كيف نفهم ونستفيد من ابن خلدون؟

نشر في 27-06-2013
آخر تحديث 27-06-2013 | 00:01
 أ. د. محمد جابر الأنصاري في المقالة السابقة، وقعت في هفوة لم أنتبه إليها، وهي إيجاز عبارة "الشعر ديوان العرب"، والإشارة إلى إلغائها بما أفاد، وهو غير مفيد- أن الشعر ملغى من الحياة- وما كان القصد من ذلك كذلك.

الشعر ملكة إنسانية ستبقى حاجة البشر إليها ولكن هناك فارق مهم بين اعتبارها وسيلة للتفكير في شؤون التاريخ- ومن هنا عبارة "الشعر ديوان العرب" وهذا يعيدنا إلى موضوع ابن خلدون في نظرته للتاريخ، وبين الاستمتاع بالشعر كملكة إنسانية يحتاجها البشر في حياتهم.

أعتقد أن الأمر صار واضحاً الآن... ولا حاجة لمزيد من الشرح "ولكن اعتبار الشعر وسيلة للتفكير في شؤون التاريخ والحياة... مصيبة كبرى.. ولا بد من تغيير هذه النظرة عند العرب، وهي هنا محاولة ابن خلدون إلغاء هذه العبارة والقول إن مقدمته في علم الاجتماع التاريخي ليست من علم الخطابة": فالشعر خطابة قبل كل شيء. ينتمي عبدالرحمن بن خلدون زمنياً إلى عصر "النهضة" الأوروبي شمال المتوسط، وتنتمي مقدمته- موضوعياً- إلى عصر الحضارة العربية الإسلامية الزاهر جنوب المتوسط، فالرجل يقع بين عصرين.

وقد كتبت آخر المؤلفات "دعوة لبذر الخلدونية، بأبعادها المعاصرة في وعي الشعب تأسيساً لثقافة العقل"، وتحت عنوان كبير لقاء التاريخ بالعصر- نشر المؤسسة العربية للدراسات والفكر من بيروت 2006- وترجمه زميلي أ. د. رياض يوسف حمزة حينئذ في التدريس الجامعي، ونشره في أميركا.

جاء ابن خلدون في الفصل الختامي من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، لذلك فإن الزمن وطبيعة التراجع الانحطاطي لحركة التاريخ لم يتيحا لفكره أن يؤسس مدرسة تاريخية واجتماعية جديدة تسير على نهجه في الثقافة العربية.

يبدو ابن خلدون شمعة مضيئة فريدة في ضفة جنوب المتوسط لم يلبث أن هيمن عليها الظلام... وعندما بدأت "النهضة" العربية الأولى مطلع العصر الحديث كانت نهضة "إحياء أدبي" بالدرجة الأولى، ولم تنشغل أساساً بالفكر الاجتماعي أو التاريخي المنهجي. وإذا كان بعض رجال النهضة، كإمامها محمد عبده قد اهتم بالمقدمة، فقد كان اهتماماً نخبوياً أو فردياً محدوداً. أما الثقافة "النهضوية" العامة فقد اتجهت إلى "الإحياء الشعري" متمثلاً بالشعر العباسي وما قبله، وكان أعلامها هم الشعراء، نظير محمود سامي البارودي، ثم أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم تلاهم المهجريون مثل جبران خليل جبران ومدرسته.

هكذا اكتسبت الثقافة العربية الحديثة لوناً أدبياً وشعرياً طاغياً، ولم تلتفت إلى التاريخ إلا كحكايا رومانسية (سلسلة قصص جرجي زيدان)، وبقي المتنبي هو المثل الأعلى للشعر والحكمة.

ولا يخلو التراث العربي من النثر، ولعل مقدمة ابن خلدون أحد نماذجه، إلى جانب سلسلة غنية من النماذج، نظير مؤلفات الجاحظ وابن سينا والفارابي وأبي حيان التوحيدي، والغزالي خاصةً في "المنقذ من الضلال"، وابن طفيل في "حي بن يقظان" وابن حزم في "طوق الحمامة"، ظل هذا التراث العقلي النثري كماً مهملاً في تدريس اللغة العربية بالمدارس لاحتوائه على مضامين عقلية تخشاها الثقافة التقليدية البلاغية الإنشائية، وقد شمل في العصر الحديث النثر الجديد المستمد من تراث الأسلاف، والذي اتجه إليه الكتاب المحدثون وأبرزهم أحمد أمين (المتوفى 1953م) صاحب "فجر الإسلام" و"فيض الخاطر"، وجمع تلك الكتابات في ثمانية أجزاء. ويمكن اعتبار كتاباته نموذجاً لاغنى عنه، حيث الكلمة تؤدي معناها دون زيادة أو نقصان. وبدايةً، فإن إحياء هذا النثر في قديمه وجديده، لابد أن يبدأ من خلال إحياء مقدمة ابن خلدون بنثره العقلي، إلى جانب المتنبي بتدفقه الشعري لتستقيم المعادلة في الوعي العربي ولا تسيطر العاطفة المنفعلة على تعامل العربي المعاصر مع وقائع عالمه وأحداثه. فهذا ما نشاهده في سلوك العرب اليوم، مما يلحق بهم، كما ألمحنا الكثير من الخسائر والتراجعات.

هذا الإحياء الثقافي العقلي يمكن أن يؤسس لمدرسة تاريخية واجتماعية في حسم الثقافة العربية الجديدة، التي يمكن بهذا التعزيز أن تكون متوازنة وقادرة على فهم العصر بلغته ومنطقه.

ثم إن هذا الإحياء الثقافي العقلي يمكن أن يؤسس لمدرسة تاريخية اجتماعية في جسم الثقافة العربية الجديدة، التي بهذا التعزيز يمكن أن تكون قادرة على مخاطبة العصر بمنطقه ولغته. ومن المدهش أن ثقافة "النهضة" حتى وقت قريب لم تلتفت إلى البعد الاجتماعي الذي له أعمق الأثر في بلورة الأفكار والتكوينات الاجتماعية والسلوكيات السياسية. وعندما درس طه حسين "المقدمة" أُخذ عليه التفاته إلى الحالات الاجتماعية الخاصة في الأوضاع العربية أي أن ثقافتنا كانت ثقافة العام حتى لدى أبرز أعلامها، كما وقعت الأحزاب الأيدولوجية العربية في هذا المحذور في القومية والاشتراكية والديمقراطية مما أدى إلى أفدح الأضرار والخسائر في مواجهة الواقع والوقائع. هكذا فابن خلدون يمثل مؤشراً مهماً لثقافة جديدة لا تفتقد أرضيتها المجتمعية، بملاحظاته العقلية، في الظواهر العربية المتجددة وليس الملطفة أو المجردة أو الطوبائية، كما فعل الفارابي- مثلاً- في "المدينة الفاضلة" التي جاءت صدى لجمهورية أفلاطون ولم تمثل انعطافا معرفياً في مقاربة التاريخ العربي كما فعل ابن خلدون في "المقدمة".

فهنا يكمن الانعطاف والتحول من ثقافة الشعر إلى ثقافة العقل، فالشعر- وحده- لا يمكن أن يمثل الروح لأي ثقافة معاصرة على أهميته النفسية والجمالية.

وفي مفارقة معرفية يمكننا القول إن استيعاب العرب حقيقة تاريخهم، من منطلق النهج الخلدوني، سيعينهم ذهنياً على فهم حقيقة العالم المعاصر!

ذلك أن حركة العالم واحدة من الماضي إلى الحاضر حسب منطق القوانين والنواميس ذاتها المحركة للمجتمعات.

ومن ينظر إلى تاريخه مغلفاً بالأساطير والأوهام والمغالطات لن يستطيع فهم العالم المحيط به.

ومن حسن الحظ فإن تراثنا العقلي العربي يمدنا بكتاب هو بمنزلة مدرسة تحمل عنواناً: "مقدمة ابن خلدون" ومعها وقبلها عطاءات جديرة بالتوقف والاستيعاب لنهضة عربية جديدة مقبلة.

وأساس هذه النهضة، حاجة العرب إلى تغيير نظرتهم إلى تاريخهم. ذلك أن وعيهم بحقيقة تاريخهم، يمكن أن تمدهم بالرؤية الصحيحة لما يمرون به، بدل بكائيات جلد الذات، نقول إن الوعي بحقيقة التاريخ شرط لا بد منه لفهم واقع هذا العالم والتعامل معه بالطريقة العملية الصحيحة لا بالنظرة الشعرية أو الرومانسية التي لها مكانها في حياة الأفراد والجماعات، ولكن ليس في مجال التعامل مع واقع العالم، لأن مثل هذه النظرة، إن بقيت هي المسيطرة على ردود الأمة، فإنها كارثية الانتحار.

ومن اللافت والدافع للتأمل العميق، أن ابن خلدون نفسه، برؤيته التاريخية، استطاع أن يتعامل مع الغزو المغولي لديار الإسلام، بلقاء تيمورلنك، عند أسوار دمشق والتحدث معه على الرغم من هول الكارثة في تلك اللحظة، بينما نجد بالمقارنة أن شعراء عرباً تلبستهم النظرة الشعرية وحدها- أبرزهم خليل حاوي- قد انتحروا جسدياً وحرفياً، أمام واقع الغزو الإسرائيلي الذي بدا لحظتها مهولاً بحس الشاعر، لكن له ما قبله وما بعده في رؤية المؤرخ، الذي يستبصر المشهد في تواصله البعيد لا في لحظته الآنية المريعة... فحسب!

وعندما شرح ابن خلدون علمه الجديد الذي "أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص" حسب قوله، حرص على التنبيه أنه "ليس من علم الخطابة" لغلبة هذا الجانب على غيره في التكوين العربي... ولا يمكن لأي أمة أو سياسة أو حركة تعيش أوهاماً ورومانسيات منسوبة للتاريخ، أن تواجه العالم وتغيّره لمصلحتها، فالتاريخ والعالم المعاصر وجهان لعملة واحدة ويسيران حسب نواميس وقوانين واحدة.

* أكاديمي ومفكر من البحرين

back to top