جنون انتظار معارضة سورية أفضل
عملت الولايات المتحدة في على بناء معارضة سياسية أكثر «توحّداً» و«تمثيلاً»، رغم أن التاريخ يُظهر أن الحركات الليبرالية قلما تتوحد أو تمثَّل بفاعلية، فمن الأفضل بالتأكيد التعامل مع معارضة أكثر توحداً، إلا أن الاستمرار في تعليق الآمال على معارضة أشمل تحوّل إلى عذر ومصدر إلهاء عن المسائل الأكثر أهمية.
يركّز الجدل الدائر اليوم حول سورية مرة أخرى على تركيبة الائتلاف الوطني السوري، فبينما تحض الولايات المتحدة وأوروبا والمملكة العربية السعودية المعارضة على توسيع صفوفها لتشمل الليبراليين، يواصل نظام الأسد تحقيق مكاسب كبيرة ضد قوات الثوار، التي تتحدث عن تراجع المعنويات ونقص المعدات الأساسية (وهذا مذهل بعد سنتَين من طلبها). يذكر أحد الثوار من لواء التوحيد في حلب: "لو كنا نملك المزيد من الذخيرة لاحتللنا حلب في غضون 20 يوماً".بما أن التدخل العسكري مستبعد جدّاً منذ بداية الصراع، عملت الولايات المتحدة في المقابل على بناء معارضة سياسية أكثر "توحّداً" و"تمثيلاً"، رغم أن التاريخ يُظهر أن الحركات الليبرالية قلما تتوحد أو تمثَّل بفاعلية. من الأفضل بالتأكيد التعامل مع معارضة أكثر توحداً، إلا أن الاستمرار في تعليق الآمال على معارضة أشمل تحوّل إلى عذر ومصدر إلهاء عن المسائل الأكثر أهمية، مثل محاربة قوات الأسد وتغيير التوازن العسكري على الأرض. ولا شك أن التقدّم العسكري على الأرض ضروري لتحقيق التقدّم السياسي، لا العكس.لاحظنا منذ بداية الصراع قلقاً مبالغاً فيه، على ما يبدو، بشأن تشكيل معارضة أفضل وأكثر "ليبرالية"، لربما بدت هذه الجهود منطقيةً في الأشهر الأولى من الانتفاضة، إلا أنها ليست كذلك اليوم مع سيطرة السلفيين والإسلاميين على الجزء الأكبر من المعارضة المسلّحة داخل سورية. وإذا أردنا تشكيل ائتلاف معارض "شامل" حقّاً، يجب أن يشمل عدداً كبيراً من السلفيين (ما من كتلة سلفية في الائتلاف الوطني). لكن هذا ليس بالتأكيد نوع التمثيل الذي تريده الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة، عمل المجتمع الدولي على بناء المجلس الوطني السوري، بعد عدد من الانطلاقات الفاشلة ومؤتمرات المعارضة المتنافسة، ولكن سرعان ما تحوّل المجلس الوطني إلى تابع لجماعة الإخوان المسلمين، فاعتُبر أنه لا يُمثل كل الفئات الإثنية والدينية السورية (وهذا مبرر). لذلك بُذلت الجهود لإنشاء ائتلاف أوسع، وهكذا وُلد الائتلاف الوطني، لكن هذا الائتلاف الجديد المؤلف من 60 شخصاً، والذي حصل فيه المجلس الوطني على ثلث المقاعد، تحوّل أيضاً إلى تابع للإخوان المسلمين (مع أن عدد أعضاء هذه الجماعة الرسميين لا يتخطى الستة). لكن الجماعة تمكنت من بسط نفوذها إلى ما يتعدى عدد أعضائها من خلال شبكة من الحلفاء، بمن فيهم أعضاء سابقون من الإخوان المسلمين ينتمون إلى مجموعة العمل الوطني التابعة لأحمد رمضان. ولكن من المؤسف لوم الإخوان المسلمين لأنهم أكثر تنظيماً وفاعلية من سائر مجموعات المعارضة السورية المفككة جدّاً.في الأسابيع الأخيرة، بُذل جهد مضاعف بغية "توسيع" الائتلاف ليشمل 20 إلى 25 مقعداً إضافيّاً تُعطى لكتلة ليبرالية يقودها المعارض العلماني المخضرم ميشيل كيلو. حاولت الدول الغربية، فضلاً عن المملكة العربية السعودية، إرغام الائتلاف الوطني على القبول بكيلو وحلفائه، ولكن خلال التصويت، لم يقبل أعضاء الائتلاف إلا بستة مقاعد جديدة (تفرض قوانين الائتلاف الحصول على أغلبية 42 صوتاً لإضافة مقاعد جديدة). فأشعل هذا سخط الفرنسيين، الذين قالوا: "لن تحصلوا على أي دعم منا ما لم توسعوا الائتلاف". صحيح أن ردّ الفعل هذا لم يكن مفاجئاً، إلا أنه بدا غريباً بعض الشيء، ففي كل منظمة، من المعتاد أن يوافق الأعضاء القائمون على توسيع العضوية. أما المسؤولون الأميركيون، الذين لا يقفون مكتوفي الأيدي ويكتفون بالمراقبة، كما يصوَّرون أحياناً، فقد خصصوا الكثير من الطاقة، والموارد، والمال لمحاولة غير منطقية هدفها إعادة صياغة المعارضة السورية. أوَليس من الأفضل ضم عدد أكبر من أمثال كيلو إلى المعارضة؟ نعم بالتأكيد. ولكن لم يتضح بعد الفارق الذي سيشكّل خطوة مماثلة، نظراً إلى أن معظم المقاتلين على الأرض لا يتبعون الائتلاف الوطني وأعضاءه المقيمين في الخارج بأغلبيتهم أو حتى يأبهوا بهم.جاءت هذه الجهود لتوسيع الائتلاف قبل مؤتمر جنيف الثاني للسلام، الذي روّج له البعض على أنه الفرص الأخيرة (أو الأولى) لتحقيق تقدّم سياسي حقيقي. تدور الفكرة الرئيسة وراء هذه الجهود حول ضرورة أن توحّد المعارضة صفوفها كي تتمكن من التحدث بصوت واحد مع الروس والنظام، لكن المشكلة تكمن في ألا أحد في الائتلاف يعتقد أن المحادثات ستؤدي إلى أي نتيجة. فستبقى مشاركتهم في المؤتمر صورية هدفها تهدئة المجتمع الدولي الذي ما زالوا يأملون أن يقوم بالمزيد من أجلهم، مثل تزويدهم بسلاح متقدّم.يؤكّد معظم أعضاء المعارضة السياسية أنهم لن يقبلوا بما هو أقل من خروج الأسد من الحكم، لكن روسيا تعتبر مؤتمر جنيف فرصة لا للتفاوض بنية حسنة، إنما لتعطي الأسد زخماً إضافيّاً، علماً أن الأسد يُعتبر اليوم قويّاً جدّاً في ساحة القتال وخارجها. يعتقد رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني أن النظام سيتمكن من إعادة بسط سيطرته على كامل النصف الجنوبي من سورية بحلول نهاية السنة، وفي هذه الأثناء، يزداد اقتناع المجتمع الدولي برواية النظام عن ثورة تسيطر عليها عناصر متطرفة (قلما نرى مَن يميّز بين المقاتلين السلفيين والمقاتلين السلفيين المجاهدين). حتى إن بعض الأصوات الأميركية البارزة، مثل السفير الأميركي السابق إلى العراق كريستوفر هيل، أوشك أن يشبّه الثوار أخلاقيّاً بالنظام. ومن الغريب في مرحلة مماثلة أن نأمل تحقيق "إنجاز" دبلوماسي، في حين أن الثوار باتوا اليوم الأضعف والنظام الأقوى.واجهنا منذ البداية خللاً كبيراً في تسلسل الأحداث، كان الخطأ الأكبر في السياسة الأميركية استبعاد التدخل العسكري عن الطاولة والتركيز بدلاً من ذلك على "تسوية سياسية"، كما لو أن أحدهما يلغي الآخر، ولكن كان يجب أن تتقدم الدبلوماسية والتدخل بشكل متوازٍ. فكان من الممكن الاستعانة بتهديد حقيقي باللجوء إلى العمل العسكري لإرغام النظام، أو بعض عناصره على الأقل، على الجلوس إلى طاولة التفاوض. على سبيل المثال، لم تتخلَّ الحكومة الصربية في البوسنة وكوسوفا عن حملة التطهير الإثني التي تشنها وتقبل بشروط الغرب إلا بعد تدخل حلف شمال الأطلسي عسكريّاً، لا قبله. وفي ليبيا، دفع تدخل حلف شمال الأطلسي نظاماً متعنتاً إلى اليأس مع مشاركة مبعوثي القذافي في محادثات لوقف إطلاق النار وعرض التفاوض مع الثوار.يشكّل استعداد المعارضة للذهاب إلى جنيف أيضاً تأكيداً على الثقة التي ما زالت توليها للولايات المتحدة. مررنا نحن وهم في وضع مماثل من قبل، اختبرنا هذه الحلقة من الأمل الذي تليه الخيبة أو حتى الخيانة، فما زالت المعارضة، رغم كل الأدلة على العكس، تأمل أن تتبدل السياسة الأميركية وتتكيف مع الوضع القائم بعد فشل جولة جديدة من المساعي الدبلوماسية، لأن هذا ما سيحدث بالتأكيد.