نار في حرملك سلطان العالم

نشر في 12-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 12-07-2013 | 00:01
رغم سيطرة السلطانة الأم حفصة خاتون على الحرملك وقدرتها الفائقة على إدارته باقتدار، فإن المشاكل عرفت طريقها سريعا إلى عالم «الحرملك».
انطلقت المشاكل جراء الصراع الذي بدأت سحبه الأولى في التجمع، منذرة بأخطار في الطريق، بين زوجتي السلطان سليمان القانوني؛ السلطانة خُرم والسلطانة ماه دوران، حول تأمين خلافة السلطان سليمان في حكم الإمبراطورية مترامية الأطراف، فالأمير مصطفى الابن الأكبر للسلطان سليمان والوحيد من ماه دوران، يُعد المرشح الأبرز لتولي إدارة الدولة العثمانية حال وفاة والده، فهو ولي العهد الشطر الأعظم  من حياة والده، وهو ما لم ترض عنه السلطانة خرم التي أنجبت للسلطان سليمان أربعة أمراء رغبت في أن يصل أحدهم إلى عرش السلطنة، ومن هنا بدأ الصراع.

اندفاع السلطانتين الشابتين في الصراع الشرس الذي طال جميع أرجاء «الحرملك»، له ما يبرره في قواعد القصر العثماني، وكان ظلاً لصراع آخر أصبح جزءاً من التقاليد العثمانية فمن المتعارف عليه ضمن هذه التقاليد التليدة، قاعدة واضحة في صرامتها، أصبحت مع الوقت في حكم القانون، من يصل إلى حكم الدولة من سلالة آل عثمان يبدأ عهده بتنفيذ مذبحة عائلية لأخوته الذكور، ظهرت تلك العادة منذ أن طبَّق السلطان محمد الفاتح تلك القاعدة، بعد أن دخل في صراع مع أخوته؛ أولاد السلطان بايزيد الأول، والذي انتهى بوصول محمد الأول إلى سُدة الحكم، بعد أن خاض في دماء أخوته، قاعدة رغم قسوتها إلا أنها وضعت لضمان استمرار الدولة العثمانية وتجنيبها خطر الحرب الأهلية والانقسامات الداخلية، فالدولة العثمانية نشأت في مواجهة الدول الأوروبية المسيحية، المشبعة بروح الحروب الصليبية، التي كانت تتربص بالعثمانيين للانقضاض عليهم وتمزيق مُلكهم شر ممزق، لذلك وضعت تلك القاعدة الصارمة حتى يتم تجنيب الدولة صراعا قد يوصلها إلى حافة الهلاك.

هذه القاعدة كانت تعيها كل من السلطانة خُرَّم والسلطانة ماه دوران، فإذا ما سار كل شيء في مساره الطبيعي وفقاً للتقاليد المرعية، سيصل ابن السلطانة ماه دوران الأمير مصطفى إلى عرش السلطنة، خلفا لوالده السلطان سليمان، وقتها سيقوم بتنفيذ مذبحة لجميع أخوته الذكور، أبناء السلطانة خُرَّم، التي كانت تسعى بدورها لتأمين وصول أحد أولادها إلى العرش العثماني عبر الإطاحة بالأمير مصطفى بالذات من ولاية العهد، واستغلت في ذلك عشق السلطان سليمان لها، ما فجر صراعاً غير مسبوق داخل «الحرملك» العثماني، استخدمت فيه كل الوسائل المتاحة شرعية كانت أم غير شرعية.

كان وجود السلطانة الأم حفصة خاتون صمام الأمان الأخير لمنع «الحرملك» من الانفجار بنار الحرب المعلنة بين السلطانتين، وعملت على تحجيم الصراع وعدم وصوله إلى أسماع السلطان سليمان القانوني، فالسلطانة حفصة خاتون استخدمت سلطاتها الواسعة من أجل لجم صراع الحرملك وتمسَّكت بإقرار قواعد الحرملك العثمانية، لذلك عملت على دعم زوج ابنتها إبراهيم باشا في الإمساك بأمور الجناح السلطاني، من خلال إقناع السلطان سليمان بتعيينه في منصب «مسؤول الجناح السلطاني»، وهو ما لم يعارضه السلطان فإبراهيم باشا صديق طفولته، وهدفت السلطانة حفصة إلى إحكام قبضتها على الحرملك بشكل كامل، بما يسمح للسلطان سليمان بتنفيذ مخططه الذي وضعه لتغيير خريطة العالم كله، من خلال فرض هيمنة الدولة العثمانية على قارات العالم القديم، وتنصيب نفسه «جهان كشاي» أيّ فاتح العالم.

سلطان العالم

وضع السلطان سليمان القانوني الخطوط العريضة لمشروعه الضخم الساعي إلى تأكيد عظمة الدولة العثمانية وفرض هيبتها على الأمم الأوروبية والشرقية جميعا، فانشغال السلطان سليم بحروبه في الشرق ضد إيران الصفوية ومصر المملوكية، رأى سليمان أنها استنفدت أغراضها وأن الأفضل توجيه آلة الحرب العثمانية الرهيبة صوب الغرب المسيحي، باعتبارها المجال الطبيعي لنمو الدولة العثمانية، في وقت كانت أوروبا الكاثوليكية تموج بفوضى الحروب الوراثية على عروش فرنسا وإسبانيا وألمانيا وتقاسم النفوذ في إيطاليا، فضلا عن تدخلات البابوية في دسائس الدول وحروبها، في وقت كانت بشائر البروتستانتية تهل من ألمانيا على أوروبا، منذرة بتقسيم القارة العجوز إلى مذاهب مسيحية متحاربة، وهي أوضاع رأها سليمان القانوني فرصة أكثر من مناسبة لتحقيق انتصارات تضمن تفوق الدولة العثمانية في الساحة الأوروبية.

استغل السلطان سليمان رفض ملك المجر الاستمرار في دفع الجزية المفروضة على بلاده للدولة العثمانية منذ أيام السلطان سليم، ورفض استقبال رسول الدولة العثمانية الذي جاء ليعلن سلطنة سليمان القانوني، بل أمر بقتله، رافضا الاعتراف بالسيادة العثمانية، عندما بلغ نبأ مقتل الرسول؛ السلطان سليمان غضب وانفعل قائلا: «أيُقتل سفير دولة الإسلام، أيهددني ملك المجر؟!»، وعلى الفور أمر بالاستعداد للحرب، والخروج على رأس جيشه الجبار لتأديب ذلك الملك الخائن للعهود.

 كان قتل السفراء وما زال، من أشنع الأعمال في مجال الديبلوماسية الدولية، ويعد بمثابة إعلان حرب صريح، وأقدم ملك المجر على تلك الفعلة الشنيعة معتمدا على دعم ملوك أوروبا وبابا روما، وأنهم ما إن تصلهم أنباء تحرك السلطان سليمان ضد الأراضي المجرية، سيشكلون تحالفا مقدسا للدفاع عن المجر، إلا أنه أسلم نفسه للأوهام، فقد كان للتحرك السريع للقوات العثمانية أثره في قطع الطريق على مخططات ملك المجر، فما كاد خبر مقتل السفير يصل للسلطان العثماني حتى أمر بالنفير العام، واصطحب كل ما استطاع حمله من الأسلحة والمدافع الضخمة لدك حصون المجر، وأرسل قواده لفتح مدن المجر التي تساقطت تباعاً.

 كان حلم فتح بلاد المجر يراود السلطان سليمان منذ الصغر، كان يريد تخليد اسمه في سجل الفاتحين العظام بعمل حربي يتفوق به على السلاطين مراد الثاني ومحمد الفاتح وبايزيد الثاني، الذين فشلوا في فتح بلاد المجر، ودار بخلد سليمان ما قاله السلطان محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية، عندما فشل في فتح بلغراد عاصمة بلاد المجر، قال «عسى أن يُخرج الله من أحفادي من يفتح تلك المدينة على يديه»، فتمنى سليمان أن يكون ذلك الحفيد.

وتعد بلغراد، التي حلم سلاطين آل عثمان بفتحها، بوابة أوروبا الشرقية والوسطى، وبعد سقوط مدينة القسطنطينية في يد العثمانيين، باتت بلغراد مقر الأرثوذكسية الشرقية، ووريثة مكانة القسطنطينية، لذلك عرفت بلغراد في الأدبيات الأوروبية المعاصرة بـ»حصن المسيحية»، بعد أن بالغ ملوك أوروبا في تحصينها وتزويد أسوارها بالمدافع الثقيلة، واتفق ملوك أوروبا؛ خاصة ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة شارلكان، على ضرورة منع الجيوش العثمانية من التقدم في الساحة الأوروبية، طالما ظلت بلغراد شامخة تدافع عن بقية أوروبا، لكن السلطان سليمان كان له رأي آخر.

وصلت جيوش العثمانيين يتقدمها البادشاه العثماني سليمان القانوني أمام أسوار مدينة بلغراد في وقت كانت مقدمة الجيش تقوم على حصار المدينة بقيادة صدره الأعظم محمد بيري باشا، ودافع المجريون عن عاصمتهم دفاعًا شديدًا، مستفيدين من حصانة أسوار بلغراد التي ضرب بها المثل في الحصانة والمناعة، حتى قيل إن «بلغراد لا تسقط أمام أي غزو يأتيها من الخارج»، غير أن جند المسلمين تمكَّنوا من فتحها في الخامس والعشرين من رمضان سنة 927 هـ الموافق 29 أغسطس سنة 1521م، وأخلى الجنود المجريون قلعتها، ودخلها السلطان سليمان، وصلى (الجمعة) في كنيستها الكبرى بعد تحويلها إلى مسجد، وصارت هذه المدينة -التي كانت أمنع حصن للمجريين ضد تقدم القوات العثمانية- أكبر مساعد لها على فتح ما وراء «الدانوب» من الأقاليم والبلدان.

ودشّن انتصار بلغراد بداية عهد سليمان القانوني في أوروبا، التي رأت فيه خطرا يهدد أوروبا الشرقية بالفناء، ومنذ هذه اللحظة سينظر الأوروبيون إلى سليمان القانوني باعتباره خليفة صلاح الدين الأيوبي، ومع الوقت سترى فيه أوروبا الكاثوليكية أكبر خصومها على الإطلاق، ومنذ هذه اللحظة ولأكثر من قرن ونصف قرن ستفرض إسطنبول إرادتها على جميع الأمم الأوروبية.

أعلن السلطان هذا الانتصار بالكتابة إلى جميع الولاة، وإلى ملوك أوروبا، ثم عاد إلى مقر حكمه قصر الباب العالي بمدينة إسطنبول (مدينة الإسلام بالتركية) مكللاً بالنصر والظفر على الأعداء، وأرسل إليه قيصر الروس يهنئه بالفوز والظفر، إلا أنه رفض استقبال رسول قيصر الروس، ففي ذلك العصر كانت روسيا تعد تابعة لدولة القرم التابعة بدورها للدولة العثمانية، وكذا فعل رئيس جمهورية البندقية ومختلف المدن الإيطالية، وكان سقوط مدينة بلغراد فاتحة لانتصارات سليمان القانوني في بلاد البلقان وشرق أوروبا، فقد سقطت مدنها تباعا، ولم يعد أمام أمم البلغار والسلاف والصقالبة والمجر في البلقان إلا الاستسلام، واتخذ سليمان القانوني من بلغراد منصة لإطلاق قواته صوب عاصمة الإمبراطورية الرومانية (الألمانية) المقدسة؛ فيينا عاصمة وسط أوروبا.

عندما عاد السلطان سليمان إلى عاصمة ملكه، قرر تعيين مسؤول الجناح السلطاني إبراهيم باشا في منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، وهو قرار كان للسلطانة الأم حفصة خاتون دور كبير فيه، فقد رأت أن صديق السلطان منذ الصبا سيكون خير معين له في جميع قراراته، خاصة بعد أن تزوج إبراهيم باشا من أخت السلطان سليمان، السلطانة خديجة، زواج دعمته منذ البداية حفصة خاتون، التي رأت أن زواج ابنتها من إبراهيم باشا فرصة ذهبية لتدعيم نفوذ ابنها السلطان سليمان، الذي عمل في جو من التخطيط المشترك والتنسيق الكامل مع والدته السلطانة حفصة وإبراهيم باشا على مدار أكثر من عشر سنوات كانت هي الأروع في تاريخ الدولة العثمانية بشهادة جل المؤرخين التركيين والغربيين.

إعادة ترتيب

لم تكتف السلطانة حفصة بدور المستشار السياسي لولدها السلطان سليمان، بل عملت على إعادة ترتيب طوب قابي سراي، مقر العرش العثماني، ولم يكن السلطان سليمان ليعارض أمه، التي يعشقها بجنون، وهو ما لاحظه سفير جمهورية البندقية في إسطنبول، الذي تعرف على السلطانة الأم في مطلع عهد السلطان سليمان الطويل، وقال في أحد تقاريره: «تلاحظ امرأة جميلة جدًا في سن الثامنة والأربعين يحمل لها السلطان سليمان توقيرا كبيرا ومزيداً من الحب»، هذا الحب والتوقير جعل السلطانة حفصة التي حصلت على لقب السلطانة الأم رسميا لأول مرة في التاريخ العثماني تلعب دورا كبيرا في إعادة ترتيب الحرملك من الداخل، ليتماشى مع قواعد الأتراك الصارمة، والتي لا تخالف الشريعة الإسلامية، في وقت كانت الدولة العثمانية تنصِّب نفسها حامية الإسلام في العالم.

على يدي السلطانة حفصة أجريت تعديلات أساسية على قسم الحرملك في القصر القديم المعروف بـ»قصر بايزيد»، خاصة في الشق المتعلق بسرايا النساء المعروف باسم «سرايا دوهتران»، والذي عرف بعد ذلك بجناح «باش خاصكي»، مع تغيير وظيفته، وحددت حفصة خاتون أجنحة السلطانة الأم وزوجات السلطان والأميرات بالحديقة الخلفية، التي سميت بالحديقة الخاصة، وخصصت السلطانة حفصة جناحا خاصا للاستقبال، يصل القادم من الأجنحة الأمامية من القصر بالحرملك عبر ممرات خاصة تصل إلى جناح السلطانة الأم والمقربين منها، لضمان سيطرتها على الحرملك ومعرفة الخارج والداخل إليه.

رسمت السلطانة حفصة بمهارة حدود وظيفة السلطانة الأم، والدور الذي تلعبه في السيطرة على «الحرملك»، فهي أول أم سلطان عثمانية تحصل على لقب «السلطانة الأم»، فاتحة الباب بذلك أمام سلسلة طويلة من أسماء النساء اللاتي حصلن على هذا اللقب حتى قرب سقوط الدولة العثمانية في القرن العشرين، وساعدها في ممارسة دورها على أكمل وجه ذلك النفوذ الكبير الذي منحها إيّاه ولدها السلطان سليمان، فقد كان يعشق أمه ويعدها مستشاره الأول، وكانت مسموعة الكلمة عنده، أطلق يدها في أمور الحرملك تدبره كيف شاءت، في ظل انشغاله بفتوحه في الساحة الأوروبية.

ولكي يرضي أمه جعل السلطان سليمان من منصب السلطانة الأم الثاني في البروتوكول العثماني بعد منصب السلطان ذاته، ويسبق منصب السلطانة الأم كل من ولي العهد الذي يحمل لقب شاهزاده، ومنصب الصدر الأعظم ( المساوي لمنصب رئيس الوزراء في الوقت الحالي).

ولم تكن حفصة خاتون بالسيدة التي تعميها السلطة عن ممارسة مهامها على أكمل وجه، لم تتغير عندما حصلت على اللقب السلطاني «مهد عُلياي سلطنت»؛ أيّ مهد السلطنة العالي، وأصبحت أكثر نساء الحرملك اتصالا بالعالم الخارجي، ظلت متواضعة حتى النهاية تكتفي في أحيان كثيرة بلقبها القديم «الخاتون» وهو لقب سلجوقي تركي قديم يعني السيدة المحترمة.

لكن ذلك التواضع لم يمنع السلطانة الأم حفصة من التمتع بمميزات المنصب الجديد، ومنها انتقالها من السراي القديم؛ سراي السلطان بايزيد، إلى سراي الباب العالي؛ مقر الحكم العثماني فور اعتلاء ابنها سدة الحكم العثماني، في موكب يعرف باسم «والدة آلايي» أي موكب السلطانة الوالدة، ومنذ هذه اللحظة، تصبح أعلى السيدات شأنًا طوال حكم ابنها، والمسؤولة الوحيدة عن جناح الحرم العثماني، ولدعم موقعها هذا، تخصص لوالدة السلطان إيرادات ضخمة من أراضٍ خاصة ومخصصات أخرى شتوية وصيفية، ويصرف لها راتب من دار صك العملة العثمانية يحمل مباشرة إليها لإنفاقها حسب احتياجاتها، فضلا عن هدايا الدول الأجنبية ورجالات الدولة العثمانية، أما مصالح السلطانة الأم خارج القصر فكان يخصص لها وكيل أعمال يدعى كتُخدا الحرملك، يتم اختياره من بين صفوف كبار الدولة العثمانية.

ولم يعق السلطانة الأم حفصة خاتون الاهتمام بشؤون القصر والاضطلاع بأمور سياسية من خلال تقديم النصح والمشورة للسلطان سليمان في أمور الحكم، عن القيام بالأعمال الخيرية ببناء الجوامع والمدارس والأسبلة والمستشفيات، ورعاية الفقراء في العاصمة العثمانية وتزويج الأرامل والأيتام، فضلا عن وقف الأراضي الزراعية على خدمة الحرمين الشريفين والقدس الشريف، فكرست بذلك منصب «السلطانة الأم» ووضعت قواعده لكل من أتى بعدها من سيدات الحرملك، وباتت تصرفات السلطانة حفصة مقياسا لمن أتى بعدها من أمهات السلاطين، فمن سارت على نهج السلطانة حفصة أحبها الشعب، ومن أفرطت في سلطاتها وتدخلت في شؤون الدولة بفجاجة أسقطها الشعب من عرش القلوب.

خُلدت السلطانة حفصة لدورها في الحرملك وكونها أول من حملت لقب «السلطانة الأم» في التاريخ العثماني، لكن التاريخ التركي الشعبي حمل لها ذكرى طيبة لا تزال حية حتى يومنا هذا، يتمثل في مهرجان «المسير» الذي يتم إحياؤه سنويا في مدينة مانيسا ويشارك فيه عموم الشعب التركي وهو أقدم احتفال في تركيا يمتد إلى 470 عاما.

وتذكر كتب التاريخ العثماني قصة هذا الاحتفال الذي يعود الفضل فيه للسلطانة حفصة، وتقول الرواية التاريخية إن السلطان سليمان عندما كان أميرا ويتدرب على شؤون الحكم في مدينة مانيسا أصابه مرض أعجز الأطباء وهو ما أزعج أمه السلطانة حفصة زوجة السلطان سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، التي بحثت عن علاج لمرض ابنها الوحيد، ولما بلغ اليأس مداه بلغ السلطانة حفصة أن هناك معجونا سحريا لديه القدرة على شفاء الأمراض المستعصية.

وبحسب الرواية التاريخية التي يرددها أهالي مانيسا أن السلطانة حفصة جاءت بمخترع هذا المعجون وهو مصلح الدين مركز أفندي وجعلته يعجن لابنها معجونه السحري الذي يتكون من 41 نوعا من البهارات مخلوطة مع العسل وأن السلطانة بعدما شفى الله ولدها من مرضه نتيجة تداويه بالمعجون السحري نذرت أن توزع المعجون على الناس في مانيسا سنويا من خلال حفل تقوم فيه بنثره في الساحة المقابلة لجامع السلطان المبني في عام 1522.

ومنذ هذا التاريخ ومدينة مانيسا تقيم مهرجانا خاصا بهذه المناسبة تطلق عليه (مسير معجون) في شهر مارس من كل عام ويمتد لسبعة أيام تتخلله فعاليات تراثية وفنية وعروض موسيقية تعكس تاريخ المدينة وثقافتها، وهو المهرجان الأقدم في تركيا حاليا ويبلغ عمره نحو 470 عاما. ورغم العشق الشعبي للسلطانة حفصة، فإن ما أكسب حياتها زخما لا ينتهي، تلك الحوادث المتسارعة التي ضربت الحرملك في عهدها، فشهدت بأم عينيها كيف تصدعت أركان الحرملك من صراع عنيف اندلع بين السلطانة خُرَّم والسلطانة ماه دوران حول قلب السلطان سليمان أولا، ثم على تحديد هوية الجالس على العرش في مستقبل الأيام، صراع ستكون السلطانة حفصة بيضة القبان فيه إلى حين، لكنها لم تكن تدرك أنها على أعتاب عصر جديد، شهدت بداياته وإرهاصاته الأولى التي كانت هي إحداها ولكن لن يكتب لها أن ترى نهايته التي ستأتي بعد قرن من الزمان، لقد بدأ عصر «سلطنة الحريم».

 تفكك أوروبا

في الوقت الذي وصلت فيه الدولة العثمانية إلى ذروة مجدها تحت قيادة السلطان سليمان القانوني (حكم من 1520حتى 1566)، كانت أوروبا تعاني التشرذم، تعصف بها الانقسامات، فمن الناحية المذهبية هبت رياح الثورة مع ظهور المصلح الديني مارتن لوثر الذي رفع لواء الاحتجاج ضد المؤسسة المسيحية في أوروبا، البابوية الكاثوليكية، ودشن بذلك حروب الإصلاح الديني التي ستستمر طويلا، ومعلنا في الوقت ذاته ميلاد المذهب البروتستانتي الذي غزا أوروبا الشرقية وقلص نفوذ البابوية سريعا.

وفي إنكلترا أعلن هنري الثامن خروجه عن كنيسة روما، وعين نفسه رأساً لكنيسة إنكلترا، مدشنا ما باتت تعرف بـ»الكنيسة الإنجيلكانية»، واقتصر رد روما الكاثوليكية بنعته بـ»الملحد» مع حرمانه كنسيا، لم يهتم هنري الثامن ومضى قدما في فصل إنكلترا سياسيا ودينيا عن أوروبا الكاثوليكية.

داخل المجتمع الكاثوليكي كانت المصائب تترى، فرغم نجاح ملك إسبانيا شارل الخامس في توحيد معظم أوروبا تحت عباءة حكمه باعتباره إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ما مكنه من السيطرة على جنوب إيطاليا وألمانيا وبلجيكا وهولندا، إلا أن مخططه الرامي لتوحيد أوروبا في دولة كاثوليكية واحدة، اصطدم بعقبة كودأ تمثلت في ملك فرنسا فرنسوا الأول، الساعي إلى لقب الإمبراطور، والذي عانى من محاصرة أملاك عدوه اللدود شارل الخامس حدود فرنسا من الشرق والغرب والجنوب، فاندلعت الحروب بينهما سجالًا، ولم تنجح البابوية في التدخل لإيقاف الحرب بين أكبر عاهلين كاثوليكيين في العالم.

في ظل تفكك أوروبا السياسي والمذهبي، سطعت شمس السلطان سليمان القانوني الذي لعب على تناقضات الداخل الأوروبي فدعم البروتستانت وشد من أزر ملك فرنسا، واستغل تقلب ميزان القوى في أوروبا من أجل تدعيم مخططه الرامي لإعلانه سيد أوروبا الوحيد.

back to top