كيف ينظر مريض التوحد إلى محيطه؟
بعيداً عن التحليلات النفسية المتخصصة، لنتعرّف عن قرب إلى الأشخاص المصابين بمرض التوحد. ما الذي يشعر به مريض التوحد وكيف ينظر إلى العالم؟ في ما يلي رحلة لها بُعد مختلف...
لا يميّز صوت الإنسان
لدى مريض التوحد طريقة مختلفة في الرؤية والسمع ومقاربة الواقع. لأسباب وراثية، لا يتوصل دماغ الطفل إلى تحليل المعطيات الحسية التي تُنقَل له عبر النظر والسمع واللمس بالشكل الصحيح. رصدت الأبحاث روابط متشابكة في الدماغ وتراجع تدفق الدم في المناطق المعنية. نتيجةً لذلك، تظهر مشاكل في الاستيعاب وقد تدفع الطفل إلى عدم التمييز بين الإصبع والقلم مثلاً. على المستوى السمعي، لا فرق بين صوت الإنسان والأصوات الأخرى بالنسبة إلى مريض التوحد، لذا لا يعطي الطفل أي رد فعل حين يسمع اسمه ولكنه يرتعب عند مرور سيارة في الشارع. ينعكس هذا الارتباك السمعي على مستوى اللمس أيضاً: قد يخشى الطفل لمس أقمشة ناعمة بينما لا يتردد في لمس أي نسيج خشن!له حواس متراكبةيرتبط طفل التوحد بالعالم من حوله عبر تركيب المعطيات الحسية التي يتلقاها بما يشبه تركيب قطع القرميد. عند ظهور شعور غير متوقع (مثل الرغبة في دخول الحمام، وهي تتخذ شكل ألم لا يفهمه الطفل)، تكثر العوامل التي لا يستوعبها الطفل وتتفكك أفكاره وقد يقوم بردود فعل عنيفة مثل صفق الباب ورن الجرس والصراخ... لا يحتمل البعض سماع التصفيق لأن هذا الصوت يُشعرهم بالذعر. هذا ما يفسر الصرخات غير المبررة التي يطلقها الأطفال. يكون بعض الحركات نموذجياً في حالة التوحد مثل صفق الذراعين بوتيرة سريعة بما يشبه أجنحة الطيور. لكنّ هذه الحركات تمنح المريض شعوراً بالأمان والطمأنينة.لا يستوعب تعابير الوجهبفضل العلاقة القائمة بين العواطف الداخلية والعالم الخارجي، يمكن أن يعبّر الطفل عن أفكاره كي يفهم العالم على طريقته. للتعرف إلى الذات، يجب أن يستوعب الفرد نظرة الآخرين إليه. لكنّ الطفل المريض لا يعيش هذه المرحلة. تبين أن دماغ الطفل لا يتلقى إلا صورة جزئية عن الأشخاص الذين يخاطبونه: يرى مثلاً الفم والخدين ولكنه لا يشاهد العيون. بالتالي، لا يستطيع استيعاب تعابير الفرح والغضب والحزن التي ترتكز عليها عملية التواصل غير الشفهي.تجتمع هذه العوامل كلها لمنع تطور الطفل الطبيعي. يظهر الخلل في السنة الثالثة. يلاحظ الطفل أن الآخرين لديهم أفكار ومعتقدات ورغبات مختلفة عنه. فيحاول التواصل معهم وإقامة علاقات اجتماعية، وقد ينجح في مساعيه ويتوقف عن اللعب وحده في المدرسة. بعد هذه المرحلة، قد يبدأ بفهم سلوكياته ورغباته الخاصة ويجد متعة معينة في حياته. أفكاره ملموسةحتى لو استوعب مريض التوحد اللغة وحتى لو كان لا يعاني أي خلل فكري، يبقى الآخرون مختلفين ومرعبين أحياناً بالنسبة إليه. يستطيع البعض عيش مرحلة دراسية طبيعية ولكنهم يواجهون مصاعب كبرى بسبب سخرية رفاقهم منهم. لا يستطيع مريض التوحد استيعاب الاستعارات والصور العقلية وتبدّل نبرة الصوت. بالنسبة إليه، الكلمة هي مجرد كلمة لأن طريقة تفكيره ترتكز على الأفكار الملموسة. لذا يلحظ المريض أن الآخرين يضحكون حين يتكلم ولكنه لا يفهم السبب. لا يستطيع استيعاب الصور المجازية بطريقة عفوية أو فهم معاني الأمور الضمنية، لا سيما العوامل التي تعقّد عملية التعليم في المدرسة. لكن يمكن معالجة هذه المشكلة عبر الاستعانة بأهل الاختصاص.يجب أن يحفظ القواعدتبقى العواطف التي توحي بها الكلمات ونبرة الصوت لغزاً بالنسبة إلى مريض التوحد، ويجد صعوبة في إفهام الآخرين ما يشعر به. قد يتحدث بنبرة رتيبة حين يكون في حالة من الغضب الشديد، أو قد يتفوه بعبارات غير لائقة من دون أن يقصد أي أمر سيئ. بل إن العجز عن استيعاب ردود فعل الآخرين يولد مشاكل كثيرة لمرضى التوحد.بالنسبة إلى هؤلاء الأشخاص، الحياة الاجتماعية هي أشبه بغابة مخيفة، لا سيما بالنسبة إلى الأشخاص الذين يرتادون الجامعة أو يعملون أو يعيشون مع الآخرين «الطبيعيين»، إذ يفتقرون إلى الشعور بالأمان دوماً بسبب إعاقتهم. لذا يعترف بعض المرضى الذين يخضعون للعلاج بأنهم اضطروا إلى حفظ السلوك المناسب لمواجهة مختلف المواقف في الحياة الاجتماعية «عن ظهر قلب».يصرف طاقة هائلة للتأقلميعجز مريض التوحد عن النظر في عيون من يخاطبه ولكن يتدرب البعض على النظر بين الحاجبين أثناء الكلام كي لا يتنبه أحد إلى وجود مشكلة. بالتالي، يصرف مرضى التوحد منذ سن مبكرة طاقة هائلة للعيش بين الناس العاديين والتكيف مع الضجة والأصوات والصور، ثم فهم الأمور الغريبة التي يسمعونها. حتى لو كانوا لا يُظهرون أي تعاطف تجاه ما يحدث من حولهم، لا يعني ذلك أنهم مجرّدون من المشاعر. بل إنهم يفيضون بالأحاسيس والأفكار. لكن يجب أن يأخذ الأشخاص العاديون المبادرة لفهم حاجاتهم كي لا يبقوا غريبين في نظرهم.