خليل الصليبي... عودة التشكيل إلى صباه

نشر في 11-06-2013 | 00:02
آخر تحديث 11-06-2013 | 00:02
No Image Caption
قبل نحو سنة، قدمت الجامعة الأميركية في بيروت معرضاً للفنان اللبناني خليل الصليبي (1870-1928)، وهو المعرض الاستعادي الأول الذي رأينا فيه تجارب الصليبي بشكل بانورامي، وقدّم لوحات من مجموعة خاصة من أعمال تمّ التبرّع بها للجامعة، وتحمل اسم «روز وشاهين الصليبي» (والدا واهب اللوحات طبيب العيون سمير الصليبي). وتشكل المجموعة نواة متحف للفن الحديث والمعاصر في حضن الجامعة، تضم نحو 60 عملاً، بينها 30 لخليل الصليبي وحده، والبقية لوحات اقتناها سمير الصليبي. هنا مقاربة لسيرة الصليبي وفنه.
خليل الصليبي أحد مؤسسي الفن الحديث في لبنان، ومن وجهة نظر النقاد، ترسم حياته وأعماله الخطوط العريضة لمرحلة حاسمة من تطور الفن في لبنان أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. مهد أبناء هذا الجيل الطريق لمهنة حديثة فيما كانت المنطقة تشهد تحولات تاريخية عميقة، وهي مرحلة يسميها النقاد بـ{النهضة اللبنانية الثانية}.

 يقسم النقاد مرحلة تأسيس هذه المدرسة إلى مجموعتين، الأولى ضمت خليل الصليبي وحبيب سرور وداود القرم (العشرينيات)، بينما ضمت الثانية مصطفى فروخ وعمر الأنسي وقيصر الجميل (الثلاثينيات)، وقد استفادت الثانية من خبرات الأولى مباشرة أو تأثراً.

وعلى رغم أهمية خليل الصليبي فإن الاهتمام به اقتصر على بعض الخبراء في الفنون التشكيلية مثل الناقدة مهى سلطان التي أصدرت كتاب {رواد من نهضة الفن التشكيلي في لبنان}. كذلك صدر كتاب عن الجامعة اللبنانية لطبيب العيون سمير الصليبي عن قريبه الفنان.

تفتحت عينا الصليبي الطبيب على جدران بيته مزدانة بلوحات اشتراها والده الدكتور شاهين الصليبي إثر مقتل الرسام الصليبي مع زوجته في حادث اكتنفه الغموض. واستعار المعلق السياسي حازم صاغية الحادثة  ليكتب مقالة طويلة (نشرت في كتابه {قضايا قاتلة}) عن واقع الثقافة الريفية التي تسيطر على {الحداثة اللبنانية} والصراع بين ثقافة الجبل وثقافة المدينة وكانت شخصية الصليبي وفنه ورحلاته ومقتله معبرة عن الواقع السائد.

فينوس دوميلو

بقي الصليبي مغموراً بالنسبة إلى الجيل الجديد بسبب عدم وجود معرض خاص للوحاته الموزعة لدى بعض العائلات اللبنانية. ولد في قرية بطلون اللبنانية، وكان الابن الوحيد لمخول وسعدى الصليبي. بدأ الرسم في سن مبكرة جداً مستعملاً آنذاك رؤوس عيدان الثقاب ثم ريشة الحبر والفحم الحجري والرصاص. آثر الرسم على الدروس، فيئس أهله من مستقبله، لكنه أصرَّ على ممارسة هوايته، فكان يرسم اللوحات ويبيعها، ويجمع المال منها. سنة 1886، دخل الكلية السورية البروتستانتية (الجامعة الأميركية في بيروت اليوم). لكنه في عام 1890 وخلافاً لمعظم فناني المنطقة الذين تابعوا تطلعاتهم الفنية في روما أو باريس، اختار أدنبره، عاصمة اسكتلندا. هناك التقى بالرسام جون سنغر سارجنت، وبتشجيع منه سافر إلى فيلادلفيا، حيث التقى وتزوج ملهمته الأميركية كاري أود.

عاش الصليبي مع كاري في أدنبره ثم انتقلا إلى لندن. حازت لوحته {فينوس دوميلو} الميدالية الذهبية في معرض أدنبره، ولأنه كان يبحث دائماً عن آفاق جديدة سافر  وزوجته إلى باريس ليتتلمذ على يدي بوفيس دو شافان، فحقق نجاحات ملحوظة وعرض في صالون المستقلين والتقى الفنان الإنطباعي بيار أوغست رينوار ووقع تحت تأثيره. وبعودته إلى لندن 1898، غدا رسام بورتريهات له تأثير أنتجته ثقافات  متعددة.

ضربة لون

حين عاد الصليبي إلى لبنان عام 1900 بعد 10 سنوات من الغياب، سكن في القنطاري في بيروت. مارس التعليم في الجامعة الأميركية وعمل على رسم صور أصدقائه ورجال الأكليروس. لكن زوجته كاري كانت الأوفر حظاً في رسوماته، واتخذ محترفاً له قبالة الجامعة الأميركية في شارع بلس، وسرعان ما أصبح موئلاً لنخبة المجتمع البيروتي وأهل الفن. وشجّع الصليبي كلاًّ من الفنانين قيصر الجميّل وعمر الأنسي على احتراف الفن والالتحاق بمحترفه (بين عامي 1921 و1923)، حيث تعلما مبادئ الفن، وأخذا عنه جرأته في تحقيق الشكل من أول ضربة لون، والسرعة في اصطياد ملامح الوجوه. وصرّح الصليبي للأنسي في مرحلة تخبطه إثر رحيل والده: {بأن الحياة تخلق كل يوم تاجراً ولكنها لا تخلق كل يوم فناناً}.

عوامل عدة جعلت الصليبي في دائرة الشهرة، فلوحته {الملائكية} أحد البورتريهات المرسومة لزوجته، أثارت الاهتمام في صالون باريس لعام 1922 بسبب {ألمعيتها الشفافة}، وتعرضها للسرقة، واستغرق العثور عليها شهرين ساهما في إشهارها وإشهاره. وتحدث كثيرون عن استعادتها بفضل تدخل نسيب كاري، سفير بريطانيا إلى فرنسا، وبمساعدة التحريات اللندنية. في هذا الغضون، كان الصليبي أدار ظهره للفن الديني، مركزاً على  الرسم {العاري}.

تذكر الدكتورة سارة روجرز في دراستها عن الصليبي التي وزعت في معرضه في الجامعة الأميركية، أنه يستشف من بعض لوحات المجموعة أن العقد الذي أمضاه الفنان في الخارج كان تكوينياً في تطوير لغته الشكيلية. وتقول الناقدة مهى سلطان التي أصدرت كتاباً عن تاريخ الفن اللبناني إن {خليل صليبي كان شخصية علمانية ودرس الفن في الجامعة الأميركية ثم في أدنبورغ في اسكتلندا، وتأثر بالكلاسيكية الموجودة في المدرسة الإنكليزية. ركَّزت الأخيرة على أهمية النموذج، النموذج الإنساني ومواصفات الجمال التي تتجلى من خلال اللمسة اللونية، بينما كان البناء في تصميم الشكل عند سرور والقرم النية الخطية. الفرق الأساسي بين الجيلين أن القرم وسرور كانت لديهما النية الخطية كأساس في التلوين فيماخليل الصليبي ولأنه درس في أدنبره تأثر بمرجعية توماس لورنس}.

بورتريه اجتماعي

اكتسب الصليبي شهرة كرسام بورتريه اجتماعي، منمياً السوق اللبنانية  التي أوجدها داود القرم. كان لفن البورتريه نصيبه بالرسم بفضل الأخير، فيما أدت حركة استيراد الأعمال الفنية الأوروبية المعروفة في مجال الديكور الداخلي إلى تنامي أذواق الناس باتجاه الاستمتاع بالمشاهد المرسومة واللوحات الفنية وأيقظت المواهب الكبيرة التي تفتحت في العقود الأولى من القرن العشرين، خصوصاً غداة الحرب العالمية الأولى. وبعد جيل الصليبي وسرور اللذين درسا في باريس، ترسخ التحول الذي شهده الرسم في العشرينيات. من ممارسة منعزلة، أو بالأحرى من شغل يقوم به هاوٍ، تحول الرسم على اللوحات الصغيرة، من هواية إلى مهنة  تجذب المواهب الفنية.

توضح سارة روجرز أنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون فن البورتريه قد ظهر كنوع شعبي في التمثيل. رسم الصليبي للكاتب أمين الريحاني ولأميل ضموط، المعلم في الكلية السورية الإنجيلية، قبض بالطلاء على اللغة البصرية للنهضة. ضومط والريحاني في ثلاثة أرباع القامة، بملابسهما الغربية النمط، وتعابيرها التأملية الصارمة- يكثفان طموح الرعايا الحديثين في بيروت العثمانية}. كان الصليبي نفسه عضواً في النخبة اللبنانية، رسم نفسه كثيراً، عرض نفسه كعضو في الطبقة البرجوزاية. إلى جانب تصويره لشخصيات لبنانية معروفة، ثمة عدد لا بأس به من أعمال تمثل أشخاصاً مغمورين في مجموعة الصليبي. هذه الأعمال الأخيرة، المنجزة على ألواح صغيرة من الورق المقوى، قد لا تعدو كونها، في معظمها، مجرد دراسات، بعضها الآخر، مع ذلك، أكبر حجماً وعلى قماش. ما يشير إلى سوق للبورتريه بين المغمورين. وكانت بورتريهات الصليبي الغفلية، بفضل أمانته لأصول البورتريه كنوع، تستدعي الإحساس بفردية النموذج المرسوم.

 ساهمت بورتريهاته في ثقافة بصرية متنامية ميزت بين الحياة المدنية والحياة الريفية، وكثير ما كان يستعان بهذا اللون لتحديد الحداثة في بيروت أواخر القرن التاسع عشر. وبشر الصليبي بالانطباعية اللبنانية، من خلال تعاطفه مع إنجازات رينوار وسارجنت. لكنه ذهب في اختباراته الجريئة   إلى انفعال في التلطيخ اللوني مستشرفاً الوحشية تارة والتجريد طوراً.

بدأت معاناة الصليبي في 1923، إثر نزاع نشب بينه وبين الفلاحين على ملكية نبع ماء في قطعة أرض يملكها، تطورت إلى التهديد بالقتل. في 7 يوليو 1928، كان عائداً إلى بيته في القنطاري مع ملهمته كاري، حين باغته مسلحون فأردوه مع زوجته التي ذبحت. خلال صيف عام 1928 وخريفه، تداولت صحف بيروت تفاصيل مقتل الصليبي، وتكشف الوثائق التاريخية المتصلة بالقضية تفاصيل من النقاش العام والقضائي آنذاك، موفرة لمحات عن صراع مأساوي طال نسيانه، بل كذلك عن النظرة الاجتماعية إلى مهنة كانت جديدة منذ قرن تقريباً، مهنة صانع اللوحات، خصوصاً أن الصليبي اشتهر برسم العري. لم يثأر للصليبي إلا تلامذة دُعوا بالانطباعيين، أقاموا معارض لفن العري، تأكيداً على جماله الإنساني الذي ينبغي ألا يجلب الخزي لصاحبه.

back to top