في حِضنِ الجنيّة
الأوّل
تصوّر هذه الأجواء!ليكن مكانًا مؤاتيًا للبوح. لك أن تتكلّم وليس من يقاطعك. يُنصت إليك من بجانبك لأنك سدّدت الحساب. يتابعك النديم لأنك دفعت عنه. أو ليكن بالأحرى مكتبًا فارغًا بعد الدوام وقد استبقيت السكرتيرة، أو قل أريكة في عيادة.بوسعك أن تتكلم، فما تقوله لن يستخدم ضدك.يبدو أننا متفاهمان؟ أليس كذلك؟ لمَ لا تتصور هذه الأجواء كما نصفها لك؟ كما رسمناها لك؟تخيّل أن الكلمات تستعصي عليك. أنت لا تدري لماذا الحرج في الأمر، ولا حتى من أين تبدأ. فهذا المرض، مرضك، لا تريده أن يستشري في جوارك. قد يتحول عنك. إذًا ترجئ الكلام إلى ما بعد، إلى غد على وجه الاحتمال.غادر الروّاد الحانة ولم يبق من يجالسك. لا أحد إلى جانبك. ما من أحد يشرب. تشعر السكرتيرة بشيء من الخجل بعدما استبقيتها. لم تخالفْ رغبتك وحسنًا فعلتْ. فالحال أنه ولمرة واحدة لم تعد تذكرها تمامًا، جاءت تلك اللّمسة الخاطفة. امتدّت إليك يدٌ. يدٌ كأنها لعنة العمر. حرّكتْ فيك مكامن الرغبة. وإذّاك ولّى زمن التسكّع وكذلك تنكيد الأيام.على المريض أن يمتنع عن العقاقير بعد زوال احتمال الانتكاسات هذا هو الأمر. تأسف له.هل استعدْتَ قواك بشكل كافٍ؟ ردّد معي! تثبَّت من صحّة شعورك.لم تعد رائحة النرجس تفوح. ذاك العطر المكثّف الخانق الذي كان يتضوّع في ما مضى. إنه بالأحرى الزمن الجديد، زمن انفكاك عقدة اللسان. عهد الكلمة المستعادة بعدما استهلك كل شيء من دون أن تدري.لا تكبت ما عندك هذه المرة، فغالبًا ما فاتتك الجرأة.لك أن تتذمّر. لك أن تطالب بالتروّي وضبط النفس. لا يحق لتلك اليد أن ترتعش، ليس لها أن ترأف بك. ليس لها أن تجمح وتستشيط. الاتفاق يقضي بأن تبقى هذه اليد عفيفة.أنصتْ إليّ. ما أريده هو أن تتكلم.أو بالأحرى، بدلاً من أن تتكلم، لمَ لا تترك بعض المدوّنات؟ قد تكذب كما فعلت مراتٍ من قبل بحياءٍ أو بدون حياء.لم تعد الحال كما مع روّاد الحانة ولا كما في دار راحة. أنت الآن في نزل عائلي في مدينة جامعية على ضفاف نهر. هذه المدوّنات الملفّقة رميتها على مكتبك. أنت تعلم أن الآنسة بارعة تسترق النظر إليها وأنها ستقرأها. لا بدّ ولا بأس. فأنت واثق من أنها ستذرف دمعة سريعة. هي تعرف أنك تعمدّت ذلك لتستثير مشاعرها. أنت تريد الكلام وتريد من ينصت إليك.هل تكلّمْتَ وبحتَ بكل شيء؟ هذا ما رحتَ تصدقه. سألتك أن تسمح لها بالتمدد بجانبك. تبرّر ذلك: «أنا مرهقة!» وفيما أنت لم تجب، ظلت هي واقفة بعدما تحفّتْ. فإذا أمامك صبيّة شابّة حافية القدمين، مسلوبة الإرادة.حتى الآن سارت الأمور على ما يرام. يبدو أنك تتذكر كل ذلك! تكلّمتَ، رويت القصة من آخرها. هكذا تستكشف الأنهار الموبوءة.حدث كل هذا فجأة. متعة تغمرك وأنت تفصِّل الرواية، متعة عنيفة تنبع من الاعتراف الكامل. لكنك تحبسها وتباعد بين المراحل. ففي نهاية المطاف يأتي الشفاء من الانفجار. لكنك لا ترغب في شيء من هذا. مع انتهاء فترة نقاهة طويلة يخمد الداء، لا يتبقّى سوى المراحل النهائية، العقاقير الأخيرة. وإذّاك قطعت العلاج، رفضت العافية لأنك ألفت هذا المرض. كذا هي المسألة على حقيقتها. هنا يكمن سرّ وضعك. هذا الداء ما هو إلا أنت. ولذلك تتمسّك بمرضك ولا تحاول افتداء نفسك.تعال نتذكّر معًا، نسترجع الماضي. إلى جانبك فتاة، ممرّضة أو سكرتيرة أو طالبة جامعية، ما همّ؟ استغلّ وجودها، هي تلازمك وفي اعترافك شفاء، أعِدْ على مسمعي، على مسمعها.ما زلتَ متردّدًا، لا تقوى على البوح. ها هي الممرّضة في خدمتك، تتوسّل إليك، تشدّ على يدك.أنت تصدّها وقد عانيت الكثير من الأطبّاء ومن أجواء المستشفيات. لعلّك تفضّل السّكرتيرة التّي واكبت عملك. تصوّر أنّها إلى جانبك، تقدّم لك القهوة وأنت تعطيها التّعليمات، إلاّ أنّك لا تتجاوب. ربما تودّ العودة إلى فترة كنت تمازح الطّالبة الجامعيّة العفيفة. هي تدعوك إلي التّعرّف إليها. هي غبّ طلبك قبل ان تختلط عليك الأمور مجدّدًا. تنصت إليك. فلمَ لا تواكبها كي يتمّ ما كتب، فتستريح!الثاني إنها حكاية بسيطة انزلقْتَ إليها. حكاية لم تلعب فيها دورًا محددًا. غرقتَ فيها على حين غرّة. على كرسي اتهام أمام اللجنة تحاول أن توضح الأمور. لو ترك لك الكلام لاسترسلتَ. إنما طُلبَ إليك أن تخرس، أن تنسى. هكذا وبكل بساطة، فالتزمت. لن تطالب بأي تعويض، لن تلاحق. هذا ما أفهموك إيّاه! والرجاء ألا تظهر مجددًا. لا داعي لتبرير موقفك، على أي حال لم يترك لك الخيار. لا، لا تحاول أن تبرّئ نفسك. قيل لك إن المشكلة طي الكتمان. إنسَها، هيا، إرحل. تمنوا عليك أن لا تأتي على ذكرها من بعد، وألا يسمعوا باسمك مجددًا.لن تكسب النقاش هذه المرة. أفحموك والحكم مبرم.***وقفت بجانبك شابة، نحيلة الجسم.أنتما مقابل بيت الحجارة السوداء، المطلّ على الموج. فماذا كُتب لكما؟أكنت تعلم بأنها مصابة وبأنها تعاني من مرض وراثي؟ تناهت إلى مسامع العائلة بعض المخاوف. ففور الإعلان عن زواج نسيبتك، بلغكم بالتواتر أن في أسرة خطيبته أفرادًا منحرفين غريبي الأطوار. لكنّ النسيب أصمّ أذنيه وغضّ النظر.إذن كنتَ تعلم، أو أقلّه استشعرت الخلل. وبالطبع لم يكن في نيتك التسبب بأذى. في شتى الأحوال لم يقم على ذلك دليل. كان عليك توخّي الحذر ومراعاة القواعد البديهية. المزيد من الدّقة، هذا ما كان متوقعًا منك. وها هي النتيجة تتجاوز النوايا. أليس عليك تحمّل تبعات أفعالك في سياق الأمور الطبيعي؟ فإن لم يقصدها المسبِّب مباشرة، كان عليه أن يتوقع التداعيات. ما دامت الاحتمالات واردة. والحال أنه تم التعامل مع الأمر بخفّة ورعونة.دنتْ منك الفتاة بشوشة الوجه، وأجواء الاحتفال طاغية على صوتها. ذلك تمامًا بعد الانتهاء من مراسم الإكليل. لم تهتم كثيرًا لكلامها، فهي تكرره بإصرار. ربما أدركَتْ أنك تتجاهلها، أنك تتعمد ذلك. ألا تريد أن تعرف من هي؟أنا شقيقة العروس، أُدعى راحيل.اقترن نسيبك بأختها. أصبحتما أقارب. أهذا يقيم بينكما الروابط؟ماذا حاولتَ أن تقول تحديدًا؟ تصاهرتِ العائلتان، هل يفرض ذلك اعتبارات خاصة تجاهها! لم تكن بوارد صدّها، ولم تنته بعد حفلة العرس. هي شقيقة العروس.لربما ابتسمتْ لك، وطلبْتَ إليها أن تلحق بك. تخرجان إلى شاطئ البحر، إلى الرمل. الجو بارد، وهي مكشوفة الكتفين. ندبة على كتفها العارية، لا حرج في أن تحدّق فيها. ولربما رضيت بالبقاء على الرمل لو طلبتَ منها، لو أنك ألححْتَ عليها.لماذا كنت تتفرّس بها هكذا؟ لم تتسبّب لك بأذى! ثم لم تكن تعرف عنها شيئًا، لا شيء عن اللوثة المنطبعة فيها. لا يحقّ لك أن تسخر منها! وإلا لثارتْ عليك. هي لا تريد أن تتحوّل أضحوكة بين الناس! لربما أرادت أن تمنحك الصداقة. أنت شخص يركن إليه. لاستمعتْ إليك على الأقل. أرادتْ أن تأخذ وقتها، أن تعود إلى الماضي وأن تستخلص العِبر. وإذا بالعالم على عجلة من أمره.أتزورها؟ هي لا تغادر منزلها في فترات ما بعد الظهر، ستقدّم لك الشاي أو مشروبًا روحيًا، تستمعان إلى الموسيقى، وهي تدرك ما في هذا الاقتراح من خروج على المألوف. ما همّك من كل هذه الأمور؟ هي تعلم أنّ لديك ارتباطات. هل سافرْتَ من قبل؟ أزرْت البلدان البعيدة حيث الكثير لتكتشفه. لم يكن عندها ما تمنحه سوى هذا السكون فيما بعد الظهر حيث يجمد كل شيء أو يتحرّك بعيدًا عن الضوضاء. كان عليك أن تزورها إذا أردتَ الخروج من الدوامة.لكن ما الذي يمكنها توفيره لك مما لا تملكه أنت؟كيف لها أن تتكهّن الأمور، لم تُمنح تلك الطاقة، وإلا لحقّقتِ المعجزات! كم من الأشياء تفوتها! لو تمتّعتْ بهذه الموهبة لما عاشت يومًا بيوم. كم تمنّتْ أن تكون بصيرة بالأمور، تستكشف عالم الغيب! أخبرتك كم هي تعيسة، أنها تحدس بالأسوأ، كل هذا سينتهي على ما لا يرام. ما كان عليها أن تحدِّثك عن هذه الأمور.لِمَ لا تأخذ حذرك منها فلا تنساق وراءها؟ أفاتتك الشجاعة لكي ترفض، لكي تتراجع؟ ربما هذا ما سعتْ أن تقوله لك.لقد أحسَّتْ بالعطش. لا تبعدْ كأسك عنها!تفضَّلي! لكن أريني أولاً يديك، يفترض أن تكونا جميلتين، مُتقَنتين.ليست يداي ملكًا لأحد، ولا حقّ لك بهما! ثم إني لم أتعرَّف بكَ إلا منذ قليل! لا تطلب أن أخبرك كيف ولماذا هذه النّدبة في كتفي!تظاهرْت بأنك لم تفهم. وإلا لجرحْتَ شعورها وانكسرت نظراتها كطفل تائه، كفتاة مشرّدة مُزِّق قميصها، فكتفت يديها على صدرها لتستر عريها في وجه كل ما في هذا العالم من خبث.لذْت بالصمت، تذكرتَ أنك المهزوم. والفشل متلاحق. طفَتِ المرارة على وجهك وأحسسْتَ في فمك لذع طعمها.غابت راحيل عنك ثم عادات إليك. تتحدث باشمئزاز عن فجور المدعوين إلى العرس وعن اصطناعهم البهجة.