من قتل السندريلا... الاكتئاب أم الماضي؟ (1-3)

نشر في 13-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 13-07-2013 | 00:01
بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. على رغم ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
الخميس 21 يونيو عام 2001.

لندن – برج {ستيوارت تاور}.

الساعة التاسعة مساء.

غربت الشمس... وتأهبت عاصمة الضباب لتلقي بنفسها بين أحضان الليل... وفي لندن الليل جميل، رائع ، مثير، على رغم كل ما يحمله من غموض وبرود... وبرد!

داخل الشقة رقم {6 A} في الطابق السادس، كانت تقيم الفنانة الكبيرة سعاد حسني. الشقة ليست شقتها وإنما شقة صديقتها نادية يسري التي تعمل مترجمة في لندن واستضافت السندريلا في الأيام الأخيرة نظراً إلى الضائقة المالية التي كانت تمر بها سعاد. المهم أن نادية في تلك الأمسية خرجت لشراء طعام العشاء. لم يكن هناك شيء غريب في أحداث هذا اليوم، كل شيء يجري كالمعتاد في نظام إنكليزي تقليدي أقرب إلى الروتين. كانت سعاد وحدها في تلك اللحظات.. لا أحد يدري ماذا يخبئه القدر في اللحظات التالية. كأننا أمام أحداث فيلم مثير، وخلف الكاميرا يقف مخرج مقتدر. أما الأبطال فيؤدي كل منهم دوره المكتوب له، أو المكتوب عليه!

فجأة تشق صرخة مدوية جدار الصمت وكأنها صيحة وداع لم يفهمها طفل يقيم مع أسرته المغربية في المبنى المواجه حيث شاهد جسداً يهوي بسرعة كالشهاب ثم يرتطم بأرض الشارع بقوة، وقسوة، معاً. ولأننا في بلد البرد والبرود لم يلفت المشهد انتباه أحد... لم يفعل الجيران أكثر من مكالمة هاتفية تلقتها الشرطة الإنكليزية عن سقوط شخص مجهول من الطابق السادس!

وصلت سيارات الشرطة والإسعاف بعد دقائق... لكن المفاجأة أن أحدا لم يتعرف إلى صاحبة الجثة! بل إن البعض لم يصل إلى حقيقة الجثة وهل هي لرجل أم لأمرأة، فالوجه مغطى بالدماء! وضعوا فوقها غطاء ومصمصوا الشفاه يتساءلون عمن يكون القتيل أو القتيلة؟ ولماذا وكيف سقط من الطابق السادس؟ لا أحد يعلم أنها السندريلا نجمة نجمات السينما العربية.

لحظات ووصلت نادية يسري حاملة الطعام الذي طلبته سعاد ولم تتناوله. لم يلفت المشهد المأساوي انتباه نادية فصعدت مباشرة إلى الشقة. دخلت ونادت على سعاد فلم ترد. اتجهت إلى حجرتها فلم تجدها! وفي الحمام لا أثر لها... تركض نحو الشرفة فيلفت انتباهها وجود فردة الشبشب الذي كانت سعاد تلبسه قبل لحظات. تنظر من الشرفة فترى سيارات الشرطة والإسعاف وجثة فوق الأرض... تصرخ نادية بأعلى صوتها... سعاد... سعاد... تهرول إلى الشارع وهي خائفة، فزعة، ترفع الغطاء عن الجثة ثم تصرخ وتلطم خديها وهي تؤكد لرجال الشرطة أن الجثة لصديقتها سعاد وأنها تعرفت إليها من ملابسها.

يصعد رجال الشرطة مع نادية إلى شقتها في الوقت الذي تحمل فيه سيارة الإسعاف الجثمان إلى مستشفى وستمنستر في منطقة ميدفيل في وسط لندن ليوضع هناك في درج إحدى الثلاجات بمشرحة المستشفى؟

 

علامات استفهام

حملت معاينة الشرطة الإنكليزية الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام. فوق إحدى الموائد عثرت الشرطة على ساعة يد وخاتم ذهبي قالت نادية يسري إنها تركت سعاد قبل نزولها وفي يدها اليمني الخاتم... وفي يدها اليسرى ساعة اليد.

أثبتت المعاينة أيضاً وجود فردة الشبشب الثانية في حجرة نوم سعاد حسني. كذلك تم العثور على منضدة وكرسي في الشرفة التي سقطت منها السندريلا... وتبين أن سياج الشرفة لا يتجاوز ارتفاعه 35 سنتيمتراً... ومغطى بستارة تصل إلى ارتفاع الشرفة وعرضها... وقد تم العثور على هذه الستارة ممزقة!

استمعت الشرطة إلى جيران لشقة نادية يسري التي كانت مسرحاً للحادث، فأكد بعضهم أنهم كانوا يعرفون أن نادية تقيم معها في الشقة نفسها المكونة من حجرة واحدة (أستوديو)، صديقة لا يعرفون من هي وأنهم في الليلة السابقة على الحادث سمعوا صوت مشاجرة بين الصديقتين... وربما كانت المشاجرة مع أشخاص آخرين. لكنها كانت مشاجرة داخل هذه الشقة وفيها أصوات نسائية! في اليوم التالي فوجئوا بأن الصديقة التي كانت تقيم مع نادية التي تعمل أيضاً في مجال العقارات هي التي سقطت ولقيت مصرعها في الحال!

شبهة الانتحار

الشرطة الإنكليزية حاولت من البداية أن تصور الحادث على أنه انتحار... أو سقوط من أعلى قضاء وقدراً. وأيدت نادية يسري هذا الاتجاه في شهادتها التي بينت أن سعاد حسني كانت تمر بحالة نفسية سيئة للغاية لظروفها الصحية والمادية... وإن عادت يسري نفسها لتتساءل إن كانت سعاد قررت الانتحار فلماذا خلعت خاتمها وساعة يدها ووضعتهما فوق المنضدة. وهل من يفكر في الانتحار يتبع عادة مثل هذا السلوك ويتخلص من متعلقاته على رغم علمه أنه ذاهب إلى الموت؟! وإن كانت قد فكرت فعلاً في الانتحار فلماذا خلعت فردة شبشبها في حجرة النوم... ثم كانت حريصة على أن تخلع الفردة الثانية في الشرفة قبل إلقاء نفسها من الطابق السادس... ماذا كان يضيرها وهي في هذه الحالة النفسية السيئة لو ألقت بنفسها من دون أن تخلع الشبشب من قدميها.

الغريب أن نادية يسري نفسها لم تستطع أن تجد نفسيراً للأسئلة التي طرحتها. بل أن كثيرين حاولوا أن يثبتوا قصة الانتحار بشتى الطرق لإبعاد شبهة القتل والجريمة التي ارتكبتها جهة ما لتتخلص من السندريلا قبل أن تكتب مذكراتها وتفضح فيها كبار المسؤولين الذين كانوا لا يزالون في سدة الحكم في مصر... وهذه قصة أخرى أكثر إثارة.

أصحاب فكرة الانتحار، التي لم يقتنع بها عربي واحد أو حتى أي فرد من عائلة سعاد حسني، اعتمدوا على سوء نية أصحاب الأقلام الذين أهدروا دمها فوق صفحات الجرائد والمجلات حتى جعلوها تبكي وهي تقرأ وتسمع عن هذه المقالات... وكان من بينها مقال حرض عليها الحكومة المصرية بأن توقف نفقات علاجها على نفقة الدولة بعدما بلغت مئة ألف جنيه إسترليني... وقال كاتب المقال إن هذه {الدلوعة} تكبد الخزانة المصرية أموالاً ضخمة بينما الفقراء في مصر ينامون بلا عشاء! استاءت سعاد حسني جداً من المقال... لكنها كانت واثقة من أن في سدة الحكم من يحرض الصحافة وبعض الأقلام ضدها. وكانت المفاجأة التي أصابت روحها المعنوية في مقتل، كما يذهب أصحاب فكرة الانتحار، أن حكومة الدكتور الجنزوري قررت فعلاً إلغاء علاج الفنانة الكبيرة على نفقة الدولة. بالتالي، شعرت سعاد أنها لن تكمل رحلة علاجها، وربما لن تجد ثمن الفندق أو الشقة التي تقيم فيها. ولهذا قررت أن تكتب خطاباً إلى رئيس وزراء مصر توضح فيه حقيقة موقفها وأنها ليست في لندن للفسحة والعلاج الطبيعي كما يدعي البعض... وجاء نص الخطاب على النحو التالي:

***

سيادة الأستاذ الدكتور عاطف عبيد رئيس مجلس الوزراء

تحية وسلام.

أود في البداية أن أهنئكم بتوليكم رئاسة وزراء مصر داعية الله تعالى أن يحقق على أيديكم الخير لبلدنا الحبيبة مصر.

وبعد...

علمت من المكتب الطبي في لندن أن سيادتكم قد أمرتم بوقف علاجي على نفقة الدولة والذي كان سارياً من قبل... وكان هذا القرار قد صدر بتفضل من الدولة وليس سعياً مني إلى تحميل الدولة نفقات علاجي على رغم أن هذا العلاج قد استنفد كل مدخراتي، ولقد جاء قرار الإيقاف من سيادتكم قبل أن يكتمل علاجي إلى الدرجة التي تمكنني من العودة إلى بلدي وفني وجمهوري أولئك الذين أحبهم حباً كبيراً. لذلك أنا الآن في حال ليس أمامي تجاهها إلا أن استدين أكثر لأتم العلاج أو أن أقبل مضطرة ما كنت دائماً أعتذر عنه وهو عروض العلاج على نفقة بعض من جمهوري في البلاد العربية، وتعلمون سيادتكم أنني قد أصبت بحالة شلل نصفي في وجهي وكسر في العمود الفقري سبب لي آلاماً مبرحة لا أستطيع معها الحركة لأيام وأصابتني حالة من الاكتئاب الحاد وارتباكات شديدة في الأمعاء، وزيادة كبيرة في الوزن، وكل هذه أمور متصلة بعضها ببعض كما يقول الأطباء، وعلى رغم النفقات التي تحملتها الدولة في مشوار علاجي، فإن المكتب الطبي قد طلب مني الانتظار بالنسبة إلى مسألة دخولي مصحة علاج لإعادة تأهيلي الجسماني تحضيراً لجراحات الظهر والوجه إلى أن يستشير رئاسة الوزراء، وبدلاً من أن يصل قرار الموافقة وقد كان ذلك هو الأمل علمت أخيراً بقرار وقف علاجي.

سيدي رئيس الوزراء...

أنني حين أكتب إليكم هذا الخطاب لا أطلب منكم العدول عن قراركم إذ إنني لم أسع إليه من قبل، بل كان تفضلاً من الدولة ورئيسها الذي يجب أن يرعى فنانيها، ولكني أكتب لكم آملة أن أصحح مفهوماً خاطئاً وصل إلى سيادتكم على غير وجهه الحقيقي وهو أن وجودي في لندن هو لعمل علاج طبيعي يمكن إتمامه في مصر.

أنا يا سيادة رئيس الوزراء في أشد الشوق والحاجة إلى العودة لمصر بلدي ولجماهيري وفني، لكنني في حالة صحية لا تساعدني على ذلك الآن... وأريد أن يكتمل علاجي قبل عودتي، وهذا العلاج متاح ومتوافر هنا حيث التقدم التكنولوجي الذي آمل أن أستفيد منه.

ختاماً... أرجو أن تتكرموا سيادتكم بتوصيل تحياتي وشكري العميق سيادة الرئيس محمد حسني مبارك أعانه الله على مسؤولياته العظام، وكذا أجهزة الدولة التي تحملت نفقات علاجي، مع تمنياتي لأهل بلدي كلهم، بالرقي والازدهار.

ولسيادتكم خالص تحياتي

سعاد حسني – لندن- 18 فبراير 2000

***

صمت مريب

لم تنقل جثة السندريلا إلى المشرحة إلا في الواحدة صباحاً، أي بعد وقوع الحادث بأربع ساعات، وكانت الجثة طوال هذه الساعات قد تم نقلها من الشارع إلى الجراج الموجود أسفل البرج المشؤوم الذي سقطت منه الفنانة الكبيرة... وقد التزمت الشرطة الإنكليزية الصمت المريب وامتنعت عن أي تصريحات إلا بعد ظهور تقرير الطب الشرعي، لكنها كانت تميل منذ البداية إلى أن الحادث جريمة انتحار... ولهذا ظل الذين يروجون لهذه الفكرة يقدمون المبررات وقد اعتمدوا تارة على أن نوع الأدوية التي كانت تتناولها سعاد حسني يصيب صاحبها بالدوار عادة مما يرجح معه أن سعاد سقطت من الشرفة بعدما اختل توازنها! وطوراً على أن السبب الاكتئاب الذي كانت تعانيه الفنانة الكبيرة بعدما زاد وزنها بشكل آلمها وهي الفنانة التي كانت رمزاً للجمال والرشاقة... وأضافوا أنها وصلت إلى ذروة الاكتئاب حينما نشرت إحدى المجلات الأسبوعية في مصر أن سعاد حسني تتسول في لندن من الجاليات العربية، وتأكل بقايا الطعام من صفائح الزبالة... وأنها أصبحت أسوأ دعاية لمصر وللفن.

لم تنته مبررات الذين روجوا لانتحار حسني عند هذا الحد... بل أشاروا إلى علاقتها بصلاح جاهين، وربطوا بين انتحارها وعيد ميلاد عبد الحليم حافظ. كانت هذه المبررات كافة تتواتر بسرعة في الأيام الثلاثة الأولى التي تلت الحادث وقبل أن تصل جثة السندريلا إلى مصر وترتفع الأصوات المدوية التي قالت إن سعاد ماتت مقتولة.

صلاح جاهين وعبد الحليم

قالوا إنه لا يمكن الحديث عن انتحار سعاد من دون الإشارة إلى علاقتها بصلاح جاهين الشاعر والكاتب ورسام الكاريكاتور المعروف والأب الروحي لها والصديق الوحيد الذي كانت تأتمنه على كل أسرارها وتستشيره في كل كبيرة وصغيرة... فقد أصيب جاهين في آخر أيامه باكتئاب من نوع الاكتئاب نفسه الذي أصاب سعاد، كذلك أصيب بزيادة في وزنه ثم انتهت حياته نهاية مأساوية على رغم أنه لم ينتحر. لكنه كان قد فقد الرغبة في الحياة... وربما كان هذا هو الدرس الأخير الذي تعلمته منه سعاد ففقدت هي أيضاً الرغبة في الحياة، وفي لحظة يأس تخلصت من حياتها!

كذلك ربط هذا الفريق بين تاريخ ميلاد العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ وتاريخ انتحار السندريلا التي أحبته في فترة من حياتها حباً جنونياً وكانت قاب قوسين أو أدنى من الزواج منه. قال الفريق إنها اختارت يوم انتحارها بعناية شديدة ليتوافق مع ذكرى ميلاد عبد الحليم حافظ.

المفاجأة

وصل جثمان سعاد حسني إلى القاهرة في الوقت الذي كان العالم العربي كله يتحدث عن جريمة قتل سعاد... وأيدت أسرة سعاد هذا الاتجاه وبدأت تظهر أدلة وقرائن تشير كلها إلى أن السندريلا لم تنتحر وإنما لقيت مصرعها غدراً على يد الذين ألقوا بها من نافذة شرفتها.. وكانت كبرى المفاجآت حينما وصلت مع الجثمان وعلى الطائرة نفسها السيدة نادية يسري صديقة سعاد وصاحبة الشقة التي استضافتها فيها، فإذا بالنيابة تأمر بالقبض على نادية في أرض المطار؟

(إلى العدد المقبل)

back to top