دعمها صدام حتى نهاية حربه ضد إيران. كانت الولايات المتحدة آنذاك تخوض حرباً باردة ضد الاتحاد السوفياتي. ونحو منتصف عام 1989، لم يكن واضحا أن هذا الصراع الطويل سينتهي فجأة، وأن الولايات المتحدة ستخرج منه منتصرة. ومع انشغال مئات آلاف الجنود الأميركيين بأوروبا وشمال شرق إفريقيا، بدا من المنطقي استخدام العراق بقيادة صدام لخوض حرب بالوكالة ضد إيران وآية الله الخميني.

للولايات المتحدة قيم، إلا أنها تملك أيضا مصالح بصفتها قوة عظمى. صحيح أن رونالد ريغان تحدث بلغة الحرية العالمية الملهِمة، إلا أن استراتيجيته الكبرى ظلت متكاملة ومتناغمة، ما عنى أن عليه اختيار أعبائه بحكمة. نتيجة لذلك، تغاضى عن المجزرة التي ارتكبها صدام ضد الأكراد باستخدامه الأسلحة الكيماوية.

عادت الحرب العراقية- الإيرانية بين عامَي 1980 و1988، التي تزامنت مع عهد ريغان، بالفائدة على الإدارة الأميركية آنذاك. فبانشغال دولتين كبيرتين مستبدتين، إحداهما بالأخرى، في قلب الشرق الأوسط، حد ذلك من المشاكل التي كانت كل منهما ستسببه بمفردها في المنطقة طوال عقد تقريبا. نتيجة لذلك، حظي ريغان بهامش تحرك إضافي سمح له بالتركيز على أوروبا والاتحاد السوفياتي وعلى مطاردة السوفيات في أفغانستان. واللافت للنظر أنه بعد سنتين من انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية، غزا صدام الكويت. إذن، لم يأتِ السلام بين العراق وإيران بنتائج إيجابية على الولايات المتحدة والغرب.

على نحو مماثل، قد يعتبر البعض أن الحرب الأهلية السورية، التي تشتعل منذ سنتين، تعود بفوائد استراتيجية على الغرب. على سبيل المثال، أشار المحلل إدوارد ن. لوتواك في مقاله الأخير في New York Times إلى أن تواصل القتال في سورية أفضل من تحقيق أحد الطرفين الفوز. فإذا انتصرت قوات بشار الأسد، فستتمتع إيران وروسيا عندئذٍ بموقف أقوى في بلاد الشام، مقارنة بمكانتهما قبل الحرب. أما إذا انتصر الثوار، فمن الممكن أن يحظى المجاهدون السنّة، الذين تجمعهم روابط وثيقة بالإرهاب المتعدد الجنسيات، بحصن منيع على البحر الأبيض المتوسط شبيه بما يملكونه في ليبيا اليوم وبما نعموا به في أفغانستان خلال عهد "طالبان" حتى عام 2001. لذلك بدل مواجهة أي من هذين الاحتمالين، قد يكون استمرار الحرب الحل الأفضل.

هذه بالتأكيد حسابات باردة قاسية. فقد حصدت الحرب العراقية- الإيرانية حياة أكثر من مليون شخص. وبلغت حصيلة الحرب الأهلية السورية حتى اليوم ما لا يقل عن 110 آلاف قتيل. وحتى أحد أبرز أنصار الواقعية في منتصف القرن العشرين، هانز مورغانثو من جامعة شيكاغو، تحدث عن ضمير أخلاقي عالمي يعتبر الحرب "كارثة طبيعية".

ما يزيد الطين بلّة عنصر عدم اليقين. فكلما كثرت التقارير السرية التي يتلقاها القائد عن مكان معقد وخطير في الخارج، اتضح له مدى جهل المجتمع الاستخباراتي. لا أقصد بكلامي هذا انتقاد المجتمع الاستخباراتي، بل الإقرار بتعقيداته، خصوصاً عندما يدخله عدد كبير من المجموعات السرية المسلحة، فضلاً عن الكثير من العوامل الثقافية التي يصعب تصنيفها. فأي خيار يجب أن أنتقي؟ وحتى إن قمت بالخيار الصحيح، هل أنا واثق من النتائج والعواقب؟ وإن كنت واثقاً من العواقب (مع أن هذا أمر مشكوك فيه)، فهل تستحق هذه المسألة انشغالي عن قضايا أخرى بالغة الأهمية على الصعيدين المحلية والخارجي طوال أسابيع أو ربما أشهر؟

يقدم لوتواك نفسه بعض الحلول لهذه المعضلة، مجرياً دراسة دقيقة وعميقة لإحدى أهم استراتيجيات البقاء في التاريخ. ففي كتابه The Grand Strategy of the Byzantine Empire (الاستراتيجية الكبرى للإمبراطورية البيزنطية- 2009)، أظهر الخصائص التي تمكنت من خلالها بيزنطة، رغم موقعها الجغرافي الخطير، من الاستمرار طوال ألف سنة بعد سقوط روما. وعكست الاستراتيجية البيزنطية، بطريقتها المعدلة الخاصة وغير الواعية، واقعية مورغانثو المزينة بطابع إنساني.

يكتب لوتواك أن البيزنطيين اعتمدوا باستمرار على كل أساليب الردع المتاحة لهم. ويتابع: "اعتادوا تقديم الرشاوى للأعداء... استخدام كل الأدوات المتوافرة لجذب الحلفاء، وتفكيك التحالفات المعادية، وتقويض حكم القادة المعادين... بالنسبة إلى الرومان... كما بالنسبة إلى معظم القوى العظمى في عصرنا، وشكلت القوة العسكرية الركيزة الأساسية للحكم، مع اعتبار الإقناع الأداة الثانية المكملة لها. أما الإمبراطورية البيزنطية، فكانت تعمل بطريقة معاكسة. ولا شك أن انتقال التشديد من القوة إلى الدبلوماسية يُعتبر من أبرز الطرق للتمييز بين روما وبيزنطة...". بكلمات أخرى، "تفادوا الحرب بشتى الوسائل وفي كل الظروف الممكنة، ولكن تصرفوا دوماً كما لو أنها على وشك أن تندلع في أي لحظة. الدرس الذي نستخلصه: كونوا ماكرين لا دمويين. لا يكمن خطأ الرئيس الأميركي باراك أوباما في تردده في دخول المعمعة السورية، إنما في إعلامه السوريين بأن الضربة العسكرية، إن حدثت، فستكون "ضيقة" و"محدودة". لا تخبر عدوك مطلقاً بما أنت مزمع أن تفعله. ليفارقْه النوم طوال الليل بسبب خوفه من نطاق هذه الضربة ومداها. وما لم يكن أوباما يتعمد بتصريحاته هذه تضليل العدو بشأن أهداف حربه، فإن بعض تصريحات الإدارة العلنية تعد ساذجة إلى أبعد مدى.

تقضي الاستراتيجية البيزنطية، بعد تعديلها لتلائم عصرنا، بضرورة الحفاظ على قوة عسكرية في شرق البحر الأبيض المتوسط وإصدار تصريحات رئاسية مبهمة بشأن ما إذا كانت هذه القوة ستُستخدم أو لا. تشمل هذه الاستراتيجية أيضا دبلوماسية قوية، وسرية، ومتواصلة مع روسيا وإيران تأخذ دوماً في الاعتبار مصالحهما الإقليمية والعالمية، وتبقى منفتحة دوماً على عقد الصفقات والمقايضات معهما. تهدف هذه الاستراتيجية إلى توليد حالة من الجمود في سورية بدل الإطاحة بالأسد. وبذلك يكون التخفيف من حدة القتال مهمة أخلاقية بحد ذاته، مع أنه سيمنع أياً من الطرفين من الفوز في الحرب. فإذا انهار النظام فجأة، فستتزايد أعمال العنف. وقد يقيم تنظيم "القاعدة" معقلاً له على مقربة من الأردن وإسرائيل.

قد لا ترضي استراتيجية مماثلة الكثير من المحللين والخبراء، مع أنها ستلقى القبول من الشعب الأميركي الذي يملك حساً أعمق بالاستمرار الوطني، وإن كان لا يجيد التعبير عنه دوماً. ولا بد من الإشارة إلى أن مناظرات الكونغرس التي سبقت الحرب على العراق لم تحمِ الرئيس جورج بوش الابن من الذل عندما أخفقت الحرب. ولا شك أن تخطي هذه المناقشات لن يسيء إلى أوباما، شرط أن ينجح في تطبيق الأساليب التي يصفها لوتواك في كتابه.

back to top