مأساة السياسة الخارجية الأميركية

نشر في 12-08-2013 | 00:01
آخر تحديث 12-08-2013 | 00:01
No Image Caption
صحيح أن العلاجات السريعة، مثل فرض منطقة حظر جوي أو تسليح الثوار، قد تسقط الدكتاتور السوري بشار الأسد، إلا أنها قد تورط الرئيس الأميركي باراك أوباما في عملية تمكين نظام سنّي جهادي، خصوصاً مع بدء عمليات التطهير الإثني ضد العلويين.
 Robert Kaplan طوال أكثر من سنتَين، تحوّلت الحرب الأهلية في سورية إلى مرادف للأصوات المنادية بإلحاح الوضع الأخلاقي والإنساني في هذا البلد. يحض مَن يدعون إلى تدخل عسكري أميركي لتصحيح الوضع السوري الولايات المتحدة على "اتخاذ أي خطوة"، مع أن جبهات القتال باتت تضم اليوم مئات المجموعات التابعة للنظام والثوار، ورغم أن الثوار بدأوا يتقاتلون في ما بينهم، وأمام هذا الواقع يستدرك مؤيدو التدخل، قائلين: "آه! لو أننا تدخلنا في وقت سابق".

لا تُعتبر سورية حالة استثنائية، فقبل سورية، طالب مناصرو حقوق الإنسان عام 2011 بتدخل عسكري في ليبيا، مع أن نظام معمر القذافي تخلى عن برنامجه النووي وكان يتعاون طوال سنوات مع وكالات الاستخبارات الغربية. رغم ذلك، قادت الولايات المتحدة وفرنسا التدخل. نتيجة لذلك، باتت ليبيا اليوم شبه دولة. ولم تعد طرابلس عاصمةً بقدر ما هي اليوم نقطة ضعف في عملية تحكيم تذكّر بعهد الاستعمار بين الميليشيات والقبائل والعشائر المختلفة، في حين أن كيانات الصحراء الكبرى المجاورة تعاني فوضى عارمة نتيجة الأسلحة التي تدفقت من ليبيا.

حفلت تسعينيات القرن الماضي بالدعوات المطالبة بعمليات تدخل إنسانية: في رواندا حيث ذهبت معظم هذه الدعوات سدى، وفي البوسنة وكوسوفو حيث حقق التدخل (وإن متأخراً) نجاحاً كبيراً. فبعد التحرر من ضرورات الواقعية السياسية التي سادت الحرب الباردة، حاول أنصار التدخلات الإنسانية في العقدين الماضيين تحويل السياسة الخارجية إلى وجه من أوجه منع ارتكاب الإبادات الجماعية. نتيجة لذلك، باتت المحرقة النازية حادثة فريدة في التاريخ البشري لم نشهد لها مثيلاً في عصرنا. حتى إن السياسة الخارجية بعد الحرب الباردة تأثرت كثيراً بها، فتبنى مؤيدو الخطوات الإنسانية الشعار: "مسؤولية الحماية".

لكن السياسة الخارجية يجب ألا تقتصر على "مسؤولية الحماية" و"لن تتكرر مطلقاً". فقلما يصب رجال الدولة كل اهتمامهم على التدخلات الإنسانية وحماية حقوق الإنسان، متجاهلين أي اعتبارات أخرى. وعلى غرار أي أمة أخرى، تملك الولايات المتحدة مصالح تتضارب أحياناً مع قيمها، وخصوصاً لأنها قوة عظمى، وهذا بالتأكيد واقع مؤسف، بيد أنه يبقى واقعاً علينا الإقرار به وتقبّله.

ما هذه المصالح البالغة الأهمية؟ على الولايات المتحدة، بصفتها قوة مهيمنة في النصف الغربي من العالم، أن تمنع أي قوة أخرى من ممارسة الهيمنة والنفوذ ذاتهما في النصف الشرقي، ولكن بما أن الولايات المتحدة قوة ليبرالية، تُعتبر مصالحها غالباً أخلاقية، حتى إن لم تكن مرتبطة مباشرة بحقوق الإنسان، إلا أنها أخلاقية بالدرجة الثانية، فالسعي لتعديل ميزان القوى بما يخدم مصلحة مجموعة ما شكّل على مر التاريخ مشروعاً غير أخلاقي حاولت تطبيقه القوى الليبرالية وغير الليبرالية على حدّ سواء. رغم ذلك، عندما تسعى قوة ليبرالية، مثل الولايات المتحدة، وراء هدف مماثل بالحؤول دون نشوب حرب بين دول كبرى، تتصرف بطريقة أخلاقية بحت.

لا شك أن الحرب العالمية الثانية شملت الكثير من التسويات البشعة وحتى الأخطاء من جانب الرئيس فرانكلين د. روزفلت. فقد تأخر في انضمامه إلى الحرب في أوروبا، لم يقصف سكك الحديد المؤدية إلى معسكرات التعذيب، ولم يتعاطَ بحزمٍ كافٍ مع روسيا في مسألة أوروبا الشرقية. ولكن بصفته رجلاً يمثل مصالح ملايين الغرباء الذين صوتوا أو لم يصوتوا له، كان هدفه إلحاق الهزيمة بألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية بطريقة لا تكلّفه الكثير من أرواح الجنود الأميركيين والموارد الوطنية. ومن المؤكد أن إنقاذ ما تبقى من يهود أوروبا كان عاقبة أخلاقية لخطواته، إلا أن أساليبه شملت تنازلات تكتيكية تضمنت عناصر لا أخلاقية أساسية. أما أبراهام لينكولن من جهته، فقد تسبب بعذابات كبرى للمواطنين الجنوبيين في المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية بهدف إلحاق هزيمة حاسمة بالجنوب.

إذن، من الممكن للأهداف اللاأخلاقية أن تؤدي إلى تأثيرات أخلاقية، إن طُبّقت بالطريقة المناسبة. ففي التاريخ الأكثر حداثة، سارع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر إلى مدّ إسرائيل بالسلاح عقب تعرضها لهجوم مباغت من الجيوش العربية في خريف عام 1973. أخبر هذان الرجلان مؤسسة الدفاع الأميركية في البداية أن دعم إسرائيل في أحلك الظروف عمل صائب. فكان من الضروري توجيه رسالة واضحة عن التصميم الأميركي إلى الاتحاد السوفياتي وحلفائه العرب في مرحلة حساسة من الحرب الباردة. ولو أنهما عللا عملية نقل الأسلحة هذه بالتحدث عن دعم اليهود في مرحلة ما بعد المحرقة، بدل أن يثيرا مسألة توازن القوى، لاعتُبرت حُججهما واهية في واشنطن، حيث يولي المسؤولون على نحو صائب مصالح الولايات المتحدة أهمية أكبر من مصالح إسرائيل. علاوة على ذلك، يُعتبر جورج ماكغفرن على الأرجح رجلاً أكثر أخلاقاً من نيكسون وكيسنجر كليهما. ولكن لو انتُخب رئيساً عام 1972، هل كان سيتصرف بالحكمة والحزم عينهما خلال حرب الشرق الأوسط عام 1973؟ إذن، يُظهر الواقع أن الأخلاق الفردية، كما أدرك ماكيافيللي، لا تُعتبر بالضرورية مزايا عامة.

يُعتبر التدخل في البوسنة وكوسوفو عامَي 1995 و1999 دليلاً على أن الولايات المتحدة تكون أكثر فاعلية عندما تتصرف بما يتلاءم مع قيمها الإنسانية، بغض النظر عن مصالحها غير الأخلاقية. لكن مَن يقدّمون هذه الحجة يتناسون أن هذين التدخلين حققا النجاح لأن الولايات المتحدة كانت تعمل في البلقان وميزان القوى مائل بشدة إلى مصلحتها.

إذن، عندما نطرح المسائل الأخلاقية بصفتها الحكم الوحيد، لا نتعاطى مع السياسة الخارجية بجدية. لا شك أن "مسؤولية الحماية" يجب أن تؤدي دوراً كبيراً إنما واقعياً في شؤون الدولة. ولكن يجب ألا تكون العامل المسيطر. وتُعتبر سورية المثال العصري الأفضل لذلك. تستطيع قوة الولايات المتحدة تحقيق الكثير. إلا أنها تعجز عن تنظيم شؤون مجتمع إسلامي معقّد تمزقه الحرب، وفي هذا الصدد، تُعتبر تجربتنا الكارثية في العراق ملائمة جداً. صحيح أن العلاجات السريعة، مثل فرض منطقة حظر جوي أو تسليح الثوار، قد تسقط الدكتاتور السوري بشار الأسد، إلا أنها قد تورط الرئيس الأميركي باراك أوباما في عملية تمكين نظام سنّي جهادي، خصوصاً مع بدء عمليات التطهير الإثني ضد العلويين.

بما أن الدافع وراء مطالبات مؤيدي التدخلات الإنسانية يكون عادةً الحماسة إلى فعل الصواب، تُعتبر تلقائياً غير أخلاقي ولا تستحق أي مكافأة عندما تخالفهم الرأي. في المقابل، يعتاد الواقعيون الصراعات، لذلك من المستبعد أن يغالوا في ردّ فعلهم، فهم يدركون أن الحماسة والسياسة الحكيمة قلما تلتقيان.

ما من مجموعة من الناس أدركت هذا الواقع المؤسف أفضل من الرؤساء الجمهوريين خلال الحرب الباردة. فقد أقدم دوايت أيزنهاور، ريتشارد نيكسون، ورونالد ريغان، وجورج بوش الأب على ممارسات لا أخلاقية وخطوات واقعية وأعربوا عن ضبط النفس والتواضع في الشؤون الخارجية (وإن لم يكن ذلك دوماً). وعلينا أن نسترشد بحسهم المنطقي هذا في تحديد خطواتنا اليوم، فقد مثّل أيزنهاور تسوية عملية داخل الحزب الجمهوري بين الداعين إلى العزلة والمناهضين الشرسين للاتحاد السوفياتي. كذلك دعم كل هؤلاء الرؤساء أنظمة قمعية غير ديمقراطية في العالم الثالث كي يحافظوا على أفضليتهم في ميزان القوى ضد الاتحاد السوفياتي. فاعتبر نيكسون الأنظمة العنيفة في الاتحاد السوفياتي والصين الشيوعية شرعية، فيما عمل على تأليب أحدها على الآخر. وتحدث ريغان بلغة ويلسون عن إعادة التسلح الأخلاقي، بيد أنه عمد في المقابل إلى منح المناصب البيروقراطية الأهم في السلطة إلى واقعيين مثل كاسبار وينبرغر، وجورج شولتز، وفرانك كارلوتشي، الذين خففوا من وطأة خطاب ريغان. أما بوش الأب، فلم يقطع العلاقات مع الصين بعد انتفاضة ميدان السلام السماوي (تيانانمين). كذلك لم يسارع إلى التعهد بدعم ليتوانيا، بعد أن أعلنت هذه الدولة الصغيرة الجريئة استقلالها، مخافة إثارة استياء الجيش السوفياتي.

هذا هو بيت القصيد: تُعتبر السياسة الخارجية في أفضل أحوالها لينة، ومبتكرة، ومتناقضة، وجريئة حقّا في مناسبات محددة، وتعي بقدر ممارسيها حدود القوة الأميركية. وهذا مؤسف لأن الكثير من الدعوات المطالبة بتخفيف معاناة الشعوب ستذهب سدى في حالات عدة. فجوهر السياسة الخارجية لا يقوم على انتصار الخير على الشر، بل على انتصار خير على خير آخر يسبب معاناة.

back to top