الشاعرة نجوى شمعون: الحرب تكتبنا برصاصها

نشر في 06-09-2013 | 00:02
آخر تحديث 06-09-2013 | 00:02
No Image Caption
نجوى شمعون شاعرة وإعلامية فلسطينية صدر لها ديوان «كما ينبغي لي» عن «المركز القومي للدراسات»، وقصائد ضمن كتاب «خارج سياق النهر» عن «بيت الشعر الفلسطيني»، لها نبرتها الخاصة في القصيدة. معها هذا الحوار.
ما الذي يمثله الجسد بالنسبة إليك في الشعر؟

الجسد تمثال، أما الروح فضوء يتسرب في ماء الجسد، هكذا تُحدث خلخلة في المعنى وتفسد على طريقتها الكلمات كلما وقعت في الدلال. أبيض هذا المعنى، كفريسة أنصب فخاخي بروية كي لا أقع  كلي في البياض. لا بد من ظل يموه البياض على مهل. الفرس حين تأتيك ولا تهادن، تتمرد فيك حتى تصطك عظامك. ولم يكن البرد كان الشعر يؤثث للفراش بيتاً من ضوء تتسرب فيه صفات الضوء. الجسد يشبه الروح تماماً، أقرب إلى صفة الهواء والتراب. فالروح لا نراها إن خرجت من الجسد. الروح هي المنفلتة على عوالم كثيرة، لماذا لا نحاسبها ونحاسب الجسد الكتلة النائمة على الأرض الكتلة التي لا تحلِّق؟ لماذا ارتبط الجسد بالخطيئة وبالذنوب على رغم أن الروح تحمل ما يحمله الجسد من فكرة الخطيئة؟!

 لماذا نأخذ دائماً فكرة ما ونحوم حولها. مثلاً، عند العرب الجسد عورة والشاعرة التي تتناوله في كتاباتها تعتبر إباحية أو تفتش عن رغباتها! الشاعرة العربية التي عاشت وتعيش هذا الفصام الدائم في مجتمعها، هذا الخصام في ذاتها المبدعة وفي تكوينها كأنثى. لماذا يترك الشاعر ولا ينتقده أحد في حين تلاحق الشاعرة وتوصف بأبشع التهم إذا كتبت عن الجسد؟ ما الذي يغيظ الآخر ويقهره ويفتح له التأويل ونصب الشراك؟ لا تقل لي حماية لها. الشعر لا يعرف الحماية، يعرف التحليق والجنون، ولا يعرف حدوداً لحوافره. لا ينتظر مدافعين عنه أو عن كاتبته. الوجوه ذاتها يربكها المشهد فتقتص من القصيدة...

أليس لها الحق في أن تكتب عن الجسد الذي يزوجونه صغيراً برجل كهل أو الجسد الذي يغتصب بأسماء كثيرة؟

إلى أي حد كان حضور الحرب والصراع في كتاباتك الشعرية؟

تكتبنا الحرب برصاصها، ولو تناولت ديواني «كما ينبغي لي» لوجدت الحرب هناك وكل ما يحدث على الأرض من قتل وتشريد. ينبغي أن نخرج قليلاً عن الحرب، لنرى أمزجتنا ونربت على كتفنا الهزيلة في الحرب لننهض ونتنفس بعض الحب كي نقهر الحرب.

الكتابة ليست عرض سطور من الحياة بقدر ما هي الخروج عن المألوف، وهي كيف نصنع من الحرب سلماً للنجاة؟ كيف أكتب من دون أن تحترق يديّ بجمرة الشعر، وكيف أصنع الفخاخ في القصائد، وكيف أعدها وأفككها كما لو كانت لغماً؟ القصيدة هي اللغم، لكن في الوقت نفسه علىّ ألا أقع في الفخاخ التي صنعتها بيدي. الشعر حواس مجتمعة لا تعرف الواقع ولا تعترف به، لذا نحن في صراع دائم لنطير لا لنحط على الأرض، وهذا هو قدرنا الممتع والمؤلم في آن.

من هو الشخص الذي تخاطبينه في شعرك، هل هو الغائب أو الخيال؟

لا بد من واقع يستند إليه الخيال، ولا بد من خيال يستند إلى الواقع، هكذا الشعر. لا يوجد شخص، لربما عوالم كثيرة تتمثل بوجوه وعابرين وراحلين. دائماً ما يتحول الواقع إلى خيال ويصير للغائب ظل أو شبح في الغياب. كل شيء متشابك وما من شيء ثابت في الشعر. أخاطب الغائب الذي يقيم في الذاكرة دائماً، الذي ربما يكون أنا. الشعر هو التناقض والاختلاف، والكتابة واقع ممزوج بالخيال أو العكس، لا تأخذ شكل العادي وإلا لما كانت قصيدة. الكتابة هي كيف ترى العالم بعين أخرى، بعين نصف مغلقة ونصف مفتوحة على الهاوية، عين هي تشبه جناح طائر ولا تشبهه هي رفة العين كريشة تعلو وتهبط أو لا شيء، مجرد بقع من الضوء في رشح السؤال. وكذا الشعر لا أمل من الشفاء منه كالحب تماماً، إما يقتلك أو يقتلك لا مناص، وهذا هو الحب الكره. لا تفسير سوى طغيان الموج، موج القصيدة عليك، تغرق حتى تمتلئ الرئة بما فاض منك غريق اللذة وعقابها ابن الخطيئة. أنت وأنت تمارس جنونك في القصائد، تعارك حراسك وجنود قصرك، أولئك الذين رسمتهم بكامل أسلحتهم بقسوتهم ونعومة الأيدي التي تتلمس خطاك، فتشهق الحيرة والحيرة لا دواء لها. لا تلتفت، إن تلفت عدت إلى الموت وساقتك الآلهة في الظلمات. ليس من نور سوى قلبك الذي يعشق.

محمود درويش محطة دائمة في حياة معظم شعراء فلسطين. من هو بالنسبة اليك؟

أحاول الابتعاد عن درويش لأفلت منه. عجزت حتى الآن عن الكتابة عن رحيله. نستبعد فكرة الموت بذاتها، فكيف نتقبل الغياب الموت!

القراءة لشاعر بحجم درويش هي أن تتوغل في روحه، والانفصال هو كفصل الروح عن الجسد. هكذا يحدث إن تآلفت روحك مع شاعر ما. إنها الهزيمة في حرب خاسرة والحرب الخاسرة هي الموت.  

الشعر هو أن تتماهى مع أرواح الآخرين، تشرب من نبعهم، تتآلف روحك معهم، تتقمصهم حيناً وتبكي حين تقرأ لهم، تتوحد معهم، وأكثر من ذلك بكثير. الشعر هو ما يتركه الآخرون لتمسك بنهاية الخيط وتبدأ أنت تغزل بعده. لا يمكن أن يكتب شاعر أو كاتب من دون أثر لمن سبقوه. كلنا نكمل الدائرة المفتوحة على الدهشة. الكتابة نحت في الوعي واللاوعي. لا يشبه شاعر شاعراً آخر، فلكل منا خصوصيته، من التماع سيفه ووفرة الضوء في قصيدته، الضوء الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، وماء القصيدة ضوء الروح، روح كاتبها. لا يمكننا الكتابة بمعزل عن الآخر، لا بد من نقطة تتسرب من الآخر المقروء والمتغلغل فينا، لذا عند إعادة القراءة نشطب ونحذف ما سقط من ماء الغير مهما كانت هنالك من ضرورة ملحة في داخلنا على الكمال، اذ لا يستطيع الكاتب المتمرس على الغواية أن يستعير دلو غيره. يمكنه الاستفادة لا الاقتباس.

لذا لا بد من المرور في نوايا الآخر، لكن من دون البقاء. يصبح المقيم ضيفاً ثقيلاً حتى على نفسه. الكتابة جنون ولا تسأل مجنون ماذا يكتب لحظة الكتابة، وحين ننحت في الروح لنصقل الشعر من وهجه لا نسمع غير صرير القصيدة ونزيف ولادتها ليس من قابلة غير جسد الكاتب، الجسد المملوء بالثقوب كما لو كان ذاكرة النص. لا أحد يتمرد على أحد، سوى نفسك تطويها وتعيد نشرها من جديد بوعي أكثر ونصال متعددة.

هل تعتقدين أن النشر عبر «فيسبوك» يشجع على النشر من خلال كتاب أم أنه يقتل الورق؟

لا شيء يقتل الأوراق. ثمة حاجة ملحة إلى احتضان كتاب نشمّ أنفاسه كما لو كان واحداً منا. يجعلك الكتاب تحلم وتسافر، تشعر بوجعه وتألفه بحميمية ولربما تنام وأنت تقرأ، فتحلم بكل ما قرأت وكشريط سينمائي طويل تعيشه، تتذوق وتشم وتضحك وتبكي في جو مختلف أقرب إلى النوم تحت شجرة وهذا هو الحنين إلى ملامسة كتاب لتركه في مكتبتك الخاصة ككنز خاص بك وحدك.

شكَّل وجود الكتاب معرفة بين اليد والكتاب والذاكرة التي ترسم أجواء ما، فصارت عادة أن تحتضن الكتاب كما لو كان ابنك. صنعت ملامسة الورقة نوعاً من العلاقة بين القارئ والكتاب، إحساساً بين ما يتلقى وبين ما يصنعه خياله، لذا صارت العلاقة أقوى بكثير من أن تنفصل أو تتلاشى ببساطة.

كمتحف بين يديك تتفاخر به وتهجره وقتما تشاء وتعيده إليك. إنه نوع من التملك والترف. جعل الـ{فيسبوك» الشاعر وجمهوره وجهاً لوجه وجعل الشاعر أكثر كثافة وحضوراً وقرباً حتى تكاد تشتمه إن لم يعجبك رأيه، الأمر الذي زلزل وسحب البساط من تحت أقدام الكثيرين، خصوصاً في حال كتب الشاعر في السياسة رأياً مخالفاً لمتابعيه. الميديا تصنع وتقتل في الوقت ذاته.

النشر كأنك تكتب وتنزف. في اللحظة ذاتها التي يقرأ جمهورك فيها موتك أنت تكتب نعيك بيدك. صار الـ{فيسبوك» حالة وأنت المدافع عن عشقك، فإذا كتبت قصيدة في العشق أنت الملام وإذا كتبت قصيدة في السياسة ولم تعجب جمهورك المتابع، صارت القصيدة هنا أشبه برأيك السياسي، إما ترجم بالحجارة أو تعدم فوراً، وهنا على الشاعر أن ينتبه لهذا الموت الانتحار. صنعت الميديا وجهاً آخر للشعوب وللشاعر، إما أن تكون مع أو أن تسقط، وهنا خلط أيضاً وإجحاف وقتل مترصد للفنان.

ما الذي يجول في بال الشعر والشعراء ليطلقوا الرصاص على بعضهم في ساحة تتسع للجميع، وكذا في السياسة؟ لماذا لم يعد الكون ممكناً لجميع الكائنات لأن البعض نصب من نفسه إلهاً يمحو ذلك ويلقي الآخر في النار على أساس أن تُترك له الساحة ويبقى هو فقط. الشعر ليس هكذا ولا الحياة.

الضحكات أيضاً أشجار نستظل بها لحظة ألم، لكن هذا لا يلغي أن الضحك بكاء، ومثل ثقب في القلب علينا التعايش مع هؤلاء المنتفخين بالأنانية.

القلق رديف الشعر، لا يمكن أن نكتب ونحن في هدوء تام. الهدوء دائماً للأموات ولا أعتقد بوجود كاتب هادئ إلا إذا استطاع أن يخفي المجنون في داخله. الشاعر مجنون لا محالة، لولا هذه الصفة الجميلة القبيحة لما كتب وأبدع، ولما تحايل على اللغة ونصب لها الفخاخ. لربما خرجت هنا عن السؤال أو عن الاجابة التي من المفترض أن تكون مرتبة ومتناسقة تليق بالسؤال. لربما هذا هو الجنون بعينه والشعر ذاته.

هل لديك مشروع ما في كتابة الشعر؟ وهل تكتبين شعراً يتعلق بالحدث أم بذاتك وأحوالك؟

الكتابة ليست مشروعاً، إنها فن النحت أينما كنت سواء على الماء أو الضوء، نحت في الروح والهواء الطلق. لا أحب الكتابة حسب المناسبات أو الحدث إلا إذا انسكبت مشاعري دفعة واحدة ولم أفلح في منعها أو لجمها. الكتابة لفترة طويلة كانت عن الذات، ولست وحدي في ورطة الكتابة هذه، أعتقد أن غالبية الشعراء الفلسطينيين لفترة كتبوا عن الذات. الكتابة عن الذات رديف الحياة، لا يستطيع شاعر أن يكتب عن المقاومة في فترة سلام أو هدنة مع العدو. لماذا يتصور البعض أن الشاعر ليس له أي استراحة من الدم العالق بكعب القصيدة أو الحروب التي تركض خلفه أينما ذهب خصوصاً كفلسطيني وكان عليه أن يؤجل موته الصغير لموت أكثر ألقاً وأن يكون حاملاً للقنبلة والسلاح وليس له أن يغني مرة أو حتى أن يلفظ أنفاسه ليستريح في النوم وإن كتب عن الحب فهو خائن وباع قضيته وإن كتب عن الخيال فهو لا يعيش في هذا العالم، عليه فقط أن يكرس فكرة الدم أكثر ويعيشها ويتنفسها ويمضغها ولا سبيل له للقفز عالياً بعيداً عن الحجارة والقتل والموت. ثمة خلل ما في الثقافة العربية، في فكرتها عن الشاعر وتصوره كمحارب يقف في الصفوف الأولى ولا يكتب سوى بحبر قلبه ويكتب عن الوطن بسكين المطبخ. لا تروِّض الشعر كما تريد، الشعر يحلق بالشاعر عالياً فوق آلامه والجراح ليعلو ويختلف في رؤيته للعالم كله. ليس على الشاعر أن يكتب الحروب كما هي، كما تصورها أو كما تلتقطها عينه، عليه أن يكتبها ويحررها بمخيلته بشكل آخر، شكل يتوافق مع طيرانه لا موته وهيئة حياة يفتقدها كثيراً في الحرب والحصار وصراع الأخوة على الدم. عليه أن يرى ما لا يراه غيره وأن يعيد ترتيب الأشياء لتتوافق مع مزاجه، وعليه فوق ذلك كله أن يبتكر العالم بشكل آخر بعيداً عن صورته المزعومة. وهذا العالم في وجدان الشاعر عليه بمهارة أن يريه للناس بكامل دهشته وسحره وأن يصنع الدهشة خطوة خطوة.

back to top