ما الذي يتعين تفاديه عند إصلاح بلد محطم؟!

نشر في 14-03-2013 | 00:01
آخر تحديث 14-03-2013 | 00:01
No Image Caption
تعود الحرب الأهلية الوحشية، التي اجتاحت العراق بدءاً من عام 2004، في جزء منها إلى إقرار السنّة أنهم الخاسرون كفريق في الغزو الأميركي للعراق، وأنهم لن يتمتعوا بمكانة مهمة في العراق الجديد.
 James Traub باتت الذكرى العاشرة لغزو العراق قريبة؛ لذلك أريد أن أستمدّ بضع عبر من هذه التجربة قبل أن نضيع وسط معمعة هذه الذكرى وطوابع الجنرال تومي فرانكس التذكارية ومسابقات ملكات جمال الفتيات الصغيرات، إذ سبق أن حدّد زميلي وربّ عملي ديفيد روثكوف بعض الدروس العامة من حربَي العراق وأفغانستان، إلا أني أود أن أطرح عدداً من الدروس الأكثر دقة التي قد نستمدها من الأخطاء الكارثية الخاصة بحرب العراق. أصدر المركز الدولي للعدالة الانتقالية أخيراً تقريراً بعنوان "إرث مرّ: دروس من عملية التخلص من البعث في العراق" (A Bitter Legacy: Lessons of De-Baathification in Iraq). ولا شك أن التأمل في هذا التقرير يستحق العناء، لأنه أشبه بدليل لما يجب ألا نقوم به عندما نحاول إصلاح الدول المخربة في الشرق الأوسط.

كشفت التقارير خلال السنوات الأخيرة مصدر الإخفاق الأميركي. يُظهر راجيف شاندراسكران في كتابه الأخيرImperial Life in the Emerald City (الحياة الإمبراطورية في مدينة الزمرد) أن أحمد الجلبي، الزعيم المهاجر الماكر الذي يعشق تضخيم ذاته، أقنع دوغلاس فيث، مدير مكتب الخطط الخاصة في وزارة الدفاع الأميركية، بأن حزب البعث يماثل عملياً النازية، وأن من الضروري تخليص العراق من الطابع النازي، لكن وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية والرئيس جورج بوش الابن ما كانوا مستعدين للمضي إلى هذا الحدّ، إلا أن وزارة الدفاع بقيادة دونالد رامسفيلد أيدت ذلك بالكامل. عندما كان بول بريمر، الرئيس الجديد لسلطة الائتلاف المؤقتة، يستعد للسفر إلى العراق، أطلعه فيث على هذه الخطة، فاعتبرها بريمر انفصالاً كلياً عن الماضي، ولكن عندما وصل بريمر إلى العراق، أعلمه كبار مساعديه في هذا البلد أن طرد عشرات آلاف أعضاء الحزب قد يخرب الوزارات ويغضب السنّة، غير أن بريمر كان قد حسم أمره، ومن هذا الخطأ الجسيم الواضح (ومن الخطأ الآخر: حل الجيش العراقي) نتجت كارثة كبرى.

لكن ما أظهره التقرير الجديد بوضوح أن بريمر، بدل أن يحد من المؤشرات إلى السلطة الأميركية في العراق المحتل، ابتكر وحشاً سرعان ما خرج عن السيطرة وبدأ يطيح بكل ما تبقى من الحكم غير الطائفي في العراق. لم تدُم السيطرة الأميركية على هذه العملية أكثر من ثلاثة أشهر، ومع انتقال السلطة إلى العراقيين، أنشأ الجلبي لجنة "اجتثاث البعث" وسيطر عليها. كذلك سارع إلى توسيع أمره القضائي ليشمل فئات جديدة من مسؤولي النظام السابقين الذين أزيلوا من مناصبهم العامة. أسس الجلبي أيضاً لجنة "اجتثاث البعث" في كل وزارة، ألغى عمليات إعادة التعيين السابقة، ووضع يده على قضايا الاستئناف، ملغياً بالتالي تدابير حماية هذه العملية التي تضمنتها الخطة الأميركية، وهكذا تحول "اجتثاث البعث" إلى أداة لتسوية الحسابات الطائفية والترويج للأهداف السياسية الشيعية، بدل أن يكون وسيلة لعزل اللاعبين السيئين.

بمرور الوقت، تمكن الجلبي وزملاؤه من استخدام التخلص من البعث للإطاحة بمئات الخصوم السياسيين، فضلاً عن القضاة الذين اعتُبروا غير ملتزمين كفاية بالأهداف الشيعية، مثل الحكم بالإعدام على صدام حسين. تعود الحرب الأهلية الوحشية، التي اجتاحت العراق بدءاً من عام 2004، في جزء منها إلى إقرار السنّة أنهم الخاسرون كفريق في الغزو الأميركي للعراق، وأنهم لن يتمتعوا بمكانة مهمة في العراق الجديد.

يُعتبر سلوك إدارة بوش في عراق ما بعد الحرب متهوراً وأخرق إلى حد نميل معه إلى استخلاص الدروس التي بدت جلية جداً: الاستماع إلى مَن يعرفون البلد حق المعرفة والإحجام عن اتخاذ خطوات لا يمكن العدول عنها قبل التفكير فيها مطوّلاً، فهذه هي السياسة بكل بساطة. ندرك هذه المسائل جيداً اليوم، مع أن كثيرين كانوا يعرفونها سابقاً، ولكن إن تعمقنا أكثر في التجربة العراقية، نلاحظ أنها تزودنا بتوجيهات تنطبق على السلوك الأميركي في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.

تمثلت سذاجة إدارة بوش في اعتبار حزب البعث سرطاناً يمكن استئصاله بسهولة من الجسم السياسي السليم، لا عارضاً لمجتمع منقسم بعمق. لم يكن ذلك سراً: أدرك مسؤولو الأمم المتحدة، مثل المبعوث الأخضر الإبراهيمي، أن دورهم مساعدة العراقيين على التوصل إلى توزيع للسلطة والامتيازات يرضي كل الأطراف. لكن الأميركيين رفضوا الإقرار بواقع العراق الطائفي إلى أن فات الأوان، خصوصاً أن هذا الواقع يتناقض مع أحلامهم الكبيرة بشأن إعادة بناء هذا البلد، ولكن لو فهم صانعو السياسات هذه الحقيقة من البداية، لركزوا على إعادة إدخال السنّة إلى الحكم بقدر ما اهتموا بإرضاء مطالب الشيعة بإحقاق العدالة.

من هذا المنطلق، يتبيّن أن العراق أصبح نموذجاً مفيداً للغاية بأكثر مما توقعنا لنمط تعاطينا مع العالم العربي بعد الثورات، فقد تبدد الأمل بوعي وطني جديد في مصر وليبيا وسورية بسبب قوة الهوية الدينية والطائفية. في سورية مثلاً، تحوّلت التظاهرات غير العنيفة ضد الحاكم المستبد المكروه تدريجياً إلى حرب أهلية بين النخبة الشيعية والضحايا السنّة، وفي مصر وليبيا، لم يكن الانشقاق بين السنّة والشيعة، بل بين مفهوم الدولة الديني ومفهوم علمانيّ إلى حد ما. علاوة على ذلك، يروج "الإخوان المسلمون" في ليبيا لقانون وصفه أحد المحللين أخيراً بأنه "شديد القسوة على نحو غامض" هدفه استبعاد كل مَن ارتبط بنظام معمر القذافي، وتهدد هذه الجماعة بإسقاط الحكومة إن لم يُمرَّر هذا القانون كما هو مكتوب.

إذن، من الدروس التي نتعلمها من العراق أن مزيجاً من الانشقاق الطائفي والديني العميق، فضلاً عن التهافت على السلطة كان مكبوتاً فترة طويلة والغياب التام لتقاليد التسوية، يعني أن سنوات طويلة قد تمر قبل أن تتمكن الدول العربية من التركيز على حل المشاكل جماعياً، بدل تضارب الهويات وتنافسها.

أما الدرس الثاني فيُظهر أن اللاعبين الخارجيين قد يزيدون الوضع سوءاً أو ربما يحسنونه، فلو حذت الولايات المتحدة حذو الأمم المتحدة (لو أن واشنطن مكنت الأمم المتحدة لتساعد في حل الصراعات الداخلية السياسية في العراق) لما استخلص سنّة العراق على الأرجح أن تأثير الحرب الرئيس استبدال نظام حكم سنّي مستبد بنظام شيعي. صحيح أن حالة الفوضى كانت ستستمر في العراق إلا أنها كانت ستبدو أقل اتساعاً.

كيف ينطبق هذا الدرس على الدول التي تشكّل فيها الولايات المتحدة متفرجاً قلقاً لا قوة محتلة؟ تملك واشنطن نفوذاً أقل في مصر، مقارنة بما تمتعت به في العراق عام 2003. كذلك حدّ باراك أوباما من قدرته على الاضطلاع بدور الوسيط العادل بين الأطراف المنقسمة بعمق بوقوفه إلى جانب الرئيس محمد مرسي. صحيح أن مصر لم تسلك الدرب ذاته كما العراق، إلا أن من الخطأ التفكير في أن الانتخابات الحرة هناك مهدت الطريق أمام الديمقراطية. يعلّمنا العراق أن القرارات التي تُتخذ باكراً تحدد المسار الذي سيُعتمد لاحقاً، سواء كان إيجابياً أو سلبياً.

صحيح أن هذه الإدارة لا تستخف بالتأكيد بالقوى الكامنة في الدول العربية، ليس بقدر إدارة جورج بوش على الأقل، بيد أن أوباما يتمسك بكل دروس العراق بشدة خلال تعاطيه مع سورية، حيث يخشى اتخاذ أي خطوة قد تقوي عن غير عمد يد الأصوليات الإسلامية. لذلك بدا الحذر على ما قد يتضح لاحقاً أنه تصرف متهور. لكن دروس العراق لا تقتصر على أن الولايات المتحدة قد تزيد الوضع سوءاً، بل تشمل أيضاً ضرورة أن تعي عواقب أعمالها في المجتمعات الكثيرة التقلب. فالوقوف مكتوفة اليدين سياسة أيضاً، وقد تبيّن أنها على القدر عينه من التهور لأن أعمال العنف التي لا تنتهي واليأس مما ستؤول إليه الأمور أطلقا شياطين الطائفية في سورية. كذلك يذكّر العراق بأن الأولويات في سورية الجديدة، عندما يحلّ هذا اليوم، تشمل التأكيد للعلويين الذين يحكمون البلد راهناً أنهم لن يواجهوا عقاباً جماعياً. ويجب أن يؤدي اللاعبون الخارجيون، بمن فيهم الأمم المتحدة، دوراً مهماً في هذا المجال.

تحوّل العراق إلى مقبرة للأوهام الأميركية بشأن تحول الدول، لكن يجب ألا يدفعنا ذلك إلى الاعتقاد أن الولايات المتحدة لا تملك أي دور تلعبه في العالم العربي، الذي يتأرجح بين كابوس الأنظمة المستبدة الطويل وومضات الديمقراطية الأولى.

back to top