أنا سارة، سارة أنا

نشر في 23-02-2013 | 00:02
آخر تحديث 23-02-2013 | 00:02
No Image Caption
عندما بلغت الثالثة عشرة، سنّ الاكتشاف، نقلوني من مدرسة كاثوليكيّة للبنات إلى مدرسة للصبيان. ظنّ أهلي أنّ التربية الإنكليزيّة قد تكون أفضل من التربية الفرنسيّة. تلك السنة كانت الأولى التي تكون فيها المدرسة مختلطة، ولبضع سنوات تلَت كنتُ البنت الوحيدة في صفّي. في المدرسة، التقيت شخصين اتّضح لي فيما بعد ما كان لهما من تأثير أساسي في حياتي: فادي صديقي «البوي فراند» الأوّل، ودينا صديقتي الأعزّ «بست فراند»، التي التحقت بالمدرسة بعد سنتَين.

التقيت فادي في يومي الأوّل في الصفّ، جلست وراءه وبسرعة أصبحنا صديقَين، أوّلاً لأنه لم يكن يفكّ عنّي. في الأيّام الأولى، كان يلاحق تحرّكاتي كلّها، محاولاً زجّي في بعض المكائد التي كان يهيِّئها. أصبحنا أصدقاء وشركاء في الإجرام.

لم يكن فادي وسيمًا ولا صار وسيمًا مع بلوغ النضج. وجهه طويل،  شعره أسود معتدل الطول، مشعّث دائمًا، مجعّد قليلاً. وكان إذا لامسه نور الشمس برزت فيه شعرة مستقلّة، تخرج عن تلك الفوضى. أنفه طويل، ضامر، غير ناتئ، يشبه أنف الإغريق القدامى في الرسوم. صدره نحيل ومقوّص إلى الداخل، كأنّه يعاني من سوء التغذية. كان كلّه بكلّه محبّبًا، ولم يكن تركيبة شهوانيّة بصورة خاصّة، لكنّ أذواقي كانت دومًا غريبةً، وإلى حدّ ما خارجة عن المألوف. من بين كلّ الشّبان في الصفّ، وقد كانت لي بالفعل حريّة الإختيار إذ كنت البنت الوحيدة، كان هو من نال إعجابي. إبتسامته كانت أفضل ما فيه، وأكثر ما يمكن أن يظلّ في الذاكرة. كانت في الظاهر عاديّة، لكنّها في الواقع مدروسةً بدقّة، وبراءتها الشكليّة مكتملة، في محاولة منه لتضليل كلّ من يخطر له أنه يتّهمه بأيّ من الأعمال التي كان يقوم بها. لقد وقعت في شباك هذا الظاهر منذ اللحظة الأولى. وجدته لطيفًا، وشعلة ذكاء، ودرّاسًا. بطريقة ما، كان كلّ هذه الأمور معًا، ولكنّه، كما قالت مرّة «مِسّ نحّاس» مدرّسة العلوم، كان أيضًا الشيطان ذاته مجسّدًا.

كان ذكاء فادي مُلفتًا، وكنّا معًا من أوائل تلامذة الصفّ ولكنّ الفرق بين الأوّل، أي هو، والثانية، أي أنا، كان لا يقاس. فهمه للرياضيّات لامس العبقرية، كنت متميّزة في الرياضيّات ومع ذلك، لم أكن حتّى في مصافه. كانت درجاتي أقرب إلى درجاته في الموادّ غير العلميّة، الإنكليزيّ، العربيّ، الفرنسيّ، التاريخ، الجغرافيا، والمدنيّات، فقط لأنّه لم يكن يأبه بهذه المواضيع. كان يمرّ عليها مرور الكرام في كلّ الامتحانات، من دون أن يدرسها، ومع ذلك كان في أغلب الأحيان يحصل على درجات تفوق تلك التي كنت أحصل عليها. كان ساحرًا في الميكانيك. أوّل بدعة رأيته يصنعها هي درّاجة ناريّة بمحرّك. استأصل المحرّك من درّاجة ناريّة وركّبه على درّاجة هوائيّة قديمة. وجدت هذا العمل عظيمًا، وكم ازداد إعجابي عندما اعترف لي بأنّه قد سرق الدرّاجة الهوائيّة والمحرّك أيضًا. فتوافقَت روحانا.

غاية في الملل

أذكر أوّل يوم تسنّى لي أن ألحظ فيه ملمحًا من طباع «ميفيسو»، وكان ذلك في مطلع تشرين الأوّل/أكتوبر، في بداية السنة الدراسيّة. كان النهار حارًّا، وكانت المروحة في السقف تحرّك هواء تافهًا. كنّا في مبنى يفوق عمره المئة سنة وليس فيه جهاز تبريد. جلس فادي أمامي كالعادة. الدرس فرنسيّ، والمعلّم «الميستر قسّيس» يحاول عبثًا أن يسيطر على الصفّ. ومن دون أن يلتفت إلى الوراء، قال لي فادي: «إحني رأسكِ بسرعة عندما أقول».

«ماذا؟» سألته بريبة. كان قسّيس يتلوّى ويتمغّط في محاولته لتفسير الصيغة الشرطيّة للأفعال. غاية في الملل. كنتُ أحفر اسمي على المكتب بقلم «بيك». «ماذا تعني؟»

«فقط إحني رأسك عندما أقول ذلك». لاحظت أنّ ثلاثة من أصابعه كانت تقبض على شيء أسود. استغرقني بعض الوقت قبل أن أكتشف أنّه أحد القطع المطّاطية المثبِّتة التي تُلصَق بأرجل الكراسي لمنعها من الإنزلاق. في اللحظة التي أدار قسّيس فيها وجهه، رمى فادي قطعة المطّاط عاليًا باتّجاه المروحة وصاح incoming، أي «وصول».

إنحنى نصف تلاميذ الصفّ تحت المكاتب. عندما ارتطمت قطعة المطّاط بالمروحة، ارتدّت حركتها بقوّة عظيمة، فسمعتُ دويّ ارتطامها، ثمّ «وش» تتبعه أصوات أخرى، كلّما كانت ترتطم بالمكاتب والكراسي، نظر قسّيس من حوله متسائلاً عمّا جرى. تظاهرنا بأنّ شيئًا لم يحدث، وكذلك فعل هو، وتابع قسّيس درسه المملّ.

كان قسّيس يقود سيّارة فوكسهول من طراز قديم، وقد اعتاد فادي أن يسطو عليها. في الفترات الحرّة، كنّا ندفعها، أنا وفادي، من الموضع الذي أوقفها فيه وندحرجها إلى أسفل التلّة حيث نوقفها عند المدخل السفليّ. ولم يكن قسّيس يفهم كيف وصلت إلى هناك.

كانت في الأسبوع ثلاث فترات حرّة. لم أفهم حتّى اليوم ما الذي يدهى مدرسة لتمنح زمرة من المراهقين حقّ التجوّل في حرمها من دون مراقبة لفترة ساعة. ولأنّني وصلت من مدرسة الكرمليّات الصارمة، حيث كانت الراهبات يحاسبننا على كلّ جزيئة من الثانية، وجدت أنّ المدرسة الجديدة ليست بعيدة عن الجنّة بكثير. في الأوقات الحرّة، كان فادي يتألّق.

كان يتباهى أنّه ما من قفل لا يستطيع أن يفكّه. وكانت الأسهل منها هي الأقفال الرقميّة. وقد علّمني كيف أفكّها. كان عليّ أن أضغط القفل باتّجاه الأسفل بأقوى ما يمكن.

كان عليّ أن أضغط على القفل إلى الأسفل بأقصى قوّة ممكنة ومن ثمّ أن أكرّ الأرقام الواحد تلو الآخر حتّى أسمع طقطقة معيّنة. في غاية السهولة. خلال الحصص الحرّة، كانت إحدى نشاطاتنا المفضّلة هي فتح الخزائن بحثًا عن أفضل وجبة غذاء. لم يكن أيّ منًا يحمل معه غذاء يوم الأربعاء، حين كانت الحصّة الحرّة في الصباح. كنّا نفتّش الخزائن كلّها إلى أن نقع على ما يفتح الشهيّة. وحين يكون فادي في مزاج مرح، كان يبدّل محتوى الخزائن المختلفة محدثًا فوضى عارمة.

كان كلٌّ منّا، أنا وفادي، هو الولد الأوسط في عائلتَين تنتميَان إلى الطبقة الوسطى. وكنّا نحسد بعض أولاد العائلات الثريّة جدًّا الذين كانوا يأتون إلى المدرسة على درّاجات هوائيّة جديدة تمامًا. في تلك الحصص الحرّة، كنّا نركب أيّ درّاجة نريد. وذات يوم، فيما كان فادي يركب درّاجة لمّاعة، من الطراز الحديث بثلاث سرعات، تقدّم منه آرت حداد. وآرت مثلي، من والدين مختلفَي الجنسيّة، لبنانيّة وأميركيّة، إنّما على عكسي، كان قد نشأ في الولايات المتّحدة. جاء يعلّم في مدرستنا في محاولة منه لـ»استعادة إرثه». كان دومًا يعامل التلامذة كأنداد له، بحسب المذهب التربويّ الأميركيّ الذي يعتمده، وبما أنّ عمره لم يكن يتخطّى الرابعة والعشرين على الأرجح، لم يشعر التلامذة بأيّة عدوانيّة في تعاطيه هذا معهم.

«درّاجة رائعة»، قال آرت لفادي. «لا بدّ أنّها من الطراز الأخير».

«نعم»، أجاب فادي. «هل تريد أن تجرّبها؟»

تبِعت السؤال الأخير كلمات مثل «واو»، «أكيد»، «أف»، «جميل»، «يا رجل»، «شكرًا»، «غير معقول»، «هاي واو»، «فظيع»، «يا صاح»، ولكنّها لم تأتِ بترتيب مفهوم. قال له فادي إنّ عليه العودة إلى الصفّ، وإنّه في هذه الحال لن يكون عليه إلاّ أن يُحكم قفل الدرّاجة في موقف الدرّاجات حين ينتهي منها. عدنا إلى الصفّ. وما لبثنا أن سمعنا، في ما بعد، أنّ صاحب الدرّاجة عاد ليجد السيّد حدّاد راكبًا عليها، فأصابت الولد نوبة غضب. فكان على السيّد حدّاد أن يقابل المدير الذي بطبيعة الحال استدعى فادي. قال فادي إنّ قفل الدرّاجة كان مفتوحًا وإنّه لم يستطع أن يكبح نفسه عنها، وإنّه لمّا توسّل إليه السيّد حدّاد لركوبها، طلب إليه أن يعيد الأقفال عليها حتّى لا يسرقها أحد.

لم أكن قدّيسة البتّة قبل أن ألتقي فادي، ولم أُدفع من دون إرادتي في طريق المكائد والخدائع. فلطالما كنت طفلة عفريتة. فادي ألهمني فقط لأتجرّأ أكثر. كان والدي قد طلّق والدتي، أرسلها مع أمتعتها إلى أميركا، وتزوّج من امرأة لبنانيّة أصغر منها سنًّا. اعتبرتُ زوجة أبي دخيلة على العائلة، فحاولت خلال معظم الأوقات في طفولتي أن أجعل حياتها تعيسة. ونجحت إلى حدّ كبير، إلى حدّ أنّني نُقلتُ في سنّ العاشرة مع أخواتي إلى أكثر مدارس لبنان صرامةً.

بعد ثلاث سنوات، نُقلنا أنا وأخواتي إلى مدارس مختلفة. كأنّني ربحت اليانصيب، انتهى أمري في أفضل مدرسة في لبنان، واحدة من المدارس التي لم يكن فيها أيّ نوع من الإنضباط، كما لم يكن لأيّ أستاذ فيها أن يرفع صوته في وجه أيّ تلميذ.

كان في المدرسة التي نُقلتُ إليها برنامج رياضيّ متميّز. وبما أنّها كانت مدرسة للصبيان، وكنت أنا البنت الوحيدة في الصفّ، كانت حصّة التربية الرياضيّة موجّهة حصرًا للشبّان اليافعين. كانوا في الدرجة الأولى يلعبون كرة القدم. تأقلمت تمامًا، ذلك أنّه لو كان لي أن أتفوّق بشيء واحد على فادي، أو على أيّ صبيّ آخر في الصفّ كما اتّضح لاحقًا، فسيكون ذلك في لعبة كرة القدم الجميلة. لقد كنت دائمًا غلاميّة وكنت موهوبة في لعب كرة القدم إلى حدّ أذهل حتّى الذين لم يعرفوا شيئًا عن هذه اللعبة. ظهرت مع باقي الصفّ في ملعب كرة القدم في أوّل حصّة للتربية الرياضيّة. كنت أرتدي لباس الرياضة الخاصّ بمدرستي، قميصًا أخضر عليه شعار المدرسة بالأصفر، وسروالاً قصيرًا أبيض عليه شعار المدرسة بالأخضر، وجوارب بيضاء عالية، وجزمة. لم تكن الجزمة جزءًا من اللباس. لكن  بما أنّ زوجة أبي كانت ترفض أن تشتري لي حذاء رياضيًّا فكيف بحذاء خاص  لكرة القدم، كان عليّ أن أتدبّر أمري. لم يصدّق معلّم التربية الرياضيّة، الأستاذ نجّار، ما رأته عيناه، فطردني خارج الملعب بالصراخ والصياح. في السنوات اللاحقة، صار بإمكاني أن أصف الأستاذ نجّار بالمتعصّب الذكوريّ الذي لا يتعدّى ذكاؤه ذكاء ولد في الرابعة من عمره، لكن في تلك الأيّام كانت تنقصني المفردات، تركت الملعب. تبعني فادي قائلاً إنّه علينا أن نذهب إلى المدير. أخذني جانبًا، ذهب إلى خزانته، وأخرج منها ورقة كَتب عليها:

إلى من يهمّه الأمر

أنا الموقّع أدناه أسمح لابنتي، سارة مصطفى نور الدين، أن تشارك بالكامل في كلّ صفوف التربية الرياضيّة وأن تُعامل تمامًا كالصبيان. لا أريد أن يصيبها اضطراب بسبب تدابير إقصائيّة غير عادلة. أتوقّع أن تُتّبع أمنياتي وإلاّ فإني سآخذ الإجراء المناسب.

مع التقدير

مصطفى محمود نور الدين

back to top