تراوديل
تنطلق السيارة على الطريق الترابي كالريح، تقودها فتاة حمراء الشعر، تضع سيجارة بين شفتيها. تبحث عن ولاعتها في حقيبتها، تبعثر حاجاتها بحثًا عن الولاعة.تنظر من مرآة السيارة الداخلية نحو صديقها النائم في المقعد الخلفي، ترسم ابتسامة باردة، ثم تستدير قليلاً. ينتفض الشاب:
ماذا تفعلين؟!أبحث عنها.يحدّق في عينيها:ما هي؟ أيتها الصهباء!تبتسم بخبث:ولاعتي.ينظر حوله بدهشة. ثم يفرش على حجره خريطة صغيرة:أين نحن؟تشعل سيجارتها بهدوء:لا أدري!ينفجر غاضبًا:لا تدرين! توقفي! توقفي!توقف السيارة وتلتفت نحوه:ألم تخبرني أنك تبحث عن عزلة؟! أنا وأنت فقط!أه.. لكن يا حبيبتي يبدو أنك أضعت الطريق.يترجلان من السيارة، الجبال تكسوها الأشجار العملاقة، الريح فجأة تعصف بالمكان، تضع نظاراتها السوداء على عينيها، وتهتف:فرانك انظر.تشير إلى جبل، وعلى قمته كوخ خشبي.يتساءل فرانك:تعتقدين أنه مهجور؟!!لا أدري، أتمنى ذلك. مكان مثالي لنسكن فيه.لنحتفل برأس السنة.يحملان حقيبتين كبيرتين ويعرجان نحو الكوخ الخشبي. تقذف سيجارتها المشتعلة إلى الخارج، وعيناها مصوبتان إلى الأعلى، تشعر بالعطش، تفتح قنينة ماء وترتوي، ثم ترميها.أتمنى أن يكون مهجورًا.يقف فرانك أولاً أمام باب الكوخ، ينتظرها حتى تصعد، ترمي حقيبتها من ظهرها، ثم تجلس عليها منهكة.يلتفت نحوها قبل أن يتقدم بخطوات ثقيلة نحو الباب، ويطرق طرقات خفيفة مؤدبة.تراقبه صديقته وقد طبعت على وجهها ابتسامة ساخرة منه.يعيد فرانك طرقاته على الباب... لا أحد يردّ.يتراجع قليلاً. ثم يمشي نحو نافذة الكوخ ويصيح:هالووووو... هل يوجد أحد؟لا أحد يردّ.تضحك الفتاة وتحاول أن تقلده:هالوووووووو.. هل يوجد أحد؟تنهض، وتتقدم بخطوات واسعة نحو الباب، تدفعه، يرتدّ الباب ببطء إلى الخلف. يصدر منه صوت أخافهما قليلاً. يخطو فرانك أولا إلى الداخل، وتتبعه بحذر، يطير من فوقهما غراب مذعور، فيرتبكان ويسقطان معًا، يتبادلان النظرات. ثم ينفجران ضحكًا.الغبار يملأ المكان، والعناكب نسجت بيوتها في كل زوايا الكوخ.البيت مهجور.كانت هناك لوحة كبيرة لكلب أسود، يحدق فيهما بشراسة.تمتم فرانك:مخيف.أي رجل يملك كلبًا مثل هذا؟. يبدو كأنه أعور!يبتعد فرانك عنها قليلاً ويتلفت حوله:سأبحث عن حمّام.ويختفى خلف منعطف خشبي، بقيت الفتاة في مكانها، رأت سلمًا خشبيًا يؤدي إلى الدور الثاني.مشت على ألواح السلّم بحذر، وفي كل خطوة بدا أن السلّم سيسقط بها.وجدت غرفتين أمامها، لمحت مسمارًا كبيرًا يخترق لوحًا خشبيًا، وعليه خاتم فضي.سحبت الخاتم من على المسمار، ومسحته بثوبها، وفحصته ووجدته يحتوي على رسومات بدائية، وضعته بإصبعها.شعرت بالبرد يكتسي جسدها، وهبت رياح قوية من النوافذ تدكّ باب الكوخ بقوة حتى تغلقه، أغمضت عينيها للحظات قليلة، فقد دبّ الرعب فيها.أخذت نفسًا طويلاً، جعلت صدرها يتنهد بوضوح، فتحت أول غرفة أمامها، هرول غراب آخر منها... مذعورًا:غااق... غاااق.بقي يطير في المكان حتى وجد فتحة صغيرة في سقف الكوخ فرّ منها.غرفة واسعة، وبيانو عتيق، وأمامه كرسي خشبي، يكسوه الغبار، ابتسمت أثناء رؤيتها البيانو، مسحت الغبار بمنديل ورقي، وجلست، أغمضت عينيها، وتنهدت طويلاً.تركت أصابعها تعزف على البيانو، وراحت تبتسم بذهول. توقفت فجأة عن العزف ورفعت أصابعها إلى أمام عينيها، وصاحت:لا أصدق... لا أصدق.دخل إليها فرانك راكضًا، وصاح:هل كنت تعزفين... هل هذا الذي سمعته كان عزفك؟!!هزت رأسها وكتفها معًا... وقالت مبتسمة:نعم... كان عزفي... أتصدق؟!!ضحك، ودار حول نفسه راقصًا:يا إلهي... لا أصدق. أنت لا تجدين العزف على أي آلة موسيقية.حركت رأسها بطريقة مسرحية وتركته يميل شمالا ويمينًا. ثم رفعت أصابعها إلى أعلى من رأسها وأنزلتهما على البيانو. وراحت تعزف كالمحترفين.كان فرانك ينظر إليها بإعجاب ودهشة كبيرة فاغرًا فمه كالأبله وكان يصفق لها في كل مقطع موسيقي.ثم وقفت وراحت تنظر من حولها وكأنها على خشبة مسرح وتحيي الجهمور، والتفتت نحو صديقها بكبرياء وغرور:ما رأيك بعزفي؟ضحك فرانك وعلق:ما رأيك بعزفي؟ كم أتمنى أن أرى وجه مدرّس الموسيقى.خطت إلى الخارج قائلة:سأرى الغرفة الأخرى... تعال.وخرجت.توقفت أمام باب الغرفة مترددة، شعرت برعشة ترج جسدها، بدأت تعرق، أدارت مزلاج الباب ودخلت.غراب آخر واقف على نافذة صغيرة في أعلى الغرفة.غاااق... غااااق.كان أكثر هدوءًا، حاولت أن تخيفه وتبعده بحركة من يدها، لم يتحرك، بدا جريئًا ومتحديًا لها.لمحت كتابًا كبيرًا على رفّ صغير، يكسوه الغبار، مسحت الغبار عنه بكُم ثوبها، وشرعت في فتح صفحات الكتاب.سمعت صرخة صديقها فرانك، رمت الكتاب، وخرجت راكضة، وجدته واقفًا مذعورًا في الدور الأرضي.سألته بدهشة وهي تترجل السلّم:لماذا تصرخ؟أشار بيده نحو اللوحة المعلقة على الجدار.تمتم بصوت متهتك:لـ... قد... اختفى الكل... بــ.تراجعت الفتاة إلى الخلف مذعورة وأمسكت بفرانك من كتفه، ثم صرخت:لنخرج من هذا البيت الملعون.وركضا معًا نحو الباب، حاولت فتحه، لكنه كان موصدًا.فرانك الباب مغلق.النافذة. لنخرج منها.ركضا معًا نحو النافذة، تراجعا فجأة إلى الخلف بذعر شديد، كان الكلب واقفًا في الخارج ويحدق بهما.يطير غراب فوقهما:غاااق... غاااقيركضان نحو الدور الثاني، غرفة البيانو مغلقة، يركضان إلى الغرفة الأخرى، ويدخلان، يغلقان الباب خلفهما، وتسقط الفتاة باكية.يحاول فرانك أن يحضنها، إلا أنها تدفعه بعيدًا، وتصرخ به:انظر... أين نحن... هذه رغبتك اللعينة... انظر كيف أوقعتنا.يصرخ فرانك وهو يشير بيده نحو رأسها:هذا خطؤك أنت... أنت من سلك هذا الطريق، كان عليك أن توقظيني من النوم بدلا من البكاء الآن.مضت نصف ساعة، أشعل سيجارته الأخيرة، ثم ناولها، حيث كانت جالسة وظهرها على الجدار.ماذا نفعل الآن؟!سنخرج. قبل أن يأتي الظلام.ثم تساءل فجأة وهو يشاهد الكتاب لأول مرة:هل ذاك كتاب؟!قال ذلك ونهض، حمل الكتاب، وراح يفحصه.تمتم بدهشة:أي لغة هذه؟!نفخت سيجارتها، وقالت دون أن تنظر إليه:أسرار مخيفة.تقصدين أن هذا الكتاب يحتوي على أسرار.حركت كتفيها دون مبالاة:لا... هذا اسم الكتاب «أسرار مخيفة».يقترب منها، وبكثير من الدهشة:أتفهمين لغة هذا الكتاب؟نظرت إليه متسائلة:أي لغة.مدّ لها الكتاب، وراحت تحدق بعنوانه بذهول، أحرف الكتاب رسمت بعظام بشرية، بكلمات غريبة.لا أدري... لكني لا أجد صعوبة في قراءة عنوان الكتاب.هزها فرانك من كتفها:انظري إلي، لم تتعلمي هذه اللغة في حصة اللغات.يا إلهي... هذه ليست لغة... لا أدري. أشعر بالذهول من نفسي.ما الذي يحدث في هذا البيت اللعين؟! تعزفين البيانو فجأة، وفجأة تقرأين هذه الأحرف اللعينة.صرخت:هذا البيت يخيفني.غاااااق... غاااق.ظهر الغراب فجأة من نافذة الغرفة، وراح يحدّق فيهما بحذر.فتحت أولى صفحات الكتاب، وراحت تقرأ بصوت سريع ومرتعب:«سيفقد الكثيرون سيطرتهم على أنفسهم، ستجد نفسك الوحيد من يملك قواهم، وينشر الخوف بينهم، وحين تسمع نباح الكلب الأسود تأكد أنك في خطر من قوى أقوى منك».أغلقت الفتاة الكتاب بقوة وتناثر الغبار منه، كان فرانك ينظر إليها ويستمع بذهول.تمتمت:ما قصة هذا الكلب؟!!لنخرج من هنا... الآن.خرجت من الغرفة وهو يسألها:ألن تتركي الكتاب؟لا... سآخذه معي.توقفا أمام باب غرفة البيانو. سمعا عزفًا، ارتجفا.البيانو!!أنا خائفة فرانك.انتظري هنا.