جريمة حب فوق الستين

نشر في 17-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 17-07-2013 | 00:01
بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. على رغم ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
حياة الإنسان تحتاج أحياناً... إلى ثورة.

هذا ما أدركه الدكتور عماد بعد أيام من احتفاله بعيد ميلاده الستين. ربما يكون هو حالة خاصة بين أصدقائه ومعارفه. وربما تنطبق القاعدة عليه وعلى غيره. المهم أن من يملك الإمكانات قادر على إحداث هذه الثورة!

طالت لحظات التأمل ومواجهة النفس. سار به قطار العمر بأسرع مما تخيل... مرَّت السنوات الخمس الأخيرة كالدهر. بدأت فكرة الموت تكبر وتنمو وتكاد تتحول إلى عقدة. رحل عنه معظم أصدقائه. لم يبق غير صديق واحد قريب إلى قلبه وعقله. زوجته التي كانت تملأ عليه حياته أسقطها المرض من عرشها، فتحولت إلى بقايا امرأة وأطلال جسد. ترقد في سريرها فاقدة للذاكرة... شاحبة، هزيلة، لا ترحمها من آلامها سوى حقنة المخدر. يقترب الموت منها بخطوات واثقة.

 ماذا سيفعل لو رحلت هي الأخرى وتركته فريسة للذكريات، بعدما كانت تشاركه كل كبيرة وصغيرة قبل أن تتركه في هذا الفراغ الهائل؟ هل يستطيع أن يدخل حجرتها فلا يجدها فوق سريرها ترقد كالملاك حتى بعدما هجرتها الصحة وتخلى عنها الشباب وهدَّها المرض؟

هل سيجرؤ على الجلوس في التراس وقت غروب الشمس من دون أن تكون آمال جالسة على المقعد المواجه له تحتسي معه قهوة المساء؟ منذ الآن يفتقدها في أرجاء هذا البيت الكبير الذي بنياه معاً طوبة طوبة... كل زاوية في البيت تشكو غيابها... مائدة الطعام... ركن التلفزيون... غرفة المعيشة... مكتبه الذي كانت ترتبه له مرتين في اليوم. التحف التي اختارتها بذوق رفيع. حتى باب الشقة الشاهد الأخرس على قبلة الصباح التي كانت تمنحها له قبل أن يخرج إلى عمله. ربما يكون البيت الآن أشبه بحالته بعد رحيل آمال. الفارق الوحيد أنها ما زالت فوق سريرها بقايا امرأة؟

انتهت جلسة القمة التي عقدها الدكتور عماد مع نفسه بقرار صمم على تنفيذه مع الصباح. سيحدث في حياته ثورة شاملة... ثورة تعيد إلى حياته النبض والأمل والرغبة في الاستمتاع بالحياة وتبعد عنه فكرة الموت والعناء! ما زالت تحت يده ثروة يحسده عليها الناس، فلمن يتركها وهو لم ينجب ولداً يخلد اسمه ولا بنتاً يحميه حنانها في الكبر؟ لماذا لا يستمتع بثروته طالما أن لا وريث له؟ سيشتري شقة جديدة يدرب فيها نفسه على الحياة من دون أن تكون لآمال فيها ذكريات أو بصمات أو رائحة حب دام أكثر من ثلاثين عاماً.

سوف يتفق مع ممرضتين يتمتعان بأعلى مستويات التمريض تتناوبان رعاية آمال مهما طلبا من أجر. لا داعي لوجوده ليلاً في شقة آمال طالما أنها تنام بالمخدر من العاشرة مساء. سيسهر في شقته الجديدة يكتب ما يتيسر له من دواوين الشعر الحديث الذي يجيده. يكتب مذكراته، يستمع إلى الموسيقى، وربما يكون لفاتن دور في هذه الأمسيات. هذه الحسناء الشابة التي أصبحت لغزاً في حياته.

حكاية فاتن

 

خرج في الصباح وفي حقيبته دفتر شيكات. ساعات قليلة تحولت بعدها أفكار الأمس إلى واقع ووقائع. اشترى الشقة الجديدة في أحد أشهر شوارع الزمالك. تعاقد مع أحد أكبر مهندسي الديكور وأحد أكبر معارض الأثاث المستورد. اتفق مع طاهٍ من فندق شهير ومديرة منزل ومكتب التخديم لاختيار خادمة تليق بهذا العز.

الأيام تمضي... العمل في الشقة الجديدة يجري على قدم وساق... ليست ثمة معوقات، فالمال يوفر على صاحبه وقتاً وجهداً ويساعد على تغيير طعم الحياة ومذاقها. لكن بقي السؤال الذي ظل الدكتور عماد يهرب من الإجابة عنه. واضطر خالد صديق عمره الوحيد أن يواجهه به:

* ماذا تريد من فاتن؟ أو ماذا تريد فاتن منك؟!

ويبدو أن خالد عزف على الوتر الذي يحبه عماد فهمس له قائلاً:

** لا أعرف لماذا تحاول هذه الحسناء التي تصغرني بثلاثين عاماً أن تقترب مني. كانت تلميذة زوجتي في الجامعة... كنت أعتقد أن زياراتها لزوجتي وهي مريضة كانت من باب الوفاء لأستاذتها، لكني مع الوقت بدأت أكتشف ما لا يخطئه أي رجل. نظراتها محملة برسائل تنتظر رداً... وابتساماتها مغلفة بأنوثة تخصني بها. وكف يدها حينما تصافحني كطفل ارتمى على صدر أمه ويأبى عنه الرحيل! وكنت كلما تعمدت أن أبدو غبياً أو متغابياً أو جاهلاً بلغة النساء، كانت تقترب أكثر وتفتعل الحوارات وتكثف من الإيماءات. كنت أتمنى مصارحتها بأنني خائف منها... من شبابها... من التجربة ذاتها؟ أعترف بأنها لفتت انتباهي بشدة. أعترف بأنها شغلتني وشاغلتني وحيرتني. ماذا تريد من رجل في عمر أبيها؟ ولماذا أنا؟

 تمنيت أن أسمع إجاباتها. كتمت مشاعري بين ضلوعي خوفاً من أن يؤنبني ضميري لو خنت آمال. حتى لو كانت فاقدة للذاكرة. لم تكن مشاعري تجاه هذه الحسناء الشابة بريئة، ومجرد الحديث معها سيكون خيانة لزوجتي! ومع هذا استخدمت هذه الحسناء مكر الأنثى، وفتحت معي حواراً بحجة أنها تطلب نصحيتي إن كانت تطلب الطلاق أم لا. وأردفت تشكو إصرار زوجها على البقاء في الغربة منذ أربع سنوات من دون أن يشعر بما تعانيه من وحدة قاتلة... نصحتها بأن تسافر هي إليه فأقسمت بأنها لا تستطيع أن تحيا لحظة واحدة بعيدة عن مصر.

وعن الحب الذي ملأ قلبها نحو رجل آخر... احمرّ وجهي وأحسست بدماء تتدفق في عروقي بينما أخفضت هي رأسها ثم همست بأن غياب زوجها ربما يكون السبب. لكنها تتعذب من لوعة الحب من طرف واحد!.. ويبدو أنها شعرت بارتباكي فغيرت الموضوع. كان يكفيها في تلك اللحظة أنها نجحت في إيصال رسالتها إليَّ. لكني، حتى الآن، ما زلت خائفاً من أن يكون حبيبها المزعوم رجلاً آخر غيري.

 المهم أن حكايتها أخرجتني من دائرة الأحزان... وشجعتني على قيادة ثورة جديدة في حياتي. لم أعد أفكر بوحدتي بعد رحيل زوجتي. لم أعد خائفاً من أن يفاجئني الموت وأنا وحيد. سأعيش في شقتي الجديدة معظم الوقت. وسأدعو فاتن إليها حتى يتم طلاقها. وإذا كانت آمال شاركتني معظم سنوات عمري ربما يكون لفاتن دور في نهاية هذا العمر.

بلاغ مثير

مضى عام وبضعة أشهر... وذات يوم تلقت المباحث بلاغاً بالعثور على جثة الدكتور عماد داخل شقته... وأثبت تقرير الصفة التشريحية أن صاحب الجثة مات مقتولاً إثر تناوله طعاماً ساماً!

حصرت المباحث المشتبه بهم، في مقدمهم الطاهي والخادمة والبواب. لكن التهمة كانت تتباعد عنهم واحداً بعد الآخر كلما تعمقت المباحث في تحرياتها. أثبتت المعاينة أن الجاني دخل الشقة من دون عنف، وأن القتيل إما فتح له الباب أو كان مع الجاني مفتاح خاص به. كما أن الجاني فشل في فتح الخزانة، إلا أنه سرق بعض المجوهرات ونقوداً وجهازي موبايل ولاب توب صغيراً.

أثبتت التحريات أن الدكتور عماد كان يمنح العاملين في شقته إجازة يومي الأربعاء والخميس. وأكد بواب العمارة أن سيدة شقراء كانت تمضي معه معظم النهار يوم الأربعاء، بينما سيدة أخرى سمراء ظهرت في الأسابيع الأخيرة كانت تبيت معه يوم الخميس وتغادر مع الصباح الباكر!

في الوقت نفسه كانت المباحث تسير في اتجاه آخر... استدعت الأستاذ خالد أقرب الأصدقاء إلى قلب الدكتور عماد الذي يعرف تفاصيل حياته.

وخلال أربع ساعات حكى خالد قصة صديق عمره منذ بدأ يفكر في إحداث ثورة تقلب حياته رأساً على عقب... وصولا إلى حكاية فاتن بالتفصيل... لكنه أنكر أي معرفة بالسيدة السمراء! استدعت المباحث فاتن... وقفت أمام كبير الضباط ترتعد.. كانت تبكي بحرقة وتتشح بملابس سوداء... قالت:

{أحبني عماد وترددت كثيراًَ إلى شقته. نعم أنا المرأة الشقراء التي تنطبق عليها الأوصاف التي أدلى بها البواب. نعم أحببت عماد بجنون بعدما اكتشفت فيه رومنسية الحبيب وحنان الأب... وبقدر ما أحببته كان يتهرب مني في البداية، لكني ظللت إلى جواره، فالمرأة عندما تحب لا تدع حبيبها يبتعد عن عينيها لحظة واحدة! كانت مشكلته أنه يشعر بفارق السن بيننا ولكني ظللت أجاهد حتى شعر أن عمره يتناقص عندما أكون إلى جواره! وكانت مشكلتي أنني لست حرة وأمري ليس بيدي، ولهذا كنت أتابع قضية طلاقي في المحكمة بلهفة تفوق لهفة عماد للحصول على حريتي والزواج منه}.

اضافت: {لا أنكر أن عماد كان في قمة ضعفه مع كل زيارة... لكني حافظت على نفسي كي لا أسقط من نظره، فالرجل، مهما أحب امرأة، فلن يتزوج منها إذا سقطت ولو كان سقوطها بدافع الحب! كان يتعذب وأنا أمامه كعطشان يجلس على حافة النهر... ومع هذا لم يزد عطائي له عن قبلات خاطفة تخفف عنه وطأة الظمأ وكنت أداعبه بالمثل الذى يقول {نص العمى ولا العمى كله}.

وبكت وهي تستطرد قائلة:

{لماذا أقتله وقد نقل لي بمحض إرادته ملكية شقته الجديدة؟ لماذا أقتله وقد أودع لي رصيداً كبيراً بالبنك؟ لقد دفع مهري مقدماً. وكان بإمكاني الاختفاء من حياته من دون أن أقتله... صدقوني أنا لم أقتله... ولا يطاوعني قلبي أن أؤذيه أبداً، لكن لا تفضحوني. ابحثوا عن الجاني واستدعوني وقتما شئتم... لكن تذكروا أنني ما زلت في عصمة رجل... ولن تفيد براءتي إذا عرف الناس حكايتي مع عماد!}.

فجأة... ظلت عينا كبير الضباط تتركزان في شعر فاتن الذهبي الطويل ثم أمرها بالانصراف والحضور بسرعة كلما استدعاها! طلب الضابط المعاينة المبدئية لزملائه في شقة القتيل. تذكر سطراً لم يتنبه إليه أحد من فريق البحث... كلمات قليلة تضمنها هذا السطر تقول: {...وفوق ملابس القتيل من ناحية العنق بعض الشعر الأسود الطويل ويرجح أنه لامرأة!

 عادت المباحث واستدعت البواب لإعادة سؤاله عن المرأة السمراء، فأكد أن الدكتور عماد كان يطلب فور حضورها عشاءً فاخراً من أحد المطاعم الكبرى وكان يكلفه بالذهاب إلى الصيدلية لإحضار دواء يضعه الصيدلي في ظرف مغلق كتعليمات الدكتور عماد!

وأضاف البواب قائلا:

* {كان الدكتور يطلب مني أن أجهز لهذه السيدة السمراء سيارة أجرة وقت انصرافها من بيته في الثامنة صباح الجمعة... واعتدت أن أحضر لها سيارة شخص أعرفه يركن سيارته في كراج في آخر الشارع خلفنا... وعرفت منه أنه يوصلها إلى حي الأنفوشي بالإسكندرية... وهذا السائق اسمه محروس... هذا كل ما عندي}!

سأله ضابط المباحث:

** هل يمكن أن تدلنا على محروس؟

** أوي... أوي...

ساعة زمن وتوصلت المباحث إلى محروس. أكد سائق التاكسي أنه كان يوصل السيدة إلى حي الأنفوشي في الإسكندرية كل أسبوع، لكنها لم تكن تنزل في مكان واحد. كانت في كل مرة تنزل في شارع مختلف بحجة شراء مستلزمات لها؟

* ألم تعرف اسمها وأي معلومات أخرى عنها؟

** كنت أعرف أن اسمها ميادة... لكن ذات يوم وفي ازدحام إشارة المرور نظر إليها شخص من نافذة المقعد الخلفي للتاكسي وسلم عليها باسم صباح!

انتقلت تحريات المباحث إلى حي الأنفوشي في الإسكندرية وبدأت تتحرى عن كل امرأة تحمل اسم ميادة أو صباح في الأماكن التي أوصلها التاكسي إليها والأماكن المحيطة، وبحضور البواب والسائق محروس لعل وعسى يتعرفان إلى المرأة المجهولة... لكن باءت كل المحاولات بالفشل وتأكدت المباحث أن السيدة ربما كانت تنتحل أسماء مختلفة مثلما تفعل نساء الليل!

الزوجة لن تعلم

 

بعد تحقيقات طويلة ومكثفة أفرجت النيابة عن كل المشتبه بهم وأمرت بالبحث على وجه السرعة عن صاحبة الشعر الأسود بنت الأنفوشي! لكن مرت أيام وأسابيع وأشهر من دون أن تصل الشرطة إلى المرأة المجهولة التي يبدو أنها كانت تمنح القتيل ما رفضت فاتن أن تفرط فيه!

المثير أن السيدة آمال زوجة عماد ما زالت على قيد الحياة، ولا تعرف أنه هو الذي مات.

back to top