أدونيس وزياد الرحباني... وثقافة المستنقع

نشر في 20-05-2013 | 00:02
آخر تحديث 20-05-2013 | 00:02
ثمة أمر لافت في الجدل الدائم حول أفكار الشاعر السوري أدونيس و«قفشات» الموسيقي اللبناني زياد الرحباني «وتنظيراته»، يدل على أمر سيئ، وهو أن النقاش يحصل في المستنقع دائماً، أو يدور حول نفسه، يراوح مكانه، لا يقدم جديداً وليس دليل صحة كما يتوهم البعض. أدونيس وزياد الرحباني كتلة من التناقضات والادعاءات والمصالح الضيقة.
أمر إيجابي أن يتخلل الثقافة العربية عموماً واللبنانية خصوصاً بعض النقاش والجدال حول كثير من القضايا والأمور العالقة والملحة، لكن المحنة أن هذا الوجه من الثقافة بات شبه مفقود أو غائباً. يحضر النقاش في لحظات النميمة ويغيب عن المنابر الثقافية حيث يغلب منطق «الشللية». أما المعمعة الدائمة حول أدونيس وزياد الرحباني فهي، ربما لا تنفصل عن واقع ما تفرزه الدكتاتوريات الثقافية إذا جاز التعبير. منذ سنوات عدة تحول كل من أدونيس وزياد الرحباني (ومجموعة قليلة من الأسماء) إلى عناوين دائمة لمقالات من هنا وهناك، تارة تؤيدهما وطوراً تهاجمهما.  

 الأدونيسية

باتت الأدونيسية في الثقافة اليومية كلمة ممجوجة مثل «العروبة» و{الممانعة» و{المثقف»، وقبلها «الثقافة الوطنية» و{الأدب الملتزم»، في حين تحوّل «الرد على الأدونيسية» إلى ظاهرة ركيكة معروفة المضمون... حتى أصبحت المعادلة السائدة: قال أدونيس في تصريح له، وردّ أحدهم على التصريح الأدونيسي، وهكذا دواليك... تتكرر الأسطوانة وإن بوسائل مختلفة وقضايا عدة ومتنوعة. ومحنة بعض الذين «يهاجمون» أدونيس أنهم يكررون معزوفات بعينها، يتطرقون إلى قصيدته في مدح الثورة الإيرانية أو الخميني، وقربه من النظام السوري، حتى أصبحنا أمام كم هائل من الحبر أسرف حول الأدونيسية بينما لم يقدم جديداً للثقافة، وكم هائل من المواقف أطلقها أدونيس ولكنها في جوهرها بقيت شعارات هلامية لم تقترب من جوهر الأمور.

وكثيراً ما يغلّب أدونيس على ثقافته منطق الشعارات أو يبحث عن معارك وهمية وفقاعية، ويعرف من أين يثير الجدل أو من أين يشعل فتيل التصريحات من كردستان إلى القاهرة وبيروت وصولاً إلى العواصم الأوروبية، أو كأنه يدرك بقوة واقع الثقافة العربية فيحول مواقفه أشبه بحجر يرميه في بئر آسن. لكن أفكاره يغلب عليها التخيّل، فلا يقرأ الواقع كما هو بل ينظر إلى الأمور كما في متخيله الشعري، وجلّ أفكاره موسمي وقائم على تناقضات وتناقضات. ربما الأبرز في الأدونيسية تناقضاتها، والكتابة عنها أكثر مما تستحق، أو ربما يستحقها رجل صار اسمه ماركة ثقافية.

لنتذكر كيف كان أدونيس قومياً سورياً، وما زال الجدل حتى الآن حول علاقته بأنطون سعادة قائماً. خرج أدونيس من القومية لكن لم يستطع الخروج من شخصية سعادة، لنتذكر كيف هاجم بيروت وثم اعتذر منها، هاجمها مثل أي شاعر يكتب نقده لمدينة كان يعيش فيها. لكن ما لم يكن متوقعاً أن من يحب بيروت ومن لا يحبها لم يتورع في الرد على أدونيس، وهذا ربما ما يبحث عنه الشاعر السوري. تراه دائم السعي نحو جدل ما. يهاجم التظاهرات التي تنطلق من المساجد في سورية، لكنه ينسى أنه مدح ثورة الخميني بإطناب.

أدونيس كتلة تناقضات بين الغموض والوضوح أو الشعر والنثر، بين الحداثوي والتراثي، بين اللبناني والسوري، بين الغربي والعربي، بين الأقلوي والكوني، بين المعترض والمعارض والمقرّب من النظام.

 الأندلس المفقود

المعادلة الأدونيسية يمكن تطبيقها على زياد الرحباني. والحال أن ثمة أمراً سيكولوجياً تفرزه الدكتاتوريات عادة وهو أن كثيراً من الجماهير  تعتاد على الشخص فلا يعود بإمكانها تصور الحياة الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية من دونه. وكثير من الشباب العرب لا يقدرون على تخيل الوسط الفني من دون الزياد رحبانية، ربما يقدم بعضهم ما هو أفضل من أفكار الرحباني موسيقياً ومسرحياً، ولكن هذا البعض يعيش متوهما بـ{نبوة» ابن فيروز وعاصي، تصبح حياته بين «زياد قال»، «زياد حكي»، «شفت زياد»، {سمعت زياد»، {مهضوم زياد»، «زياد ملك الساحة».

في الجدال حول زياد الرحباني وموسيقاه، ثمة أمر عقيم وهو أن نجل فيروز ما زال كما بدأ في حياته الفنية، ذلك القوّال المسرحي الذي يطرح مواقف سياسية ترضي البعض بقوة وتغضب البعض الآخر بقوّة، سواء قالها ضد النظام السوري في بداية الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) أو مع النظام الأسدي في خضم الحرب الأهلية السورية، سواء كان ستالينياً - لينينياً أو كان أحد مؤيدي سياسة «حزب الله». تبدّلت الألوان في مسار «الموسيقي المدلل» والبنية واحدة.

لا غرابة في أن يؤيد الرحباني نظام الأسد، فهو في الأحوال كافة تقوم مواقفه على النكاية والكيدية. حتى إنه لم يتورع عن تأييد ستالين في قتله ملايين الروس حفاظاً على الثورة، وربما يؤيد أن يقتل الأسد آلاف السوريين حفاظاً على النظام. فمنذ منتصف التسعينيات، أصبح الرحباني منظِّراً للعسكر ويكتب عنه الصحافي الراحل جوزف سماحة باعتباره قطباً لبنانياً في مواجهة قطب آخر هو الراحل رفيق الحريري. ومنذ ظنّ الرحباني نفسه قطباً سياسياً يسارياً و{اكمياً» و{ممانعاً» وأسدياً، صار يدور في المستنقع نفسه، عداء في السراء والضراء للحريرية ومؤيد للأسد حتى آخر «تكة». يكتب بمزاجية النجم المتهكم الذي لا يرى إلا نفسه في المرآة، ويتعاطى بازدراء مع معجبيه، ومع ذلك يتماهى هؤلاء مع ازدرائه لهم، كأنهم مازوشيون مع تصرفاته. ومحنة الذين يحبون الرحباني أنهم كما أولئك الذين يحبون حسن نصرالله، يؤيدونه بطريقة عمياء. الأرجح أن كثيراً من الكتابات عن زياد الرحباني نتاج شعور للأخير بالفقدان كأنها كتابات عن «الأندلس الضائع».

ما يمكن استنتاجه من الجدال حول الأدونيسية هو أن الوسط الثقافي العربي يعيش مرحلة خواء فكري، لم ينتج أفكاراً جديدة منذ سنوات، وكل الدلائل تشير إلى أن الثقافة غرقت في هامشيتها أمام المد الأصولي والتطرفي، بل إن البعض يتوهَّم أن يكون للمثقف موقف منقذ في مرحلة الأزمات، وهنا بيت القصيد. لا ينبغي التوقف كثيراً عند مواقف المثقفين والفنانين فالأحداث تجاوزتها وتخطتها، في بلدان يمكن فيها لفتوى شيخ مغمور أن تثير الجدل أكثر بكثير من أي أطروحة ثقافية. ويجب التنبه أيضاً إلى أن سلوكية بعض المثقفين والفنانين في مواقفهم لا تختلف عن منطق الفتاوى الرعناء.

back to top