قبرص... جزيرة مشمسة لشعب مثير للجدل

نشر في 23-03-2013
آخر تحديث 23-03-2013 | 00:01
 ذي تيليغراف يميل سكان جزيرة قبرص إلى الاعتقاد أنهم أعلى شأناً بقليل من أبناء عمهم في القارة الأم المقابلة لهم من البحر الأبيض المتوسط، فهم أكثر تنظيماً، ولا يحبون كسر القوانين، ويتمتعون بمهارات مالية أكبر، ولكن خلال نهاية الأسبوع الماضي، بلغ خزيهم العمق ذاته كما أقاربهم الذين يشاطرونهم الثقافة واللغة ذاتها، والذين تحول بلدهم إلى نموذج عالمي للإخفاق المالي.

انضمت قبرص إلى نادي الإنقاذ الأوروبي، ففي شهر ديسمبر، لحقت بمجموعة دول منطقة اليورو التي طالبت ببرنامج إنقاذ يمنحها 17.5 مليار يورو، ولكن سرعان ما برزت مشكلة عجز المؤسسات والدائنين الدوليين عن تأمين هذا المال بعد دعمهم بوسائل عدة لليونان وايرلندا والبرتغال وإسبانيا.

إذن، هذه المرة الأولى، منذ بدء أزمة الدين، التي تقرر فيها مجموعة اليورو (وزراء مالية 17 دولة في منطقة اليورو) أن على المودعين في المصارف القبرصية دفع المال مباشرة لمنع تلك المصارف من الانهيار، فدعت المجموعة إلى فرض ضريبة تُجبى مرة واحدة لجمع 5.8 مليارات يورو بهدف إنقاذ البلد، وللحد من وطأتها فقد أطلق على هذه الضريبة "ضريبة تضامن"، وهي الثمن الذي يترتب على قبرص دفعه للحصول عملية إنقاذ بقيمة 10 مليارات يورو من منطقة اليورو، فمن دونها يواجه البلد خطر التخلف عن سداد دفعات سنداته في غضون أسابيع.

 اتُخذ هذا القرار البالغ الأهمية قبل نهاية أسبوع طويلة في الجزيرة حين أقفلت المصارف أبوابها طوال ثلاثة أيام. ولكن ما الخطأ الذي ارتكبته قبرص؟ قبل وقت ليس ببعيد، أشاد كثيرون بقبرص على اعتبار أنها موطن معجزة اقتصادية صغيرة، فقد وصف صندوق النقد الدولي أداء هذا البلد قبل عام 2008 بأنه "مرحلة طويلة من النمو الكبير، وتراجع البطالة، والشؤون المالية العامة السليمة". ولكن عام 2009، عانت قبرص الركود، إلا أنه كان الأقل حدة في منطقة اليورو.

كانت السياحة ناشطة، مع تدفق السياح البريطانيين إلى شواطئ هذه المستعمرة السابقة وشرائهم عقارات مطلة على البحر، في حين ازدهر قطاع المصارف، ولكن على غرار الدول الأخرى المتعثرة في جنوب أوروبا، أخفت قصة النجاح هذه مواضع خلل ومواطن ضعف كبيرة.

خلال العقد الماضي، اكتسبت قبرص سمعة كمركز لتبييض الأموال، فكان آلاف الروس من بين الزوار الأجانب الكثر الذين تقاطروا إلى هذه الجزيرة.

استقر خلال عقد الماضي عدد من هؤلاء الروس في قبرص واشتروا منازل ثانية فيها، حتى إن مدينة ليماسول، المركز المالي، باتت تُعرف بـ"ليما-غراد"، كذلك صارت تضم متاجر فاخرة لأهل موسكو، وشركات لتأجير سيارات البورش بدل الفيات باندا، وثلاث صحف تصدر باللغة الروسية.

على غرار موناكو، تحوّلت قبرص عندئذٍ إلى جزيرة مشمسة لشعب مثير للجدل، يذكر كولن سميث، مؤرخ عسكري يعيش في الجزيرة منذ سنوات: "ترى فتيات يتمتعن بأرجل طويلة ورجالا يصرون على وضع النظارات الشمسية حتى في شتاء قبرص القاتم. يملكون منازل ضخمة غير جميلة تسبب الكثير من الإزعاج لأنها تحجب المناظر الجميلة وتسبب مشاكل جمة، لكنهم لا يترددون في توزيع الأموال ليحققوا مآربهم". يقدّر كثيرون أن نحو 20 ملياراً من السبعين مليار يورو المودعة في قبرص، بلد يضم 800 ألف نسمة فحسب، تعود إلى الروس. ساهمت هذه الودائع في نمو القطاع المصرفي كثيراً، تماماً كما حدث في أيسلندا، وبحلول عام 2011، أشار صندوق النقد الدولي إلى أن أصول المصارف القبرصية تفوق دخلها الوطني السنوي بنحو 835%. صحيح أن هذا الواقع عاد في جزء منه إلى استثمارات المصارف الأجنبية، إلا أنه كان بمعظمه قبرصياً.

كان من الممكن الحفاظ على عدم التوازن هذا لو أن أكبر مصرفَين في البلد لم يقدما للحكومة اليونانية قروضاً تعادل 160% من الناتج المحلي الإجمالي القبرصي. لم يتضح ما إذا كانت هذه الخطوة نابعة من التضامن الإثني مع اليونان أو من الافتراض أن اليونانيين كانوا يعرفون جيداً ما يفعلونه. في مطلق الأحوال، كانت هذه الخطوة كارثية.

عندما اقتُطعت قيمة الديون المترتبة على الدولة اليونانية بنحو 75%، تلقت المصارف القبرصية ضربة قوية، فعلقت الجزيرة في دوامة سلبية مألوفة: تفاقمت أوضاع الحكومة المالية الضعيفة بسبب تراجع النمو الاقتصادي واضطرابات منطقة اليورو. فساد التوتر الأسواق المالية، التي ترددت في إقراض المال، كذلك شهدت أسعار العقارات انخفاضاً كبيراً، وتوقفت أعمال البناء، باستثناء الأعمال التي كانت تُجرى على منازل الروس الفاخرة الضخمة.

زاد رد فعل الحكومة الطين بلة، فقد رفض الرئيس السابق ديمتري كريستوفياس، الزعيم الذي دربه السوفيات ليرأس الحزب الشيوعي المزعوم في قبرص، "الحزب التقدمي للشعب العامل"، تطبيق تدابير التقشف. على العكس، أعلن في مرحلة ما أنه لا يرى أي داعٍ لأن تمتلك الحكومات فائضاً وواصل تمسكه بالتقليدي القبرصي، منفقاً الكثير من المال على الرعاية الصحية والتقاعد.

جاءت عواقب هذه الأزمة مماثلة لما تعانيه اليونان: متاجر مغلقة وارتفاع معدل الجريمة، يذكر كولين سميث أنه خلال تنقله سيراً على القدمين لشراء صحيفة يومية مرّ قرب زجاج متجر للمراهنات هشمه الرصاص وقُتل صاحبه في عملية إطلاق نار من سيارة عابرة.

لم يتفاجأ المطلعون على تقارير مجموعة اليورو ومذكرات المفوضية الأوروبية بتفاقم الوضع، وخصوصاً بالواقع الذي اصطدمت به المصارف القبرصية خلال نهاية الأسبوع. فقد أغضب ميل هذا البلد إلى غض الطرف عن تدفق الأموال الروسية المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وفي المفاوضات التي سعت قبرص خلالها، كما تبيّن، إلى نيل سبعة عشر مليار يورو، وهو هدف رسمته لخطة إنقاذها، استخلصت برلين أن الضريبة المفروضة على الحسابات المصرفية ستشكل عقاباً للمكاسب الروسية غير المشروعة، حسبما يُفترض، وللقبارصة على تساهلهم في هذه المسألة. علاوة على ذلك، ستُعقد الانتخابات الألمانية في شهر سبتمبر، ولا شك أن دافعي الضرائب الألمان، الذين سئموا إنقاذ مَن هم أقل منهم تحملاً للمسؤولية، لن يرضوا بإنقاذ الروس الأثرياء.

اعتقد كثيرون في الجزيرة أن الضريبة على أموال المودعين ليست اقتراحاً جدياً، بل تهديد يهدف إلى إرغام الحكومة على رفع ضريبة الشركات وتعزيز الخصخصة. لكن الرئيس القبرصي نيكوس اناستاسيادس أعلن في خطاب تسلمه السلطة في أواخر شهر فبراير أن قبرص "لن تقبل بأي تدابير مجحفة بشأن الدين العام أو الودائع".

توضح فيونا مولن، التي ترأس الشركة الاستشارية Sapienta Economics وتقيم في قبرص منذ 20 سنة، أن الخطة الأوروبية "عبرت خطاً أحمر تلو الآخر. أدركنا أن الودائع التي تفوق قيمتها المئة ألف يورو، وهو المستوى المؤمَّن، قد تُستهدف. ولكن لم يظن أحد أنهم سيحاولون استهداف الجميع. فحتى مَن يملكون 200 أو 300 يورو في المصرف سيُرغمون على الدفع".

تقضي هذه الخطة بأن يدفع المودعون في قبرص الذين تصل ودائعهم إلى 100 ألف يورو ضريبة لمرة واحدة تُقدّر بنحو 6.75%. أما الودائع التي تفوق هذا المبلغ، فستصل قيمة الضريبة عليها إلى 9.9%، ويبدو أن هذا الإجراء سيطول الودائع والحسابات الجارية على حد سواء، مع أن التفاصيل لم تتضح بعد، فيجري التفاوض راهناً على صفقة معدلة تقضي بأن تدفع الحسابات الضخمة مبالغ أكبر والحسابات الصغيرة ضريبة أدنى.

يذكر مارك وليامز، مدير الموقع الإلكتروني Cyprus Expats: "صعقنا هذا الخبر. فما عاد الناس يملكون المال لشراء الطعام".

أعلن جورج أوزبورن أن موظفي الحكومة البريطانية أو مَن يخدمون في الجيش سينالون التعويضات، أما الفئة الأخرى التي تُعفى من هذه الإجراء، فتشمل اليونانيين الذين يملكون حسابات مصرفية في قبرص، بما أن أي خطوة ضدهم قد تنعكس سلباً على المصارف في أثينا.

رفض البرلمان القبرصي بأغلبية أعضائه خطة الإنقاذ هذه، ويصر المسؤولون الأوروبيون على أن تكون هذه المرة الوحيدة التي تُفرض فيها ضريبة مماثلة. فآخر ما يريدون رؤيته الصفوف الطويلة أمام المصارف في أجزاء أخرى من أوروبا الجنوبية. ولكن كما هي الحال مع كل خطوة تُتخذ في منطقة اليورو، تبقى هذه الخطة مغامَرةً لا يمكن لأحد توقع عواقبها.

back to top