طبول الحب

نشر في 05-01-2013 | 00:01
آخر تحديث 05-01-2013 | 00:01
No Image Caption
حب قبل الثورة

إيزابيل صباغ

لم يبدأ الأمر دفعة واحدة. لا أذكر كيف تطورت الأمور بيننا بالتدريج، لأجد نفسي مهتمة به، وبكل ما يكتبه.

أعتقد أننا تشاجرنا ذات مرة على الفايسبوك، حين علّق ساخرًا على ما كتبته، فأرسل لي رسالة يشرح بها بخبث، أنها طريقته في معرفة الأشخاص، استفزازهم لمعرفة ردود أفعالهم.

استسخفتُ طريقته، واستهجنتها، وتعاملت معه باستعلاء.

سمعت كثيرًا عن الفايسبوك، فقررت فتح حساب لي في السنة ذاتها، في بداية الـ2010، لكنني لم أجرؤ على التسجيل باسمي الحقيقي، فأنا مترجمة معروفة إلى حد ما في العالم العربي. إضافة إلى شعوري بالارتباك والحياء أمام طلابي، الذين أعتقد أن جميعهم دون استثناء يملكون حسابات على الفايسبوك.

اعتقدت أن دخولي باسم مستعار سيمنحني حرية أكثر، ويخفف عني شعوري بالحرج أمام طلابي، وكذلك يمنح طلابي والقراء الذين عرفوني من خلال ترجماتي، المزيد من الحرية في التعامل معي.

دخلت باسم إيزابيل صباغ، مستخدمة صورة سيمون دو بوفوار كصورة بروفايل دائمة، حيث أعدّها دومًا مرجعيتي الفكرية والأدبية. لم يكن إصراري على استعمال صورة دو بوفوار كصورة بروفايل ثابتة، بسبب شعوري بالتشابه مع سيمون، بل أكثر من هذا، لأضع بعض الحواجز من الجدّية بيني وبين الفايسبوكيين، القادمين من مناطق وانتماءات متعددة، عربًا وفرنسيين، شبابًا ومسنين، مراهقين وناضجين، نساء ورجالاً، متعصبين ومنفتحين، شعراء، كتابًا، صحافيين، فنانين تشكيليين، مخرجين سينمائيين ومسرحيين، حقوقيين، سياسيين. طلابًا، مراهقين..

تستحق تجربة العام التي أمضيتها على الفايسبوك كتابًا منفصلاً، من حيث الخبرة الكبيرة التي حصلت عليها، خاصة المجموعات التي أضافني إليها الآخرون، بعد أن تعرّفوا قليلاً على أفكاري واتجاهاتي، وإن لم يسائلني أحدهم، فيما لو كان اسمي إيزابيل صباغ، حقيقيًا أو مستعارًا.

بمرور الوقت، أصبح الفايسبوك يأخذ مني وقتًا أكثر من قبل. كان الأمر بالنسبة إلي يشبه الجلسات الصباحية التي تعقدها السيدات في الأحياء الشعبية خاصة، حيث يبدأن نهارهن، بعد ذهاب الرجال إلى العمل، بتناول القهوة معًا. كما يشبه الأمر بالنسبة إلى الرجال، الذهاب إلى المقهى. الفايسبوك صنع حالة ديموقراطية في المجتمع العربي، بحيث وجدت المرأة مكانها فيه كما للرجل، فراحت تعبّر وتحكي عن يومياتها وانطباعاتها وأفكارها وتطلعاتها وهمومها.

لم أكن أفهم بداية وحتى اليوم ربما، لمن يتوجه أحدهم بالكتابة عبر الفايسبوك. إنها كتابة حميمية، تفاصيل يدوّنها أحدهم، كأنه يحكيها لأقرب أصدقائه.

بما أن المجتمع العربي عانى كثيرًا من الرقابة، فالفايسبوك فرصة للتعبير عن الذات، توصلت في نهاية المطاف، إلى أن الفايسبوك حالة بوح، ورغبة في أن يعرفك الآخر وتعرفه، هذه الرغبات الجماعية. تشكّل برأيي ما يشبه اللاشعور الجمعي. لاشعور واع بنفس الوقت، رغبة في البوح لأحد نعرفه أو لا نعرفه، رغبة في الظهور والاستعراض لدى البعض، رغبة في التلصص، رغبات متعددة، تابعة لحالة اللاشعور الذي يتحكّم في كل كائن من هؤلاء.

لا أنوي في هذا الكتاب إعداد دراسة عن أهمية الفايسبوك بما هو وسيلة معرفية ومعلوماتية وكونه مرجعية اجتماعية وسيكولوجية لمجتمع ما، أو شخص ما، بل أود التحدث خاصة، عن الانحراف والانجراف العاطفي اللذين تعرضت إليهما بطريقة غير متوقعة.

حصل هذا، رغم أنني لا أذكر البدايات، حين كتب لي رسالة خاصة على الفايسبوك، يسألني عن إيميلي على الياهو أو الهوتميل، لأنه بحاجة إلى التحدث معي، خارج الفايسبوك، إذ تتيح خاصية المحادثة عبر الماسينجر، التحدث الصوتي، دون الحاجة إلى الكتابة.

في البداية رفضت طلبه، لأن علاقتي بالفايسبوك مجرد رغبة فضولية أولاً ومحاولة تجريب هذا العالم. ولم أرغب في إقامة صداقات جادة، تتطلب مني جهدًا في التواصل. حتى أن أغلب حالات دخولي على الفايسبوك، لقراءة الصفحات والاطّلاع أكثر من المشاركة، إلا إذا راق لي موضوع ما، أو إذا كنت في مزاج خاص، من شعور بالوحدة والضجر، أجدني أتسلى بالتعليقات، أو في مزاج من المرح، أدخل في تعليقات ساخرة أتسلى بها، متحصّنة خلف اسمي المستعار.

لكنه كرر طلبه، في ضرورة التحدث عبر الماسينجر، لأن لديه ما يقوله لي.

لم أكن قد استعملت الماسينجر من قبل، إذ إن معظم تواصلي مع من أعرفهم، يكون بالرسائل الإلكترونية أو الهواتف، ولم يكن لديّ أصدقاء خارج فرنسا، أحتاج إلى التواصل معهم عبر الماسينجر.

ولأنه يقيم في سورية، البلد الذي جئت منه منذ أكثر من عشرين عامًا، وأنا أقيم في فرنسا، ولأنه أثار فضولي، خاصة بعدما عرفت أنه من إدلب، من قرية «كفرنبل» تحديدًا، المدينة التي عرفت منها عاشقين معًا، أثناء دراستي في دمشق، قبلت أن أستخدم الماسينجر لأول مرة في حياتي، وأعطيته عنواني الإلكتروني على الهوتميل.

كفرنبل في دمشق

في كلية الأدب الفرنسي في جامعة دمشق، عرفت سامي ومحمود القادمين من كفرنبل في ذات الوقت.

محمود الذي يمكن وصفه بأجمل رجل على الأرض. جماله خاص، شعره أشقر وبشرته ذهبية، بيضاء محروقة، أو سمراء حنطية، بلون شعره تقريبًا.

كنث أعشق عيني محمود الذهبيتين. كم شعرت بالفخر حين كنت أسير بجوار شاب بوسامته. لا أنسى قميصه البرتقالي فوق بنطال الجينز الأسود، شعره الطويل. وغرّته التي طالما رفعها نحو الخلف، بأنامله الذهبية.

لم أصرّح لمحمود بمشاعري، لأنني لم أكن أحبه بقدر ما كنت مبهورة بوسامته، وسعيدة من تقرّبه لي، وحبه المتردد.

أما سامي، فهو مختلف كليًا عن محمود. كانا يسكنان معًا، في الشقة ذاتها. لكلٍ غرفته، وتقريبًا يتقاسمان الأصدقاء أنفسهم، والطعام، والخروج.

سمرة سامي الدالة على شرقيته، لا تقل جاذبية عن بشرة محمود الذهبية. لكن دم سامي مختلف، دمه حارّ ومتدفق. كان سامي يمسك بيدي يأخذني من ذراعي، يغضب مني، يصرخ عليّ، يحبني دون تردد.

من حماقاتي في تلك المرحلة، أنني قبلت دعوة سامي إلى منزله، وهناك، رجف قلبي حين دخلت مع سامي، ورأيت محمود في الصالون.

جلست في الصالون فانسحب محمود بلطف نحو غرفته. من حماقاتي أيضًا، أنني لحقت به، فعاملني ببرود. لم أكن أفهم التملك العاطفي. فهمت بعد سنوات أن محمود أخفى مشاعره نحوي، وفقًا لأخلاقيات الرجال الأصدقاء، لأن سامي كان المبادر أولاً إلى التعبير عن حبه لي.

كفتاة لا أنتمي إلى عالم البنات الجميلات، الغاويات، بل كنت أشكّ كثيرًا في أنوثتي، خاصة بعد لقائي برانيا، وسأتحدث عن هذا لاحقًا، كنت أفتقد الثقة بأنوثتي وقدرتي على الإيقاع بالرجال. وقوع الرجلين في حبي، منحني الكثير من الشعور بالفخر والكبرياء. لم أحب أيًا منهما، لكنني كنت سعيدة برفقتهما. لم يحصل بيني وبين أحدهما أي تماس جسدي. بل إنني في تلك الزيارة الحمقاء، كنت في فترة طمثي.

كان عالمًا رومانسيًا رقيقًا.. مراهِقًا ربما لكنه جميل بشكل يبهر البصر، مثل أشعة الشمس القوية في نهار صيفي حادّ.

استمتعت برفقة سامي ومحمود معًا، أو بكل منهما على حدة. صداقة بريئة تتخللها تعبيرات عاطفية واضحة ومباشرة وساخنة ومتدفقة من سامي الأسمر، الوسيم، الغيور، الشرقي، الانفعالي، وأخرى، هادئة، ملمّحة، مواربة، أصفها أحيانًا بالباردة، من محمود الأشقر، البارد، الحزين، الصامت، المبتسر لغويًا، الميّال إلى البقاء وحيدًا أطول وقت يمكنه فيه فعل ذلك.

كنت في السنة الأولى من كلية الأداب، وكلاهما في السنة الأخيرة تخرجا معًا، وذهبا إلى مدينتهما الأصلية، وكنا يكتبان لي من وقت لآخر. عمل سامي في ثانوية كفرنبل ذاتها، أستاذ لغة فرنسية، بينما ذهب محمود إلى أريحا. ومع الزمن انقطعت مراسلاتنا، بسببي أنا، أو بالأحرى، بسبب أنطوان، الذي دخل حياتي العاطفية. في السنة الثانية تقريبًا.

أقول تقريبًا، لأن أنطوان كان معي في السنة الأولى، لكننا لم نكن قريبين جدًا. كنا مجرد زملاء، له دائرته، ولي دائرتي.

دائرتي مختلطة من مسلمين ومسيحيين وأكراد وأرمن ودروز، بينما دائرة أنطوان مسيحية بحتة. لكنه حين علم أن أمي مسيحية، بدأ بالتقرب مني، ولم أعِ آنذاك الأمر، لأنني لم أهتم يومًا بديانة شخص ولا بأصوله ولا حتى بانتمائه السياسي. كنت ساذجة ربما، وسطحية، أتناقش مع البعثيين عن الديموقراطية، كما أفعل مع الشيوعيين. لم أكن أميّز إلا ضمن الحوار الصادق، ولم أسمح لتقاربي الفكري أو اختلافي، أن يشكّل أساس علاقاتي مع الآخر. ربما ورثت طبع أمي المتسامحة، المحِبة، لكن أمي كانت حذرة، بينما كنتُ فتاة خرقاء.

ربما الأدب الفرنسي أيضًا أفسدني بطريقة ما، أو حصّنني من التعليب والتأطير. كنت صبية مندفعة نحو الآخر، مؤمنة بتساوي الجميع، وبحق الجميع في التعبير، حتى المجرمين، كنت أقول.

back to top