المصريون ليسوا «البؤساء»
يجب أن يُستغَل الاندفاع الإنساني العالمي في الأعمال الخيرية. ويختلف هذا كل الاختلاف عن اندفاعنا للانتقاد والتدخل في سياسات دول أخرى. فبالإضافة إلى انتهاك سيادة هذه الدول، يؤدي هذا التدخل عادة إلى نتائج معاكسة على الصعيد الإنساني، تماماً كما حدث في أفغانستان والعراق.
متى لا يكون الانقلاب انقلاباً؟ عندما يكون على ما يبدو "انقلابنا"، انقلاباً للأفضل، انقلاب الأخيار ضد الأشرار. سارع الدبلوماسيون في لندن وواشنطن إلى التأكيد أن الحوادث الأخيرة في مصر ليست انقلاباً، بل "واقع مسلم به"، حجر عثرة في "خارطة الطريق نحو الديمقراطية". فقد رأت الحكومات الغربية، التي تتدخل في شؤون الشرق الأوسط، أن من الأفضل التمييز بين الانقلابات و"التدخلات العسكرية الحسنة النوايا".يعرّف معجمو الانقلاب بأنه "إطاحة مفاجئة وعنيفة بالحكومة... خصوصاً من قبل الجيش". وفي مصر، احتل الجنود المطار والإذاعة، اعتقلوا رئيساً منتخباً، وبدأوا بتوقيف نحو 300 من قادة حزبه. ثم عيّنت قيادة الجيش، التي تنعم بنحو 1.3 مليار دولار من الأموال الأميركية، رجالها في عدد من المناصب، "بانتظار" انتخابات جديدة. وأعتقد أن هذه الانتخابات ستؤدي إلى فوز سياسي مختلف غير الرئيس المنتخب الأخير، محمد مرسي، لأنه يقبع اليوم في السجن.صحيح أن مرسي فاز في الانتخابات بفارق بسيط، إلا أنه يظل الفائز. وتقوم شعبيته على تأمين الأمن والنظام للناخبين وسط الربيع العربي المضطرب. إلا أنه بدأ يتجه نحو الاستبداد، مروّجاً لدولة ذات حزب واحد. كذلك حدّ من صلاحيات المحاكم وأعاد صياغة الدستور. ولكن هل شكّل هذا "انقلاباً دستورياً" برر الانقلاب العسكري المضاد؟ لايزال هذا السؤال مثار جدل. في مطلق الأحوال، بالغ مرسي في تصرفاته. صحيح أنه وصل إلى السلطة بوسائل ديمقراطية، غير أن ممارسته الحكم لم تكن كذلك. ولاشك في أن سقوطه كان بعيداً كل البعد عن الديمقراطية.زرت مصر وأحبها، بيد أني لست خبيراً بشؤونها. المصريون وحدهم يعرفون بلدهم حق المعرفة. إلا أنني آلف جيداً تعليقات الغرب الراهنة بشأن الأزمات التي ظهرت في أعقاب الربيع العربي. تتجلى هذه الآراء من خلال محاضرات، وأحكام، واقتراحات متطفلة. يبدو المصريون اليوم عالقين في مرحلة من عدم اليقين واليأس.ولاشك في أنهم يستحقون أن نتركهم بسلام. لكننا نتعامل معهم، بدلاً من ذلك، بلغة كانت تُستعمل في دور الحضانة خلال العهد الفيكتوري.عبّر باراك أوباما عن "قلقه العميق" حيال ما يجري في القاهرة. إلا أنه لم يستطع أن يصف ما حصل بالانقلاب، لأنه هو مَن موّله في النهاية. ولم يأتِ وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ بجديد، بل اكتفى بتكرار كلماته الفارغة: "أدعو كل الأطراف إلى الإعراب عن ضبط النفس وتفادي العنف". وحذّر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الجنرالات وحضهم "على التعامل مع حاجات ومخاوف كل المصريين". أما ممثلة الاتحاد الأوروبي الليدي آشتون، فحرصت على "إدانة كل أعمال العنف". صحيح أننا لا نعرف آراء سائر دول العالم، إلا أنها تظن على الأرجح أن مصر ليست من شأنها.فرح السياسيون الأميركيون والبريطانيون بالربيع العربي. جذبهم سحر الحشود. فسارعوا إلى القاهرة وطرابلس، فيما كانت الأنظمة المحلية تترنح، وراحوا يثنون على منارات الديمقراطية الغربية هذه: فمن ضواحي بغداد إلى أسواق تونس، سيحمل نسيم منعش للعرب الحرية، والرأسمالية، وتحرر المرأة. وسيتدفق النفط، وتعيش إسرائيل بأمان. لذلك تحدث أوباما في القاهرة "عن فجر بداية جديدة". وأخبر ديفيد كاميرون الناس في بنغازي أنهم "مصدر إلهام للعالم". وهكذا اختلطت أسود المحافظين الجدد بحملان التدخل الليبرالي. لكن القاهرة لم تكن بداية جديدة ولم تتحول بنغازي إلى مصدر إلهام. حتى في الأماكن التي لم تنشر فيها أذرع الغرب الموت والدمار في العالم الإسلامي، أثار الخطاب الغربي توقعات غير منطقية بين فئات الشباب في المدن. نتيجة لذلك، اختار الناخبون في كل الدول التي باتت "آمنة لتطبيق الديمقراطية"، حسبما يُفترض، نظم الإسلام السياسي المحافظ لا العلمانية الليبرالية. وهكذا سعت الديمقراطية في أولى خطواتها إلى الأمن لا الحرية.في معظم الحالات، دعَّم الرأي العام البريطاني المجموعات المتمردة ضد النظام، كما لو أنه في مشهد من رواية "البؤساء". ومع بداية الانتفاضة السورية، كان هذا الرأي العام يفترض أن المتمردين العرب هم دوماً على حق، وأنهم سينتصرون باستمرار. وظل البريطانيون متمسكين بوجهة نظرهم هذه، حتى عندما اتضح العكس، كما حدث في البحرين، أو عندما تطلب الوضع تبريرات أخلاقية، كما في مصر. ولكن سرعان ما تبيّن أن هؤلاء المتمردين أصدقاء كثيرو التقلب. يحذّر كيبلينغ أن كل جماعة متمردة "تتعالى وتتكبر كثيراً /ينتهي بها المطاف إلى تدمير إنجازاتها/ وتوصل نفسها إلى الهلاك".يجب أن يُستغَل الاندفاع الإنساني العالمي في الأعمال الخيرية. ويختلف هذا كل الاختلاف عن اندفاعنا للانتقاد والتدخل في سياسات دول أخرى. فبالإضافة إلى انتهاك سيادة هذه الدول، يؤدي هذا التدخل عادة إلى نتائج معاكسة على الصعيد الإنساني، تماماً كما حدث في أفغانستان والعراق. فما الإيجابي في الحصول على حرية الاقتراع بفضل الجهود البريطانية والأميركية بعد مقتل مئات الآلاف من المسلمين؟تُعتبر رغبة بريطانيا في وضع العالم الإسلامي على المسار الصحيح قديمة قدم التاريخ. تتغلغل هذه الرغبة في جينات كل سياسي أو دبلوماسي بريطاني، كما لو أن طيف لورانس العرب مازال يهيم في مقر الحكومة البريطانية. على سبيل المثال، كان اللورد كارينغتون يحاول تسوية أوضاع الشرق الأوسط حين غزت الأرجنتين جزر فوكلاند. ولا يستطيع توني بلير الكفّ عن التعاطي بشؤون تلك المنطقة، حتى بعد خسارته منصبه ونفوذه بوقت طويل.مازلت أذكر زيارتي القوات المتعددة الجنسيات في لبنان خلال الحرب الأهلية عام 1982. سألت حينذاك عن مخيم صغير في منتزه، فقيل لي إنه مساهمة متواضعة من إيطاليا: مستشفى ميداني كبير. وعندما سألت عما قدمته بريطانيا، كان الجواب: "مساعي مسؤوليها الإيجابية لحمل الطرفين على التوافق". ولا داعي للتفكير مطولاً في أي من هاتين المساهمتين كانت الأجدى. تنبع رغبة بريطانيا هذه من قرن من الإمبريالية تلاه نصف قرن من التدخل العسكري من السويس إلى ليبيا.لو عامل قادة دول أجنبية بريطانيا بالطريقة عينها لاشتعلنا غضباً. لو أنهم أصدروا الأحكام في مسائل مثل ايرلندا الشمالية، والعلاقات العرقية، أو التهرب من الضريبة لاعتبرت بريطانيا ذلك تطاولاً. ولو عبّرت حكومات سريلانكا، وإندونيسيا، وبورما، مثلاً، عن "مخاوفها" بشأن مجمع Mid-Staffordshire NHS Trust، واعتبرت السياسيين الفاسدين والقرارات غير الصائبة "أموراً غير مقبولة" لاستدعت وزارة الخارجية البريطانية سفراءها لتسمعهم بعض العبارات القاسية الحازمة. رغم ذلك، لا تنفك بريطانيا تمطر مصر بأفكارها المملة في سيل من النفاق المتعالي.يا لها من مفارقة أن يطلب المتظاهرون في القاهرة من الجيش أن ينقذهم من السياسي ذاته الذي أنقذهم أخيراً من الجيش! لكن هذه مفارقة مصرية، وعلى المصريين أنفسهم حلها. تُنتج كل ثورة واقعية سياسية خاصة بها. أما بالنسبة إلى فكرة أن الديمقراطية تحتاج أحياناً إلى الجيش ليحميها من السياسيين المنتخَبين الذين ينكثون بوعودهم، فعلينا أن نتذكر أن مقر Horse Guards Parade العسكري يقع على بعد أمتار قليلة عن مقر الحكومة البريطانية.