«الرجال من المريخ والنساء من الزهرة»؟
تخترق الفجوات القائمة بين الجنسين كل جانب من ثقافتنا، إذ يبدو أن كل شيء (بدءاً من الكتب الهزلية وصولاً إلى الدستور) يشدد على الاختلافات القائمة بين الرجال والنساء بدل التركيز على أي نقاط شبه بين الجنسين. قد لا نعرف مطلقاً جميع الاختلافات الدقيقة، لكن بدأت الأبحاث التي تتمحور حول النوع الاجتماعي تحرز تقدماً ملحوظاً. Arstechnia تابعت الجديد في هذا المجال.
يصعب التجول في مكتبة من دون رؤية سيل من النصائح حول طريقة فك شيفرة السلوك الغامض لدى الجنس الآخر. يشمل بعض الأعمال الكلاسيكية في هذا المجال كتباً مثل {الرجال من المريخ والنساء من الزهرة} (Men are from Mars, Women are from Venus)، و{دماغ المرأة} (The Female Brain)، والكتاب المفيد دوماً «الشبان مثل الوافل والفتيات مثل السباغيتي» (Guys are Waffles, Girls are Spaghetti).
كذلك، تميل المسلسلات الكوميدية وأعمال الكوميديا الرومانسية وأفلام الحركة إلى استغلال الأدوار التقليدية التي تؤديها الفئتان: النساء دائمات القلق والتذمر والتزيّن، بينما يلقي الرجال النظريات ويلاحقون النساء ويؤدون
يصعب التجول في مكتبة من دون رؤية سيل من النصائح حول طريقة فك شيفرة السلوك الغامض لدى الجنس الآخر. يشمل بعض الأعمال الكلاسيكية في هذا المجال كتباً مثل {الرجال من المريخ والنساء من الزهرة} (Men are from Mars, Women are from Venus)، و{دماغ المرأة} (The Female Brain)، والكتاب المفيد دوماً «الشبان مثل الوافل والفتيات مثل السباغيتي» (Guys are Waffles, Girls are Spaghetti).
كذلك، تميل المسلسلات الكوميدية وأعمال الكوميديا الرومانسية وأفلام الحركة إلى استغلال الأدوار التقليدية التي تؤديها الفئتان: النساء دائمات القلق والتذمر والتزيّن، بينما يلقي الرجال النظريات ويلاحقون النساء ويؤدون
لا يبدو العلم الحقيقي الكامن وراء الفجوة القائمة بين الجنسين واضحاً لهذه الدرجة، فهو عبارة عن دوامة من نتائج متضاربة ودراسات غير قابلة للتكرار وتأثيرات متفاوتة الأحجام. حين نفكر بتعقيدات هذه المسألة، لا عجب في أن نشعر بارتباك كبير. يجب أن يتعامل الباحثون الذين يدرسون الاختلافات بين الجنسين مع علم الوراثة، علم وظائف الأعضاء، السلوكيات، الثقافة، السن، البيئة، الانتماء العرقي، ومتغيرات أخرى لا تُعدّ ولا تُحصى. السلوك بدوره يتأثر بالسياق العام، ما يزيد المسألة تعقيداً. بكل بساطة، يمكن القول إن تقييم وتفسير الاختلافات بين الرجل والمرأة ليس مهمّة سهلة.الجنس بحد ذاته مسألة معقدة. من المعروف أن الجنس في عالم الحيوان مفهوم سلس وأن تحديد الجنس عملية أكثر تعقيداً لا تقتصر على كروموسوم واحد. في هذه الدراسة التي تندرج ضمن سلسلة Arstechnia المستمرة عن الجنس والنوع الاجتماعي، تجدون عدداً من الأبحاث الواعدة حول العوامل التي تفصل الذكور عن الإناث (إذا وُجدت) على مستوى السلوكيات.
يسهل أن نعود إلى الاستعارة المبتذلة التي تعتبر أن الرجل والمرأة يأتيان من كوكبين مختلفين أو إلى الادعاءات الشائعة لكن السطحية في علم النفس التطوري، أي الفكرة التي تُرجع كل جانب من سلوكنا إلى أصولنا في السافانا الإفريقية. سنتجاوز هنا تلك الآراء المخيِّبة للآمال والمبالَغ فيها وسنلقي نظرة على العلم البارع الذي بدأ يفصل الحقيقة عن الخيال في موضوع الفجوة القائمة بين الجنسين. بعض هذه الأبحاث يبدو مبتكَراً وبعضها الآخر بسيطاً لكن وافياً، بينما يبقى جزء آخر من الدراسات معقداً ودقيقاً في آن. لكن تبدو هذه الدراسات كلها واعدة لرصد الفجوات بين الجنسين، وهي تُلمح إلى أصلها وتحدد طريقة استغلالنا لهذه المعارف مستقبلاً.عودة إلى الأصلعلى رغم المصاعب المترسخة في دراسة الفجوات بين الجنسين، فإنها مسألة ضرورية لأنّ ما نعرفه (أو ما نظن أننا نعرفه) بشأن تلك الفجوات يؤثر على سلوكنا. يقوم الأساتذة بتقييم الطلاب والطالبات والتعامل معهم بطريقة مختلفة. يتراجع أداء الإناث في الاختبار حين يُقال لهن إن الرجال يسجلون عموماً نتائج أفضل من النساء في الاختبارات. يميل الرجال والنساء معاً إلى تلبية التوقعات الثقافية الخاصة بنوعهم الاجتماعي، حتى في ما يتعلق بأمر بسيط مثل الابتسام. إن وعينا وفهمنا للاختلافات بين الجنسين عامل مهم لأننا نستعمل (بشكل مقصود أو غير مقصود) هذه المعرفة لتوجيه سلوكنا وسلوك الآخرين.السؤال الأول الذي يجب طرحه: هل الفجوات القائمة بين الجنسين موجودة فعلاً أم أنها من نسج مخيلتنا الجماعية؟ لا عجب أن الأدلة مختلطة في هذا المجال.نُشرت دراسة واسعة ودقيقة حديثاً على موقع {بلوس ون} وقد لاحظت وجود اختلافات تفوق التوقعات بين الجنسين على مستوى الشخصيات عالمياً، بما في ذلك اختلافات مهمة من حيث الحساسية والود والقلق والسيطرة ودرجة الوعي. احتسب الباحثون تداخلاً عاماً تقتصر نسبته على 10% في ما يخص توزيع الشخصيات بين الرجال والنساء. إنه اختلاف هائل من الناحية النفسية.لكن حللت عالِمة النفس جانيت شيبلي هايد نتائج دراسات عدة، بما يتحدى المفهوم القائل إن الرجل والمرأة مختلفان جداً. بعد تقييم 46 دراسة حول الاختلافات النفسية بين الجنسين، بدءاً من درجة الإدراك وصولاً إلى خصائص الشخصية ونسبة تقدير الذات، حددت هايد بضعة مجالات تسجّل اختلافات بارزة بين الرجل والمرأة. تشمل تلك المجالات: العدائية الجسدية، والمهارات الحركية، ومظاهر النشاط الجنسي. لكن في معظم الخصائص والسلوكيات التي درستها هايد (78%)، رُصدت اختلافات ضئيلة أو معدومة بين الجنسين. بحسب رأيها، الرجل والمرأة يتشابهان أكثر مما يختلفان.باختصار، ما من إجماع حول هذا الموضوع. يبقى الشك سيد الموقف في ما يخص الأبحاث حول الفجوة بين الجنسين على مستوى الإدراك والسلوك. عند البحث سريعاً في مختلف المؤلفات، يتبين أنّ تقدير الذات يختلف أو لا يختلف بين النساء والرجال وأنّ الرجل يكون أفضل أو أسوأ عند قراءة الخرائط، وثمة اختلافات أو نقاط شبه في طريقة استعمال اللغة ومفرداتها بين الجنسين.بحسب المنهجية والسياق وتفاصيل الأسئلة المطروحة، تتراجع التعميمات الموثوقة التي يمكن إطلاقها حول الاختلافات بين الرجال والنساء. لكن ثمة اختلافات قليلة متعارَف عليها: الرجل يكون أكثر عدائية وأكثر ميلاً إلى ارتكاب الجرائم من المرأة، بينما تكون المرأة أكثر ميلاً إلى الشعور بالقلق والإصابة بالاكتئاب.إذا كان تقييم حجم الاختلافات بين الجنسين أمراً معقداً، تبقى الخطوة اللاحقة أكثر صعوبة: تحديد أصل تلك الفجوات. هل تُعتبر الاختلافات بين الرجل والمرأة فطرية أم يحددها الحمض النووي وتاريخنا التطوري؟ هل هي وليدة ثقافتنا والتجارب والتفاعلات التي نخوضها؟بحث عن الجذور البيولوجيةللوهلة الأولى، يبدو الجواب واضحاً. لمعرفة أصل تلك الفجوات، يجب أن نبدأ من الدماغ. ثمة اختلافات بيولوجية في أدمغة النساء والرجال حتماً، إذ تختلف الفئتان من حيث الحجم والتناسق ونشاط عدد من المناطق الدماغية الأساسية، فضلاً عن حجم المادة الرمادية والبيضاء في الدماغ.لكن تتعلق أبرز العوامل التي تعيق فهم الفجوات بين الجنسين بواقع أن الاختلافات {البيولوجية} لا تكون بالضرورة شبيهة بالاختلافات الفطرية و}المُعدّة مسبقاً}. الدماغ عضو مرن وهو يتغير مع مرور الوقت رداً على تجارب الفرد ومحيطه والفرص المتاحة أمامه. على سبيل المثال، يمكن أن تساهم ممارسة الكاراتيه في توسيع الجزء الدماغي المسؤول عن المهارات الحركية وقدرات التنسيق. وكلما أصغى الفرد إلى الموسيقى، يصبح جهازه السمعي أكثر حساسية. هذه المرونة تفسر جزءاً من صعوبة تحديد ما إذا كانت الاختلافات الفطرية القابلة للقياس الكمي موجودة بين أدمغة النساء والرجال. لا تشير الاختلافات في بنية الدماغ أو وظيفته بالضرورة إلى أن الفجوات بين الجنسين تقع في عمق جيناتنا أو في تاريخنا التطوري.لكن رغم جميع التحديات، حاول الباحثون معالجة عدد من هذه الأسئلة الصعبة. لتحديد ما إذا كان العامل البيولوجي هو أساس الاختلاف بين الجنسين، يجب الحد من تأثير التجارب قدر الإمكان. من خلال دراسة أدمغة الأطفال وسلوكياتهم، يمكن أن يحاول العلماء التدقيق بـ{طبيعة} الإنسان قبل أن تحصل {التنشئة} على فرصة التدخل.تشير مجموعة واسعة نسبياً من المؤلفات إلى أن الأنثى، حتى في فئة الصغار، تقدم أداء أفضل من الذكر في اختبارات الإدراك الاجتماعي (مصطلح علمي لوصف المهارات التي تتماشى مع عملية فهم الآخرين والتواصل معهم). بما أن المواليد الجدد لا يستطيعون الإجابة عن استطلاعات الرأي أو أداء مهام معقدة، يتطلب اختبار الإدراك الاجتماعي عند الأطفال استعمال مؤشرات مبسّطة مثل اتصال العيون. تميل الأنثى بعد بضعة أيام على ولادتها إلى التواصل بعينيها مع الآخرين أكثر من المولود الذكر، وتكون الأنثى في هذا العمر أكثر براعة في التقليد. اختبرت دراسة أخرى ما إذا كان الأطفال يولون اهتماماً أكبر لأي وجه أو غرض ميكانيكي مثل الهاتف الخلوي. بعد ولادة الأطفال بـ36 ساعة فقط، لوحظ أن المواليد الجدد من الجنسين يحددون خياراتهم: أظهرت الإناث اهتماماً أكبر بالوجه البشري بينما أظهر الذكور اهتماماً أكبر بالهاتف الخلوي. في الشهر الثالث، عبّرت الإناث أكثر من الذكور عن انتباههن عبر مؤشرات إضافية مثل توسع العينين ورفع الحاجبين رداً على الناس.طرح بعض الباحثين فرضيات عن وجود عنصر جيني يفسر الاختلافات بين الجنسين على مستوى المهارات الاجتماعية، فاعتبروا أن الأنثى ربما ترث وعيها الاجتماعي من الكروموسوم الجنسي الموروث من والدها. في البداية، تبدو هذه الفكرة رجعية: إذا كانت الأنثى تتمتع بمهارات اجتماعية أفضل، ألا يُفترض أن ينتقل الوعي الاجتماعي من الأم إلى ابنتها وليس من الأب إلى ابنته؟ لكن لنفكر بالأمر قليلاً: تتلقى الأنثى في العادة كروموسومين من نوع {X} (واحد من الأم وآخر من الأب) بينما يرث الذكر كروموسوم {X} واحد (من الأم). إذا نقل أحد الكروموسومين {X} ميزة على مستوى المهارات الاجتماعية، يكون الكروموسوم المسؤول عن تلك الميزة والفريد من نوعه عند الأنثى موروثاً من الأب وليس الأم التي تمنح الأطفال من الجنسين الكروموسوم نفسه.لاختبار هذه النظرية، استفاد الباحثون من متلازمة تيرنر، اضطراب كروموسومي حيث ترث الأنثى كروموسوم «X} واحد من الأم أو من الأب. إذا كان الوعي الاجتماعي هو نتاج الكروموسوم {X} الموروث من الأب، يُفترض أن تكون حاملات الكروموسوم أكثر براعة اجتماعياً من حاملات الكروموسوم {X} الموروث من الأم. هذا ما اكتشفه الباحثون تحديداً: في اختبارات الوعي الاجتماعي، تفوقت الإناث المصابات بمتلازمة تيرنر وحاملات الكروموسوم {X} الموروث من الأب بنسبة كبيرة على الإناث اللواتي يحملن الكروموسوم الموروث من الأم.يظن الباحثون أن الكروموسوم {X} الموروث من الأم يكون غير ناشط من الناحية الجينية، وذلك بسبب إضافة مجموعات الميثيل. ليس الأمر بعيد الاحتمال بقدر ما يبدو عليه. يُسمى هذا المفهوم «البصمة الوراثية» ومن المعروف أنه يحصل عند مجموعة صغيرة من الثدييات. تصمت الأليلات الموروثة من أحد الأبوين (في هذا المثال، إنها الأم) بينما يتم التعبير عن تلك الموروثة من الشخص الآخر (في هذا المثال، إنه الأب).لكن لا تزال تحقيقات كثيرة في هذه الظاهرة غير جازمة (أقله على مستوى الاختلافات بين الجنسين في مجال الإدراك الاجتماعي). لم ترصد دراسة حديثة النمط نفسه من الوراثة الكروموسومية والإدراك الاجتماعي. وقد انقلب بعض النتائج مقارنةً بالدراسة السابقة. بعد تكرار الدراسة الأصلية (لكن من دون نشرها) على يد الباحثين الأصليين، لا تزال الأوساط العلمية منقسمة حول الفكرة المثيرة للجدل التي تعتبر أن البصمة الوراثية تؤدي دوراً في الفجوة القائمة بين الجنسين على مستوى الإدراك الاجتماعي.دور {التنشئة}نحن إذاً أمام بعض الأدلة التي تشير إلى دور العامل البيولوجي في الاختلافات السلوكية بين الإناث والذكور بفعل الجينات والهرمونات. لكن ما مدى تأثير جميع العوامل المحتملة الأخرى؟إذا كانت البيئة لا تؤدي أي دور في تعزيز الاختلافات بين الجنسين، يُفترض أن تكون الفجوات بينهما ثابتة في مختلف الثقافات. لكن لم يلحظ الباحثون ذلك. تتفاوت الاختلافات السلوكية بين الرجل والمرأة على نطاق واسع (حتى إنها تتلاشى) في بلدان أخرى. في تركيا وكوريا وإيطاليا، تبدو الفجوة بين الجنسين في مجال الرياضيات كبيرة، ويقدم الفتيان أداء أفضل بكثير من الفتيات في اختبار الرياضيات النموذجي. في إيسلندا، ثمة فجوة كبيرة أيضاً بين الجنسين في مجال الرياضيات، لكن تسجل الفتيات هناك أفضل النتائج. في النروج والسويد، ما من اختلاف جلي بين أداء الفتيات والفتيان. وفق حسابات المنتدى الاقتصادي العالمي، تبدو هذه الاختلافات مترابطة بفعل اللامساواة بين الجنسين في كل بلد. تسجل البلدان حيث تتمتع المرأة بنفوذ اقتصادي وسياسي أصغر الاختلافات مع الجنس الآخر، أقله في مجال الرياضيات. لكن تسجل هذه البلدان في الوقت نفسه أكبر الفجوات بين الجنسين على مستوى القراءة، وتتفوق الفتيات هناك على الفتيان في هذا المجال. في الحالتين، من الواضح أن التفسير البيولوجي البسيط لا يكفي. لكن ثمة علاقة مؤكدة بين التفاوت في مستوى أداء الاختبارات والوسط الثقافي في مختلف البلدان.رصد الباحثون ظاهرة مماثلة حين دققوا بالمنطق المكاني بين أعضاء قبيلتين في الهند. كانت القبيلتان مترابطتين جداً من الناحية الوراثية لكنهما تختلفان من حيث البنية الاجتماعية: تنتقل عوامل الوراثة في قبيلة {كاربي} من الآباء إلى الأبناء ويستحوذ الرجال وليس النساء على معظم الحقوق، بينما تنتقل عوامل الوراثة في قبيلة {خاسي} من الأمهات إلى البنات وتتمتع المرأة بنفوذ أكبر من الرجل. من بين أعضاء قبيلة {كاربي}، كان الرجال أفضل من النساء على مستوى الحركة المكانية. لكن داخل قبيلة {خاسي}، تفوقت النساء على الرجال في حل الأحجيات.وجدت دراسات عدة أن العوامل الظرفية تؤدي دوراً أساسياً في قدرة المرأة والرجل على تسجيل اختلافات سلوكية قابلة للقياس. قد يؤدي مجرد السؤال عن جنس المشاركين إلى ظهور اختلافات في الأداء: تميل المرأة إلى تقديم أداء أفضل في الاختبارات الشفهية ونتائج أسوأ في اختبار الرياضيات بعد سؤالها عن جنسها. من خلال دفع الناس إلى التفكير بجنسهم، يظن الباحثون أنهم يحركون لديهم ميلاً يتماشى مع القوالب النمطية التقليدية للجنسين.لكن تجدر الإشارة إلى أن جميع الدراسات التي تدافع عن الدور الذي تؤديه الثقافة والبيئة في الفجوات القائمة بين الجنسين لم تستبعد وجود دور تطوري أو بيولوجي. يصعب أن نصدق أن أدمغة وسلوكيات الرجال والنساء، على مر تاريخنا التطوري، لم تخضع لضغوط انتقائية مختلفة. في عالم الطبيعة، تشير الأجناس (من الطيور الطنانة إلى الضباع) إلى وجود اختلافات ملحوظة في سلوكيات الناس من الجنسين. هل يصعب أن نصدق أن الرجال والنساء تطوروا وباتوا يتصرفون بطريقة مختلفة؟تكمن الحقيقة على الأرجح في مختلف الفرضيات. ربما اختار تاريخنا التطوري إنشاء اختلافات في سلوك الذكور والإناث، لكنها ليست بحجم اختلاف {المريخ عن الزهرة} كما تريدنا الثقافة الشعبية أن نظن. كذلك، يبقى تأثير البيئة على سلوكياتنا قوياً لدرجة أن {التنشئة}، أكثر من {الطبيعة}، تؤدي دوراً أكبر لترسيخ الاختلافات بين الجنسين. قد نشعر بالقلق إذا فكرنا بأن الثقافة قد تزيد (أو حتى تنشئ عفوياً) اختلافات معينة في سلوكيات الرجال والنساء، لكن يشير ذلك أيضاً إلى أننا نستطيع التأثير على بعض الفجوات بين الجنسين (أو حتى التخلص منها) إذا اعتبرنا الأمر مناسباً.فجوات متحوّلةاليوم، بدأت الفجوات القائمة بين الجنسين تتغير. راح بعضها يضيق وبعضها الآخر يتسع. حتى إن بعض الاختلافات الأخرى غيَّر مساره. على سبيل المثال، بلغت نسبة طالبات الجامعة 42% في عام 1970. أما اليوم، فتشكّل النساء 57% من مجموع الطلاب في المدارس والجامعات. من المتوقع أن ترتفع تلك النسبة إلى 59% بحلول عام 2020. تشير بيانات الإحصاء السكاني إلى أن عدد الرجال الذين غادروا سوق العمل كي يؤدوا دور الآباء في المنازل ارتفع بنسبة تفوق الضعف منذ بداية عام 2000. حتى وجهة نظرنا بشأن الفجوات بين الجنسين بدأت تتغير: في وقت سابق من هذه السنة، رفعت الولايات المتحدة الحظر عن مشاركة النساء في المعارك.بفضل تحسّن مجموعة الباحثين بشأن الفجوات بين الجنسين، بدأنا نفهم كيف ومتى يظهر بعض الاختلافات. في المقابل، بدأ العلماء وأطباء النفس والأساتذة يكتشفون الآن كيف يمكننا التلاعب بتلك الفجوات كي تؤثر على السلوكيات الخاصة بكل نوع اجتماعي.على سبيل المثال، تشير إحدى الدراسات إلى أن اختيار المسؤولين عن إجراء الاختبارات قد يزيد أو يقلص الفجوة. قدمت الفتيات أداء جيداً بقدر الفتيان في اختبار رياضيات صعب حين أعدّت {قدوة نسائية} (أي امرأة بارعة في الرياضيات) الاختبار، لكنهن قدمن نتائج أسوأ بكثير من الفتيان حين كان الأستاذ رجلاً. كذلك، تشير دراسات أخرى إلى أن القدوات النسائية طريقة فاعلة لتعزيز ثقة الفتيات بأنفسهن في مجال الرياضيات والعلوم.كذلك، اعتبرت الأبحاث الحديثة أن الفتيات والفتيان يتجاوبون بشكل مختلف مع المسابقات المتكررة مقارنةً بالمسابقات المنفردة. في مسابقة واحدة للرياضيات، حيث يخضع الأطفال للاختبار مرة واحدة، تبين أن الصبيان في مرحلة الدراسة الابتدائية يميلون إلى التفوق على زميلاتهم في الصف بنسبة 10% تقريباً. لكن في مسابقة متواصلة حيث يتنافس الأطفال خلال جولات متعددة، تلاشت الاختلافات بين الجنسين. تكمن المفارقة في واقع أن هذا الأمر قد يمهد لنشوء فجوة من نوع آخر، إذ يظن الباحثون أن نتائجهم ربما تشتق من اختلاف طريقة تجاوب الذكور والإناث مع مفهوم المنافسة.من خلال اتخاذ هذه النتائج بعين الاعتبار، قد يتمكن الباحثون من الحصول على صورة أدق عن قدرات الذكور والإناث. ويمكن استعمال هذه المفاهيم لمساعدة كل فئة على تقديم أفضل ما لديها في الاختبارات، سواء في المدارس أو في سوق العمل. لا يتعلق الهدف النهائي بإنشاء مجتمع متجانس حيث يقدم الجميع المستوى نفسه من الأداء، بل يجب الحرص على ألا تؤدي أفكارنا المسبقة عن السلوكيات الخاصة بكل نوع اجتماعي إلى تضخيم أو ابتكار الاختلافات بين سلوكيات الإناث والذكور.ما زلنا بعيدين عن فهم أصل الفجوات بين الجنسين، أو حتى تحديد ما إذا كانت عبارة عن اختلافات معرفية أو سلوكية ملموسة بين الرجال والنساء في بعض المجالات. على الأرجح، لن نفهم مطلقاً كامل تفاصيل الموضوع. يبدو أن الأبحاث حول الاختلافات البشرية بين الجنسين تزداد تزامناً مع تزايد الأسئلة والأجوبة في آن. لكن يساعدنا العلماء المنفتحون والدراسات الذكية والدقيقة على السير في الاتجاه الصحيح: بعيداً عن تبسيط أو تضخيم نظرية {الزهرة والمريخ}، نحن نتجه نحو تعميق فهمنا للأسس المعقدة للفجوات القائمة بين الجنسين.