غريب في وطني (1- 2)
كلنا نشعر بالحنين إلى الأمن والأمان، الهدوء، السكينة، الاستقرار، والحنين إلى التسامح الذي هو سعة في الصدر ونور بالعقل وقوة بالقلب وثقة بالنفس ونقاء بالروح والتسامي عن الصغائر وقبول الآخر على علته وهيئته وعقيدته بضعفه وأخطائه وفكره وجهله فتقبله في دنياك شريكاً لك، وتسمع له وتعذر له ويُقبل منه ويُرد، وتحلم عليه حين يجهل عليك وتعفو عمّن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك، أصبحنا نشعر بالغربة في أوطاننا وأهلينا وأصحابنا ولا ندري من المخطئ ومن المصيب، وغربتنا صنعناها بأيدينا فلم نعد بحاجة إلى محبة من حولنا ونقوم بتغريبهم عنّا ونضعهم في مصاف الأعداء والخصوم فهذا مسلم وهذا مسيحي، وكاثوليكي وأرثوذكسي، وهذا سني وشيعي، وسلفي وإخواني، وليبرالي وعلماني وحضري وبدوي وغني وفقير ومؤيد ومعارض.إنها "تغريبة" غايتها الإقصاء وعدم قبول الآخر، أصبحنا نرفض أنفسنا وإخواننا، نرفض هويتنا ونصنع من أقرب الناس إلينا أعداء لنا، وهذه الدنيا منحها الله لك وللآخرين وأعطاهم الله- مثلك- حق الحياة والحق في أن يختار كيف يعيش وبما يؤمن أو لا يؤمن فتلك علاقته بربه الذي خلقه، وعدم قبول الآخرين أو رفضهم أو إقصائهم أو تهميشهم أو تجاهلهم فهذا قرارك أنت وليس حكم الله، لأن الله لا يريد إقصاء الآخر، فهو الذي خلقه ووهبه نعمة الحياة ولم يعيِّنك وصياً ولا خليفة له عز وجل حتى تطرد عباد الله من دنيا الله، فالأمر الإلهي للكافة هو أن نتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وأن نعتصم بحبل الله جميعاً وألا نتفرق، ولا فضل لشخص على آخر إلا بما تصنعه يداه، ولله الحكمة والحجة ولو شاء لهدى الناس جميعاً.
وقد خلق الإنسان ضعيفاً خطاءً، وخير الخطائين التوابون ولا توبة من غير ذنب ولا ذنب من غير خطيئة، ولا خطيئة من غير ضعف، وكأن الضعف سنّة من سنن الله في خلقه بقوله تعالى (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)- النساء/28، وقوله تعالى (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)- الأنفال/66، وترك الله حسابهم لنفسه بقوله عز وجل )وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً)- فاطر/ 45، وأمرنا بالإحسان والعفو والصفح في قوله عز وجل (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(، وفي المسيحية ما شرعت عقيدة الاعتراف إلا لمثل هذا، وقال سيدنا المسيح عليه السلام (أحبوا مبغضيكم).حين تقرأ القرآن لا تجد إلا سماحة وسعة وديناً يحضنا على الوحدة والتكاتف والتراحم والمحبة والأخوة والتسامح وجعل حرمة دم الإنسان أعز وأغلى عند الله من حرمة بيته الحرام، وأباح الإسلام اختلاف الدين في البيت الواحد بزواج المسلم من غير المسلمة، وهو بيت تعُمه السكينة والطمأنينة والرحمة والمحبة أسبغها الله على زوجين يختلفان في الدين ويتحدان في الانسانية، ولا أفهم كيف يضيق صدرنا باختلاف الآخرين عنّا في الديانة أو المذهب او الفكر أو الأصل لإخواننا في الوطن وجيراننا في المسكن أو العمل في الوقت الذي أسبغ فيه الله الرحمة والسكينة على الزوجين المختلفين في الدين في بيت واحد ويكمل نعمته عليهما بإنجاب أبناء مسلمين تربيهم أم غير مسلمة، وهي مؤتمنة عليهم وعلى دينهم وعلى زوجها المسلم، فكيف لا يأتمن بعضنا بعضا على مشاركتنا أوطاننا!