دماغك تحت المجهر

نشر في 22-10-2013 | 00:01
آخر تحديث 22-10-2013 | 00:01
يواصل الدماغ البشري تغيره طوال حياة الإنسان. فتتشكّل وصلات جديدة باستمرار، في حين أن المشابك العصبية القديمة التي ما عادت تُستعمل تتفكك. لكننا لا نعلم حتى اليوم الكثير عن هذه العملية. تمكن الدكتور ماركوس باتز، خبير متخصص في المعلوماتية العصبية من مركز الحوسبة الفائقة في غوليك بألمانيا، من إرجاع تشكّل الشبكات العصبية الجديدة في القشرة البصرية إلى قاعدة استتبابية (homeostatic) بسيطة تشكّل أساس عدد كبير من العملية الذاتية التنظيم في الطبيعة. ومع هذا التفسير، قدّم هو وزميله الدكتور أرجن فان أوين من أمستردام نظرية جديدة عن مرونة الدماغ. وتُعتبر هذه مقاربة مبتكرة إلى فهم عمليات التعلم ومعالجة إصابات الدماغ وأمراضه.
لا شك في أن روابط دماغ الإنسان البالغ ليست ثابتة. وقد برهن العلماء مرارًا هذا الواقع خلال السنوات القليلة الماضية مستخدمين تقنيات تصوير مختلفة. ولا تؤدي هذه المرونة العصبية دورًا أساسيًّا في عمليات التعلم فحسب، بل تتيح للدماغ التعافي من إصابات والتعويض عن خسارة وظائفه أيضًا. وقد اكتشف الباحثون أخيرًا أن المشابك العصبية القائمة في دماغ الإنسان البالغ لا تتكيّف مع الظروف الطارئة فحسب، بل تتشكّل الوصلات الجديدة باستمرار وتعيد تنظيم عملها. ولكن ما كانوا يعلمون طريقة التحكّم في عمليات إعادة التنظيم الطبيعية هذه في الدماغ. قدّم باتز وأوين قاعدة بسيطة توضح طريقة تشكّل شبكات الخلايا العصبية الجديدة هذه.

يذكر ماركوس باتز، الذي يعمل في مختبر Simulation Laboratory Neuroscience في مركز الحوسبة الفائقة في غوليك منذ بضعة أشهر: “من الممكن أن تكون المرونة البنيوية التي يتمتع بها الدماغ أساس تشكّل الذاكرة الطويلة الأمد. ولا تقتصر هذه العملية على التعلّم. فبعد التعرض لبتر أحد الأطراف، إصابة في الدماغ، بداية أمراض عصبية تنكسية، وسكتة دماغية، يتشكّل عدد كبير من المشابك العصبية الجديدة لمساعدة الدماغ على التكيّف مع التغييرات الدائمة في أنماط من الحوافز الداخلية”.

ضبط المشابك

تُظهر هذه النتائج أن تشكّل مشابك جديدة يعود إلى ميل الخلايا العصبية إلى الحفاظ على معدل نشاط كهربائي “محدد مسبقًا”. فإذا تراجع متوسط النشاط الكهربائي إلى ما دون عتبة محددة، تبدأ الخلايا العصبية ببناء نقاط اتصال جديدة بنشاط. فتشكّل هذه أساس مشابك جديدة تقدّم مدخلات (input) إضافية (يرتفع معدل إطلاق الخلايا العصبية الإشارات الكهربائية). لكن العكس صحيح أيضًا: عندما يتخطى معدل النشاط حدًّا أقصى، يُخفض عدد المشابك بغية تفادي الإفراط في الإثارة (يتراجع معدل إطلاق الخلايا العصبية الإشارات الكهربائية). ونرى أشكالاً مماثلة من الاستباب (homeostasis) في الطبيعة، في ضبط حرارة الجسم، مثلاً، أو معدلات السكر في الدم.

لكن ماركوس باتز يشدد على أن هذه العملية لا تنجح من دون الحد الأدنى من إثارة الخلايا العصبية: “تخسر الخلية العصبية التي لا تتلقى أي محفّز المزيد من المشابك وتموت بعد وقت قصير. يجب أن نأخذ هذا الواقع في الاعتبار إذا أردنا أن تتلاءم نتائج عمليات التحفيز مع ملاحظاتنا». استخدم عالِمَا الأعصاب هذان القشرة البصرية كمثال كي يدرسا المبادئ التي تساهم في تحديد أي خلايا عصبية تشكّل وصلات جديدة وتتخلى عن مشابك قائمة. ففي هذه المنطقة من الدماغ، يُجدد نحو 10% من المشابك العصبية باستمرار. ولكن عندما تتعرض الشبكية لضرر، ترتفع هذه النسبة. وباللجوء إلى عمليات محاكاة بواسطة الكمبيوتر نجح هذان الباحثان في إعادة بناء عملية إعادة تنظيم الخلايا العصبية بطريقة تتلاءم مع النتائج التي أسفرت عنها تجارب أجريت على القشرة البصرية لفئران وقردة مصابة بضرر في القرنية.

تُعتبر القشرة البصرية ملائمة تمامًا لإثبات قاعدة النمو الجديد لأن هذه القشرة تتمتع بخاصية مميزة: فالنقاط التي تُعرض الواحدة إلى جانب الأخرى على الشبكية تصطف بالطريقة عينها عندما تُعرض على القشرة البصرية، تمامًا كما لو أنها خريطة. وإذا تعرضت بعض أجزاء الشبكية لضرر، تتلقى الخلايا التي ترتبط بالصور المعروضة مدخلات مختلفة. يوضح باتز: “في عمليات المحاكاة التي نفذناها، لاحظنا أن المناطق التي لا تتلقى أي مدخلات من الشبكية تبدأ ببناء مشابك تتيح لها تلقي إشارات إضافية من الخلايا المجاورة”. تتشكّل هذه المشابك ببطء، وتمتدّ من طرف المنطقة المتضررة إلى الوسط في عملية تشبه شفاء جرح، إلى أن تبلغ مجددًا معدل النشاط الأساسي تقريبًا.

المرونة المشبكية والبنيوية

يوضح أرجن فان أوين، الذي يعمل على نماذج لنمو الشبكات العصبية منذ عقود: “تضيف قاعدة النمو الجديدة إلى المرونة البنيوية مبدأ بسيطًا مثل المرونة المشبكية”. في عام 1949، اكتشف دونالد أولدينغ هيب، بروفسور متخصص في علم النفس، أن الروابط بين الخلايا العصبية تقوى، إذا نُشّطت باستمرار. أما مَن لا تتبادل الكثير من المعلومات، فتضعف. ويعتقد علماء كثيرون اليوم أن مبدأ هيب هذا يؤدي دورًا بالغ الأهمية في عمليات التعلّم والذاكرة. صحيح أن المرونة المشبكية ترتبط، في المقام الأول، بالعمليات القصيرة الأمد التي تتطلب من بضعة أجزاء من الثانية إلى ساعات، إلا أن المرونة البنيوية تمتد على فترات أطول من الوقت، من بضعة أيام إلى أشهر.

نتيجة لذلك، تؤدي المرونة البنيوية دورًا بالغ الأهمية خلال مرحلة إعادة التأهيل (الباكرة) التي يمر بها المرضى المصابون بأمراض عصبية. وتدوم هذه المرحلة عادةً من أسابيع إلى أشهر. تقوم الرؤية وراء هذا المشروع على احتمال أن تؤدي الأفكار القيمة لعلاج مرضى السكتات الدماغية إلى توقع دقيق لتشكّل المشابك العصبية. فإذا عرف الطبيب التبدلات التي ستطرأ على بنية دماغ المريض وعمليات إعادة التنظيم التي سيشهدها خلال العلاج، يستطيع تحديد الفترات المثالية للتحفيز والراحة، معززًا بالتالي فاعلية العلاج.

مقاربة جديدة

تذكر البروفسورة أبيغايل موريسون، مديرة مختبر Simulation Laboratory Neuroscience في غوليك: “افترض العلماء سابقًا أن المرونة البنيوية تتبع أيضًا مبدأ هيب للمرونة. لكن الاكتشافات تُظهر أن المرونة البنيوية تخضع لمبدأ استتبابي بدلاً من ذلك، أمر لم يؤخذ في الاعتبار من قبل». لذلك يعمل فريقها راهنًا على إدخال القاعدة الجديدة في برنامج التحفيز المجاني NEST، الذي يستخدمه علماء كثيرون حول العالم.

تُعتبر هذه الاكتشافات مهمة أيضًا لمشروع “الدماغ البشري”. يعمل علماء متخصصون في علم الأعصاب، الطب، علم الكمبيوتر، الفيزياء، والرياضيات في أوروبا بدأب لمحاكاة الدماغ البشري بأكمله بواسطة كمبيوترات عالية الأداء من الجيل الثاني، وذلك بهدف فهم وظائفه بشكل أوسع. يذكر ماركوس ديزمان، بروفسور من معهد علم الأعصاب والطب في غوليك يشارك في المشروع: “نظرًا إلى المسار المشبكي المعقد في دماغ الإنسان، من المستحيل أن نتمكن من تحقيق تحمله الخطأ ومرونته بالاستناد إلى قواعد ربط ثابتة. لذلك نحتاج إلى نماذج لابتكار عملية إدراك ذاتي. يرأس ديزمان Computational and Systems Neuroscience، معهد فرعي يُعنى بالتفاعل بين الأبحاث العصبية وتكنولوجيا المحاكاة.

إعادة تنظيم القشرة البصرية

قبل (اليسار) تضرر الشبكية وبعيد ذلك (الوسط) ومرحلة لاحقة (اليمين). تستطيع معظم الخلايا العصبية من المنطقة، حيث تُعرض الصور من الشبكية المتضررة، تحقيق معدل نشاطها الأصلي مجددًا بفضل الوصلات الجديدة التي تشكّلت مع الخلايا المجاورة. تشير الألوان في الجزء السفلي من الصورة إلى نقاط الشبكية التي تُرسل المدخلات (input) التي تتفاعل معها الخلايا العصبية أشد تفاعل.

back to top