«السلفية» الفارسية تنتعش في إيران... واستعار حرب فضائيات شيعية سنّية

نشر في 09-10-2013
آخر تحديث 09-10-2013 | 00:01
بدأ السلفيون ينشطون سياسياً في بعض المناطق السنّية، على الأقل من خلال انتقادهم علانية الحكومة، وتشكيكهم في شرعيتها الدينية، واتهامهم إياها بمعاملة السنّة بإجحاف، منذ خمسينيات القرن الماضي، دخل الفكر السلفي (بمعناه العام الذي يشمل عقيدة الإخوان المسلمين) إيران من الشرق والغرب.
 معهد واشنطن اتهمت إيران الولايات المتحدة وحلفاءها في الشرق الأوسط مراراً بإثارة التوتر بين المسلمين الشيعة والسنّة، وتشمل هذه الاتهامات مفهوم أن الغرب يمول شبكات تلفزة تبث برامجها باللغة الفارسية عبر الأقمار الاصطناعية وهدفها الوحيد تأجيج الصراع الطائفي. إذا وضعنا ادعاءات طهران المرتابة جانباً، نلاحظ أن محطات بث فارسية كثيرة داخل الجمهورية الإسلامية وخارجها تخوض حرباً عبر الأقمار الاصطناعية، وتشير حملاتها الدعائية المتنوعة إلى ظاهرة جديدة في إيران: نهوض السلفية الفارسية. وقد أثار واقع أن تفسيراً فريداً متشدداً للإسلام السنّي بدأ يتأصل في إيران الشيعية المخاوف بين نخبة النظام الحاكم والمؤسسة الشيعية التقليدية.

الإيرانيون يكتشفون السلفية

منذ مطلع القرن العشرين، بدأت السلفية تنتشر في المجتمعات المسلمة من أوروبا إلى إندونيسيا، لكن قليلين توقعوا أن تكتسب زخماً كبيراً في إيران نظراً إلى العداوة المتأصلة بين السنّة والشيعة. لكن بعض أشكال السلفية تسلل إلى هذا البلد قبل ثورة عام 1979، إلا أن هذه الحركة لم تكتسب شعبية حتى وقت ليس ببعيد، بعد أكثر من ثلاثة عقود من الحكم الشيعي ودعاية النظام. تملك هذه الحركة اليوم عدداً من الأتباع الناشطين في المناطق السنّية، مثل كردستان وبلوشستان، وفي المدن الكبرى ذات الأغلبية الشيعية، مثل طهران وأصفهان.

يعتبر النظام الإيراني التعددية الدينية عموما تهديداً أمنياً، إلا أن نهوض السلفية (تيار يعتبر دين الدولة الرسمي كفراً) يسبب مشاكل أكثر خطورة. على سبيل المثال، تُعتبر البهائية أيضاً خطراً يهدد دولة إيران الشيعية، إلا أن بنيتها تجعلها أكثر انفتاحاً من السلفية. فضلا عن ذلك، يبدو أتباع البهائية في إيران منظمين جيداً، وموحَدين، ولا يتدخلون في السياسة، مما يسهل عملية تتبعهم ويحد من الخطر الذي يشكلونه. في المقابل، يتوزع السلفيون في أنحاء البلد المختلفة، وتمثلهم منظمات عدة لكل منها منهجها وعقائدها الخاصة. والأهم من ذلك أنهم بدؤوا ينشطون سياسياً في بعض المناطق السنّية، على الأقل من خلال انتقادهم علانية الحكومة، تشكيكهم في شرعيتها الدينية، واتهامهم إياها بمعاملة السنّة بإجحاف.

منذ خمسينيات القرن الماضي، دخل الفكر السلفي (بمعناه العام الذي يشمل عقيدة الإخوان المسلمين) إيران من الشرق والغرب، فعقب الحرب العالمية الثانية، سافر السيد غلام رضا سعيدي (1895- 1990)، كاتب ديني ومترجم إيراني، إلى الهند واكتسب معرفة واسعة عن النخبة والمجتمع الإسلاميين الدوليين. وعندما عاد إلى وطنه، بدأ بترجمة أعمال أبو الأعلى المودودي، سلفي بارز وضع العقائد الأبرز للجماعة الإسلامية الباكستانية، فضلاً عن عدد من المفكرين الإسلاميين (أمثال محمد إقبال)، وهكذا أدى سعيدي، الذي كان كاتباً غزير الإنتاج، دوراً بارزاً في تعريف القراء الفرس بمخاوف المسلمين الهنود وتحديات تأسيس دولة جديدة في باكستان. إذن، فتحت أعماله نافذة جديدة على عالم إيران الديني، تاركة بصمة كبيرة في القراء الشبان الذين كانوا يبحثون عن أفكار جديدة عن الإسلام للتخفيف من استيائهم من المؤسسة الدينية ومواجهة التهديدات العقائدية (خصوصاً الموجة الشيوعية التي كانت تسيطر على البيئة الفكرية الإيرانية في تلك المرحلة).

في تلك الأثناء، عمد بعض المفكرين الإيرانيين في مرحلة ما قبل الثورة إلى تعريف البلد إلى الأفكار السلفية الخاصة بجماعة "الإخوان المسلمين" المصرية الأصل. ففي أواخر أربعينيات القرن الماضي، أسس رجل الدين نواب صفوي "فدائيان إسلام"، أول مجموعة إسلامية إيرانية أقامت علاقات مع "الإخوان المسلمين" وترجمة كتاباتهم إلى الفارسية، بما فيها أعمال القيادي البارز سيد قطب. كذلك عمل رجل دين بارز آخر، سيد هادي خسرو شاهي (ولد عام 1938)، على ترجمة كتابات إسلاميين جزائريين وتونسيين وفلسطينيين، فضلاً عن أعمال "الإخوان المسلمين"، فشكل هؤلاء المترجمون وغيرهم مجموعة ناشطين سياسيين أساسيين سعوا إلى تعزيز وعي بلدهم بشأن المسائل الإسلامية خارج إيران. على سبيل المثال، أثارت الأعمال الإسلامية، التي نقلوها، قضية سياسية جديدة في إيران، ألا وهي القضية الفلسطينية.

صحيح أن معظم أعمال الترجمة هذه اعتُبرت عموماً جهوداً عقائدية هدفها تجييش الإيرانيين ضد نظام محمد رضا بهلوي والإمبريالية الغربية، إلا أن الأفكار السلفية دفعت أيضاً بعض المفكرين الدينيين إلى محاربة ما وصف بـ"خرافات" الشيعة. على سبيل المثال، تأثر حيدر علي قلمداران (1913- 1989) كثيراً بكتابات مماثلة وسعى إلى تطهير الشيعة من عدد من الصلوات والطقوس (مثل الحج إلى مقامات الأئمة الشيعة القدماء وذريتهم) والمعتقدات (مثل مفهوم أن الأئمة الشيعة امتلكوا قوى ومعارف خارقة). تمكن قلمداران من النجاة من محاولة اغتيال كان المحرض وراءها رجال دين تقليديون في قم. فأمضى ما تبقى من حياته في العزلة والفقر. صحيح أنه لم يكن ناشطاً سياسياً، بيد أن وجهات نظره كان لها تداعيات سياسية في السنوات اللاحقة، مثل رفض شرعية نوع الحكم الديني الذي تفرضه الجمهورية الإسلامية. علاوة على ذلك، تأثر قلمداران وغيره ممن انتقدوا "الخرافات" الشيعية، مثل محمد حسن شريعة سنعلاجي (1855- 1943) وسيد أبو الفضل برقعي (1909- 1992)، بالمفهوم السلفي عن المبادئ الأساسية الإسلامية، خصوصاً تفسير هذا التيار لوحدة الله.

السلفية كرد فعل سياسي

خلال عهد الجمهورية الإسلامية (النظام الذي يشرع حكم آيات الله الحصري، يجعل الشريعة الإسلامية قانون الدولة الرئيس، ويفرضها على أوجه الحياة كافة)، ابتعد كثير من الشبان وغيرهم من الإيرانيين عن المعتقدات الشيعية ولجؤوا إلى الإلحاد، والتشكيك، والصوفية، والإسلام السنّي، والبهائية، والمسيحية، والزرادشتية، وحركة العصر الجديد، والحركات الباطنية الأميركية اللاتينية. وتتولى منظمات عدة في النظام، بما فيها مكتب الديانات والطوائف في وزارة الاستخبارات، مراقبة أتباع الأقليات الدينية وتحاول عرقلة الجهود التي يبذلونها لزيادة عدد مريديهم، حتى الأوساط الصوفية، التي تُعتبر شيعية رسمياً، تتعرض للاضطهاد باستمرار.

في هذه البيئة، انتشرت السلفية بسرعة في مختلف أنحاء البلد عبر الإنترنت، وسائل التواصل الاجتماعي، والمحطات التلفزيونية الفضائية. بالإضافة إلى ذلك، تقدم مجموعات سرية عدة برامج تدريب للمتطوعين الشبان وتدير برامج تبادل تعرف السلفيين الإيرانيين إلى سلفيين عرب في المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول، ويُعتبر هذا أحد الأسباب الرئيسة التي تدفع النظام إلى منع السنّة من بناء المساجد في طهران وغيرها من المدن الكبرى. فيخاف النظام أن يستغل السلفيون هذه المساجد لاستمالة الشبان الشيعة المستائين من عقيدة الجمهورية الإسلامية.

حرب الأقمار الاصطناعية

ثمة خطان شيعيان رئيسان في إيران: عقيدة النظام الرسمية والنسخة المتطرفة التي تعتبر نفسها المعارض الرئيس للإسلام السنّي. صحيح أن النظام يتجاهل غالباً التوتر بين السنّة والشيعة وينادي بمقاربات إسلامية عامة للسياسة الخارجية والمسائل الأخرى، إلا أن الشيعة المتطرفين (الذين يُعرَفون بالأولياء أو الملالي) يرفضون إخفاء حساسيتهم إزاء الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل. ويتلقى هؤلاء المتطرفون الدعم من السلطات الدينية، وقد سببت دعايتهم العلنية المخاصمة للسنّة المشاكل للنظام في داخل إيران وفي مختلف أرجاء العالم الإسلامي الأوسع.

في السنوات الأخيرة، اعتمد الأولياء إلى حد كبير على محطات التلفزة الفضائية بغية نشر دعايتهم، مشعلين حرباً افتراضية متصاعدة بين السلفيين والشيعة. نتيجة لذلك، بات السلفيون اليوم يستخدمون محطات فضائية ناطقة باللغة الفارسية، مثل Global Kalemeh Network (مقرها في المدينة ودبي على الأرجح) وWesal Farsi (مقرها في لندن والخليج العربي) بهدف محاربة "الحكومة الصفوية"، كما يطلقون على الجمهورية الإسلامية وعقيدتها الشيعية. فيبثون برامج دينية، يتلقون اتصالات من إيران، ويقيمون مناظرات مع شبكات التلفزة الفضائية الشيعية، مثل "الكوثر تي في" و"شبكة أهل البيت العالمية" (التي يقدم برامجها رجل دين أفغاني)، و"الإمام الحسين تي في"، والسلام تي في" (مقرها في فرجينيا وتدعمها عائلة شيرازي، التي تتمتع بنفوذ واسع بين شيعة الخليج).

يستخدم السلفيون و"الإخوان المسلمون" أيضاً عدداً من المواقع الإلكترونية على شبكة الإنترنت لخوض تلك المعركة الدعائية، بعضها تابع لمنظمات مثل "جماعة الدعوة والإصلاح" في إيران. في المقابل، يدير الشيعة المتطرفون عشرات المواقع الإلكترونية بغية مواجهة السلفيين، كذلك يُعتبر هذان الطرفان ناشطين جداً على مواقع التواصل الاجتماعي.

خلاصة

خاب أمل الكثير من الإيرانيين الشبان بالعقيدة التي ينادي بها النظام ورجال الدين التقليديون، إلا أنهم لا يودون التخلي عن إيمانهم، ما يدفعهم إلى اعتناق السلفية. تركز جماعة "الإخوان المسلمين" والتيارات السلفية الأخرى على وحدانية الله وعدم نسب القداسة إلى أي كائن بشري أو شيء دنيوي. وتشكل هذه طريقة فريدة لتقديم الإسلام بطابع علماني منطقي يجذب الطلاب الشبان، خصوصاً مَن يدرسون العلوم. وبخلاف السنّة التقليديين في إيران والسلفيين في أنحاء العالم المختلفة، يميل سلفيو إيران إلى التشكيك في الشرعية الدينية للجمهورية الإسلامية ويتعمدون تضخيم التوتر السنّي-الشيعي، لكنهم لا يشاطرون السلفيين حول العالم سعيهم للاستيلاء على السلطة، لأنهم يدركون أن أي حكومة إسلامية في دولة إيران ذات الأغلبية الشيعية ستكون شيعية بالتأكيد. لكن سلفيي إيران متصلون تنظيمياً بالخارج. ويأتي معظم دعمهم العقائدي والمالي من خارج الجمهورية الإسلامية. ونظراً إلى هذه العوامل والكره المتنامي بين العرب والأكراد والبلوش في إيران، يبدو جلياً أن السلفية تشكل خطراً أمنياً يهدد النظام.

Mehdi Khalaji مهدي خلجي

* كاتب إيراني أميركي وباحث في الدراسات الإسلامية والسياسية في "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"

back to top