انقلاب في الحرملك السلطانة «خُرَّم» تطلب من السلطان نقل الحرملك إلى القصر الكبير لتكون بجواره

نشر في 15-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 15-07-2013 | 00:01
بعد وفاة السلطانة الأم حفصة خاتون ومقتل الصدر الأعظم إبراهيم باشا، وانزواء السلطانة خديجة، انحصر الصراع في الحرملك بين السلطانة خُرَّم والسلطانة ماه دوران، وكانت الأخيرة تعرف ضعف موقفها بعد اختفاء أبرز حلفائها تباعا، في حين كانت خُرَّم تعمل على تثبيت دعائم سلطانها داخل الحرملك، مستندة إلى عشق السلطان سليمان لها، فضلا عن أنها أقنعت القانوني بتعيين زوج ابنتها رستم باشا في منصب الصدر الأعظم، فشاركت خُرَّم في رسم السياسة العليا للدولة العثمانية من خلال دميتها رستم باشا.
أدركت السلطانة ماه دوران أن أيامها في الحرملك صارت معدودة، وأن حظوظ ابنها الأمير مصطفى تتقلص باستمرار، فرغم أنه ولي العهد الرسمي، إلا أن السلطان سليمان بدأ يبدي اهتمامه الأكبر بولده الأمير محمد الابن الأكبر لعدوتها خُرَّم، وبدا كأن سليمان عازم على تعيين محمد في ولاية العهد بعد أن عينه واليا على مانيسا القريبة من العاصمة العثمانية إسطنبول، في حين أبعد ولدها مصطفى إلى أماسيا الأقل شأنا، كانت ماه دوران تدرك مغزى هذه التنقلات، فلم تتجاوب مع ما ردده السلطان سليمان على أسماعها من ضرورة أن يجرب ابنها الأمير مصطفى الحكم في أكثر من ولاية، فالأمر بالنسبة لها كان واضحا وضوح الشمس في منتصف النهار، فولاية مانيسا كانت مخصصة لولاة العهد، معروف أن من يتولاها يعد المرشح الأبرز لتولي العرش العثماني، لذلك كان اختيار السلطان سليمان لشاه محمد الفاتح الأخ الأصغر لمصطفى لولاية مانيسا بمنزلة إعلان عن تجهيزه لكي يتولى السلطنة، في إقصاء واضح لابنها ووضع المشهد الختامي في حربها مع السلطانة خُرَّم بإعلان انتصار الأخيرة انتصارا ساحقا.

عادت ماه دوران بالذاكرة إلى الوراء علها تبحث عن الخطأ الذي وقعت فيه وجعلها تخسر كل شيء، تذكرت أصولها الألبانية، وأيام صباها في منزل والدها الموسيقار الثري عبد الله رجاي، وكيف اختار لها اسم ماه دوران أو مهدفران بمعنى "زهرة الربيع" لأنها خرجت إلى الدنيا في فصل تفتح الزهور، وكيف كانت تلعب مع شقيقها الوحيد "نقاشان آدم".

تتذكر جيدا كيف أهداها والدها إلى قصر السلطان سليم غازي، وكيف قررت السلطانة الأم حفصة خاتون اختيارها لتكون من ضمن جواري الأمير الشاب سليمان ولي العهد، عندها أدركت أن الحظ ابتسم لها وأنها تقترب من المجد خطوات، خصوصا أن سليمان الابن الوحيد لسليم ووصوله إلى العرش مسألة وقت خاصة أنه والي سنجق "مانيسا" التي لا يتولاها عادة إلا ولي العهد.

 كشف الحظ عن ثغره الباسم لماه دوران عندما أنجبت للأمير سليمان ولدا في مانيسا سنة 1515م، وسمي على الفور الأمير مصطفى، فأصبحت خاصكي أيّ من جواري الأمير المميزات، وعندما تولى سليمان عرش السلطنة عقب وفاة والده السلطان سليم الأول سنة 1520م، انتقلت ماه دوران مع ابنها الصغير وزوجها السلطان والسلطانة الأم إلى عاصمة الدولة إسطنبول، في الحرملك السلطاني بدأت ماه دوران تكتشف حدود صلاحياتها وتمارس نفوذها على الجواري كونها زوج السلطان الأعظم، إلا أنها عملت على ألا تستفز السلطانة الأم حفصة خاتون صاحبة النفوذ العريض داخل الحرملك، لذلك عملت ماه دوران تحت جناح السلطانة الأم.

لم تمانع السلطانة الأم في أن تمارس زوج ابنها الشابة بعض النفوذ تحت أعينها، فهي تعلم أنها لن تخلد على الأرض وسيأتي يوم ترحل فيه عن دنيا الحرملك، لذلك بدأت تعد العدة لنقل صلاحياتها تدريجيا إلى سيدة الحرملك المستقبلية.

وكانت ماه دوران لديها من المؤهلات ما يمكنها من تولي إدارة الحرم السلطاني، فتميزت بالذكاء والمكر بالإضافة إلى جمالها وحب السلطان لها، ولكنها لم تحسن السيطرة على غضبها وغيرتها، فلم يتزوج السلطان غيرها في بداية الأمر، ولم يكن يميل إلى جواريه احتراما لها، خصوصا أنها كانت حريصة على أن تحيط السلطان برعايتها فكانت تسافر مع السلطان أينما ذهب وتحاول أن تكون دوماً أمام عينيه، وكانت تساعدها في ذلك جاريتها المخلصة كوثر، والتي ترجع علاقاتها بالسلطانة ماه دوران إلى ما قبل زواجها بالسلطان سليمان، فقد كانت كوثر بنتاً يتيمة، اهتمت السلطانة ماه دوران بها وجعلتها صديقتها ووصيفتها المقربة، وكانت كوثر وأتباعها يخبرون السلطانة عند قدوم دفعة جديدة من الجواري إلى الحرملك لتتم معاينتهن من قبل السلطانة، وكانت الجارية الجميلة تتم إعادتها إلى بلادها، خوفا من فتنتها على السلطان، أما متوسطة الجمال التي لا يمكن أن تعجب السلطان فيتم ضمها للحرملك، لكن رغم هذا النظام الذي أحكمت به السلطانة ماه دوران سيطرتها على الحرملك إلا أنه اخترق مرة واحدة كانت كافية للقضاء على نفوذ السلطانة ماه دوران للأبد.

فبعد سنوات قليلة وصلت دفعة جديدة من الجواري إلى القصر السلطاني في إسطنبول، وكانت ضمن الدفعة جارية أوكرانية تسمى روكسلانا، التي ستصبح فيما بعد السلطانة خُرَّم، لم تستخدم السلطانة ماه دوران أدواتها مع الجارية الجديدة، فهي متوسطة الجمال، ولم تمعن النظر في عينيها لتكتشف أن هذا المظهر البريء يخفي خلفه قدراً هائلاً من الذكاء، حاولت السلطانة أن تستكشف حقيقة هذه الجارية التي قررت أن تضمها إلى حريم السلطان فسألتها قائلة: ما اسمك يا فتاة؟ ومن أي بلد أنت؟

أجابت: اسمي روكسلانا يا مولاتي، ومن بلاد بعيدة تدعى أوكرانيا من بلاد الروس.

ماه دوران: ماذا تتقنين من عمل الجواري؟

روكسلانا: تعلمت في قريتنا البعيدة التزيين واللعب على الدف والعزف والرقص، وكنت لصغر سني يوكل إليّ مهمة مراقبة الأطفال، فضلا عن مساعدة أمي في تجهيز المناسبات يا مولاتي.

ماه دوران: ربما لن نحتاج لعزفك ورقصك، فلدينا من جواري الرقص عدد كبير، ولكن قد تنفعين في مناسبات الحرملك، لذلك سنعينك مع جواري المناسبات، فما أكثر المناسبات لدينا وأقل جواري المناسبات.

روكسلانا: السمع والطاعة لمولاتي.

ماه دوران: جيد، ستقوم عدد من المربيات بتعليمك شروط الخدمة في القصر السلطاني وكيفية تجهيز الاحتفالات في القصر، واعلمي أن لدينا الكثير من الاحتفالات التي تتغير بتغير المناسبة فاحتفال الزواج غير الاحتفال بإهداء الله لنا طفلا، كذلك احتفالات عيدي الفطر والأضحى، كما أن احتفالات استقبال السلطان لخروجه للحرب غير احتفال استقباله عند العودة منتصرا.

روكسلانا: سأكون رهن إشارة مولاتي.

ماه دوران: قلت لي ما اسمك؟

روكسلانا: روكسلانا الروسية يا مولاتي.

ماه دوران: هذا اسم صعب، ثقيل على اللسان التركي، سأطلق عليك اسم "خُرمَّ" أيّ باسمة الوجه أو الضاحكة، فقد سمعت ضحكتك تهز أركان الحرملك منذ قليل.

هكذا دخلت سلطانة المستقبل خرم القصر العثماني على يد عدوتها ومنافستها الأولى السلطانة ماه دوران، المفارقة أن خُرَّم التي أسرتها قبائل تتار القرم، ثم بيعت لاحقا يقال إن من اشتراها هو صديق السلطان سليمان والصدر الأعظم إبراهيم باشا ذاته، وهو من قام بإهدائها إلى القصر العثماني، فكأن كل من ماه دوران وإبراهيم باشا فتحا أبواب القصر العثماني والتاريخ أمام الجارية التي ستكون أحد أبرز الأسباب في تقويض سلطانهما داخل البلاط العثماني.

 فمنذ أن وقع نظر السلطان سليمان على خُرَّم وقع في عشقها، عندها طلب على الفور أن تلحق به في جناحه الخاص، ومنذ هذه اللحظة لم يفترقا، بعد أن عرفت خُرَّم طريقها سريعا إلى قلب السلطان سليمان، وأصبحت الجارية المفضلة لقلب السلطان، وأنجبت للسلطان الأمير محمد عام 1521م، ثم الأمير سليم عام 1523، لتشتعل المنافسة بين خرم ومهدفران، وهنا كان لنفوذ السلطانة الأم حفصة دور في السيطرة على هذا الصراع الذي أشعل نار الحقد في الحرملك، وحققت خُرَّم رقما قياسيا بعد أن أنجبت أربعة أمراء وأميرة سميت مريم، فلم يسبق لجارية واحدة أن أنجبت هذا العدد لسلطان عثماني، ما جعل مكانتها محفوظة في قلب السلطان، بينما السلطانة ماه دوران تبكي حظها إذ لم تنجب للسلطان إلا الأمير مصطفى بينما تٌوفي ابنها الآخر محمود صغيرا.

 كان كل يوم يمر على الحرملك يعني زيادة في نفوذ السلطانة خُرَّم وسيطرتها على السلطان سليمان القانوني الذي سقط في بحر عشقها غريقًا، وتتفق معظم المصادر التاريخية على تأثيرها الأسطوري عليه، وهو ما لاحظه الديبلوماسي النمساوي ديرنشاوم قائلا عن السلطانة خُرَّم: "كان نفوذها عظيما لدرجة دفعت البعض إلى التكهن بأنها ربما تكون سيطرت على السلطان سليمان بفعل السحر".

نقل الحرملك

 أثبتت السلطانة خُرَّم مكانتها في الحرملك عندما طلبت من السلطان سليمان الزواج وفقا للشريعة الإسلامية وهو ما نفذه القانوني في تحد للتقاليد العثمانية وفي مواجهة رفض أمه السلطانة حفصة واستنكار السلطانة ماه دوران، التي وجدت نفسها بعد هذا الزواج، تتراجع في سلم المكانة فهي لم ترتبط برباط شرعي مع السلطان سليمان بل ظلت حتى النهاية جارية مميزة كونها أم ولي العهد، أما خُرَّم فقد أصبحت الزوجة الشرعية والوحيدة للسلطان سليمان، فكان هذا الزواج بمنزلة انقلاب في بنية الحرملك وإعادة توزيع لمراكز القوى داخله.

لم تكتف خُرَّم بما حققته بل عملت على ترجمة نفوذها إلى أثر ملموس للجميع، فطلبت من السلطان نقل مقر الحرملك من قصر بايزيد المعروف بالقصر القديم إلى القصر السلطاني الرئيس أيّ قصر الباب العالي "توب قابي سراي"، وقالت خُرَّم للسلطان سليمان: سلطاني نار البعد عنك تشعل أعصابي، لا يعرف النوم طريقه إلى عينيّ طالما أنا بعيدة عنك، أرجو أن تتكرم وتقبل رجائي بأن تجعلني بقربك أمتع نظري برؤيتك كل يوم.

سليمان: حبيبة قلبي، وكيف السبيل إلى ذلك؟ وأمور الدولة تمنعني من أن أزور القصر القديم كل يوم.

خُرَّم: ما رأيك لو انتقل الحرملك إلى قصر توب قابي سراي، لأكون بجوارك تراني وقتما تشاء.

لم يتقبل السلطان سليمان الفكرة في البداية فمقر الحرملك ثابت منذ افتتاح السلطان محمد الفاتح مدينة القسطنطينية سنة 1453م، في القصر القديم المعروف باسم قصر بايزيد وعملية نقله قد تثير الأقاويل، لكن الأقدار كانت في صف خُرَّم دائما، فعندما شب حريق في العاصمة العثمانية سنة 1541م، دمر جزءاً كبيراً من السراي القديم، وكادت الجواري يَهلكن في الحريق، فأعادت خُرَّم طرح فكرتها القديمة، فلم يجد السلطان سليمان حرجا في الموافقة هذه المرة، وانتقلت السلطانة خُرَّم في موكب احتفالي كبير إلى مقر الحكم العثماني قصر الباب العالي، وبذلك أصبحت قريبة من السلطان سليمان تراه كل يوم، وجدير بالذكر أن السلطان سليمان بعد أن انتقل الحرملك إلى قصر الباب العالي، أمر بفتح باب بين جناحه السلطاني وجناح السلطانة خُرَّم ومنذ هذه اللحظة لم يفترقا إلا بالموت.

انتقام

لم تقف السلطانة ماه دوران مكتوفة الأيدي وهي ترى تنامي نفوذ خُرَّم وسيطرتها على قلب السلطان سليمان، فيما أصبح ابن خُرَّم الأمير محمد المفضل لدى والده السلطان، وكثر الحديث عن أن والده يفضل أن يتولى العرش العثماني من بعده، لم تجد ماه دوران إلا أن تضرب ضربة أخيرة علها تصل إلى مبتغاها وتعيد نفوذها الذي ولّى، فأعلنت الحرب الشرسة على السلطانة خُرَّم، التي بذكاء أدركت هدف ماه دوران، ففوتت عليها الفرص، وتحملت في صمت الإهانات التي وجهتها إليها ماه دوران المرة تلو المرة، وفشلت جميع محاولاتها للتخلص من خُرَّم، لذلك لم تجد إلا أن تستخدم يديها للتخلص من خُرَّم نهائيا.

لم تتحمل ماه دوران نبأ رفض السلطان استقبالها في جناحه الخاص، وأن باب السلطانة خُرَّم مفتوح على جناح السلطان طوال الوقت بعد أن سمح لها السلطان بأن تدخل إليه في أيّ وقت، لم تحتمل ماه دوران هذه الأنباء، خاصة عندما وصلها ما قالته خُرَّم عندما سألتها إحدى الجواري قائلة: "ألا تخشين الخاصكي ماه دوران"، فردت خُرَّم وضحكتها الساخرة ترن في المكان: "ولم أخاف؟!، أنا شابة، وهي كبيرة بعمر السلطان تقريبا، لو تأخر أبي وأمي عن إنجابي سنوات قليلة لكنت بعمر الأمير مصطفى ابن الخاصكي". خرجت ماه دوران كالمجنونة من مخدعها تبحث عن خُرَّم، لم تجدها في جناحها الخاص، فاقتحمت الحرملك كعاصفة تجتاح بحر مرمرة في فصل الشتاء، وبحثت عن السلطانة خُرَّم كالمجنونة، وجدتها تضحك وسط الجواري يتبادلن الحديث، هاجمتها ماه دوران بقضيب في يدها وانهالت بالضرب على خُرَّم وهي تصرخ قائلة: "خذي أيتها الجارية الروسية... آه منك أيتها الأفعى الملعونة... إنما أنت لحم يباع ويشترى"، لم تقاوم خُرَّم بل استسلمت للضرب الذي انهال عليها بما يكشف مدى الحقد الذي تكنه ماه دوران لها.

حاولت بعض الجواري التدخل للفصل بين السلطانتين لكن ماه دوران كانت كوحش هائج أطاحت بالجواري، هجمت ماه دوران على خُرَّم، التي بدأ الدم ينفجر من وجهها، مرة أخرى بعد أن تخلصت من الجواري تصفعها بيد وتلكمها بالأخرى، ثم أمسكتها من شعرها وجرتها على الأرض وركلتها بقسوة، وعلقت خصلة من شعر خُرَّم بين أصابعها، فيما تركت أظافرها جروحاً على وجه خُرَّم، لم تعلق السلطانة خُرَّم بأكثر من أن قالت: "ستندمين على اليوم الذي عرفتني فيه يا ماه دوران".

بعد انتهاء هذه المعركة النسائية عادت ماه دوران مسرعة إلى جناحها منتشية بانتصارها، تعتقد أن كابوس خُرَّم قد انزاح للأبد، وأن السلطان بالتأكيد لن يتقبل رؤية خُرَّم وقد تشوه وجهها، وقالت لنفسها: "أيام خُرَّم في الحرملك معدودة والسلطان لا محالة سيطردها عما قريب"، على الجانب الآخر لملمت السلطانة خُرَّم جراحها، ودخلت جناحها واحتجبت عن جميع من في قصر طوب قابي سراي حتى السلطان سليمان نفسه، الذي لم يعتد على غيبة خُرَّم حبيبة القلب، لذلك أرسل آغا الحريم سنبل آغا ليستطلع حال السلطانة خُرَّم.

لم يغب سنبل آغا طويلا، عاد يحمل النبأ الكارثة السلطانة رفضت لأول مرة تلبية نداء سلطان السلاطين، جن جنون سليمان، فلم تجر العادة بأن ترفض جارية في الحرملك مهما كانت مكانتها طلب السلطان، معظم الجواري على استعداد كامل للتضحية بكل غال ونفيس من أجل دقائق معدودات مع السلطان، لكن خُرَّم غير هؤلاء جميعا، تمسكت برفضها للمرة الثانية عندما طلب منها سنبل آغا الذهاب للسلطان، لكنها حمَّلته رسالة ينقلها للسلطان، قالت: "إنها غير جديرة بالظهور أمام سلطان العالم، لأنها كما قالت السلطانة ماه دوران لحم يباع ويشترى"، جن جنون السلطان سليمان عندما ألقى عليه سنبل آغا ما قالته خُرَّم.

طلب السلطان سليمان من سنبل آغا أن يقص عليه حقيقة ما جرى فورا، قال سنبل آغا: "مولاي... الخاصكي ماه دوران هاجمت السلطانة خُرَّم وضربتها ضربا مبرحا".

سليمان: هل كان شجارا؟!

سنبل آغا: مولاي... لم يكن هناك شجاراً، السلطانة خُرَّم لم تمد يدها على الخاصكي وقالت كيف تُرفع يد على أم الأمير مصطفى ابن مولانا السلطان.

شرد سليمان للحظات، قال بعدها: هل رأيت ما جرى يا سنبل؟

سنبل آغا: مولاي... رأيت يا مولاي ورأت معي جواري الحرملك كل ما جرى.

أصدر السلطان سليمان على الفور قراره وحكمه، وراعى أن يحافظ حكمه على شعرة معاوية التي تربطه بماه دوران، أم ولده الأمير مصطفى، لذلك قرر إبعاد ماه دوران عن القصر الكبير في إسطنبول، ولكي يحفظ البقية الباقية من كرامتها، حيث أمر أن يكون خروجها تحت ستار الذهاب مع ولي العهد الأمير مصطفى إلى ولاية أماسيا، ليواصل تعليمه وتربيته هناك، وهو ما يتماشى مع قواعد وتقاليد الدولة العثمانية، إلا أن جميع من في القصر العثماني وأولهم ماه دوران نفسها كان على يقين أن القرار يعلن وبوضوح انتصار السلطانة خُرَّم وانفرادها بإدارة شؤون الحرملك. هكذا خرجت ماه دوران مكللة بعار الهزيمة من قصر الباب العالي، لم تنظر خلفها لأنها تعلم يقينا أن الجميع شامت فيها، بعد أن أضاعت هي بأفعالها مكانتها فيه، وأن الجواري يُعلنَّ الآن فروض الطاعة لسلطانة الحرملك، السلطانة خُرَّم محبوبة سليمان القانوني، لكن ماه دوران لم تلق جميع أسلحتها، فقد وضعت في ذهنها خطة تعود بها إلى القصر الكبير منتصرة من جديد، نظرت إلى ابنها الأمير مصطفى ولي العهد، وابتسمت.

آداب الحرملك

كان تعدي ماه دوران على السلطانة خُرَّم بالضرب، تحديا صارخا لتقاليد الحرملك وآدابه العريقة، فالحياة داخل الحرملك لها قواعد وآداب تحكم السلوك الشخصي للجواري فيما بينهن، فعليهن أن يتمسكن بالقواعد العامة للأخلاق داخل الحرملك، وهي قواعد مستمدة من الشريعة الإسلامية فيما يخص حسن معاملة الآخر، وعدم رفع الصوت واحترام الجميع، فمحظور على كل من في الحرملك التكلم بصوت مرتفع، وأيّ عراك بين جاريتين قد يعني الطرد من القصر العثماني دون استماع لأسباب المشكلة أو معرفة البادية بالتعدي.

وبلغت صرامة القواعد داخل الحرملك العثماني أن نُظمت قواعد النظافة الشخصية للجواري فكان محظوراً عليهن التثاؤب أو التمخط على الملأ، أو السير حافيات الأقدام، وارتداء ملابس غير مهندمة أو غير متناسقة أو غير نظيفة، ويجب عليهن تقليم الأظافر بصورة منتظمة، والاستحمام مرة كل أسبوع، في وقت كانت أميرات أوروبا يتفاخرن بقلة الاستحمام.

وكان على الجارية في الحرملك غسل وجهها بالماء والصابون كل صباح قبل الوضوء لصلاة الفجر، وتستخدم منشفتان للوضوء، واحدة للوجه والأخرى للقدمين، وتغسل المناشف مرة كل أسبوع، هذا غير المناشف الخاصة بالاستخدام اليومي.

وتتولى النائبات والمستجدات تنظيف كل أجنحة الحريم والطرقات والسلالم والحمامات والطوابق السفلية، مرة في أول كل شهر، وفي المناسبات والأعياد، وقتها يغسل الحصير (المصري) الذي يغطي الأرضيات بالماء والصابون، وينظف بمنتهى الدقة وعند مرور واحدة من الجواري بين أجنحة الحرملك عليها أن تقول: «دستور» طلباً لإذن المرور.

back to top