إدوارد سعيد

نشر في 12-06-2013
آخر تحديث 12-06-2013 | 00:01
 زاهر الغافري كان سعيد هو الذي يدفع ويرشح بعض الكتاب والأساتذة العرب للتدريس وإلقاء المحاضرات في جامعة كولومبيا. هكذا جاء الناقد كمال أبو ديب أستاذاً زائراً والروائي إلياس خوري محاضراً، بالإضافة إلى أساتذة آخرين.

كان سعيد في ما يخص القضية الفلسطينية والقضايا العربية بشكل عام حاداً، علمياً وموضوعياً، هو الذي وعى هزيمة 1967، فانغمر بكليته، لإعطاء القضية الفلسطينية بعداً عالمياً، فجاءت كتبه المثيرة للجدل حول القضية الفلسطينية، في قلعة الإمبريالية، وكان يسكت خصومه المحافظين، بمنطقٍ جدالي عالي المستوى، وبتفكيك خطاباتهم، للرد عليها بألمعية وذكاء نادرين.

كان إدوارد سعيد ضد الهويات المنغلقة والضيقة، التي تتحول بعض عناصرها بمرور الزمن لإقصاء الآخر. هكذا كتب سيرته "خارج المكان"، وهي سيرة تنم عن قلق وتمرد حقيقيين، منذ صباه، في القدس إلى القاهرة، ثم نيويورك، توزعت حياته، وسيقضي في هذه الأخيرة عمره الأهم، في الحياة وفي الكتابة. إذ تمتاز نيويورك بانفتاحها على العابرين، والمنفيين، ومن هم خارج أمكنتهم. لهذا غاص إدوارد سعيد للبحث والانفتاح على شخصيات منفية مثله، فهو لم يكن يبحث عن حقيقة مطلقة، بل عن الحقيقة بوجوهها المتعددة والمغايرة. هكذا قرأ جوزيف كوراد وإريش ايرباخ الألماني والمؤرخ الأدبي الكبير الذي كان منفياً في تركيا. وسيظل كتابه "تأملات في المنفى" واحداً من أعمق ما كتب في هذا المجال. كتاب فيه سعة أفق وانفتاح وتحليل ذكي عن المنفى والآخر، الذات والهوية، المركز والهامش بمنظور إنساني صادق. إن "مآثر المنفى لا يني يقوضها فقدان شيء ما، خلفه المرء وراءه إلى الأبد"، لكن سعيد يؤمن أيضاً بأن المنفى الحقيقي والذي هو – حالة فقدان – يشكل أسّاً خصباً للثقافة الحديثة، حتى إنه اعتبر أن الثقافة الغربية الحديثة في جزءٍ كبير منها نتاج المنفيين. يستعير سعيد قولة لهيغو تذهب في اتجاه هذه الفكرة: إن من يجد موطنه في كل أرض فقد بلغ القوة، غير أن المرء لا يبلغ الكمال قبل أن يعتبر العالم أرضاً غريبة. هكذا أطل سعيد على العالم الغربي وحقق طفرة فكرية وأخلاقية ووعياً عميقاً داخل الضمير الانساني، مسائلاً ومقوضاً نظرة المركزية الثقافية الغربية إلى الآخر إلى حد أن هددته بعض الجهات العنصرية والمتطرفة في الولايات المتحدة بالقتل كرابطة الدفاع اليهودي.

 

* * *

لقد جاء إدوارد سعيد من خلفية ثقافية ومعرفية متعددة، غربية بالأساس ومن تجربة أكاديمية امتدت عبر هارفرد وبرنستون وجامعة ييل، فكانت إسهاماته في النقد الأدبي والموسيقى في منتهى الثراء. وقد استخدم في عمليه الكبيرين "الاستشراق" والثقافة والإمبريالية عدة معرفية تمتد من منهج النقد الاستعماري وصولاً إلى الأنثروبولوجيا ونظرية المعرفة. وظلت كتبه ودراساته من "تغطية الإسلام" إلى "المسألة الفلسطينية" مختبراً حقيقياً لتعرية الخطاب الغربي وفضح سياسات الهيمنة والقوة  بكل أشكالها.

* * *

من المحزن أن النخبة العربية لم تلتفت إلى أحد الجوانب المهمة في تجربة إدوارد سعيد وهي الموسيقى، فإدوارد إضافة إلى إتقانه العزف على البيانو، كتب مجموعة هامة من الدراسات حول الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا، مستلهماً تقاليد أوروبية شديدة الأصالة،  شأنه في ذلك شأن المفكر النقدي تيودور أدورنو الذي كان سعيد يكن له إعجاباً شديداً.

زارني في سنة من السنوات الصديق الرائع حمد صالح، الذي أجلس الجمال على ركبتيه فوجده مرّاً وفق عبارة رامبو. فذهبنا ثلة من الأصدقاء لحضور أوبرا دون جوان في هارلم، لبيتر سيللر، صاحب القهقهة الموزارتية العجيبة. وكانت الأوبرا تعرض في مكان بعيدٍ نسبياً، خارج منهاتن. في الاستراحة وفي الصالة الرئيسة لمحنا إدوارد سعيد فذهبنا إليه وتجاذبنا أطراف الحديث، ولقد دهش سعيد عندما أخبره صديقي حمد صالح، بدعابة موسيقية، أنه جاء من عمان خصوصاً لحضور هذه الأوبرا.

* * *

ونحن إذ نودع أدوارد سعيد ينبغي علينا أن نقرأه بإمعان، وأن نستفيد من تجربته الخلاقة، وأن نستخلص منها الأبعاد الإنسانية والأخلاقية وحس العدالة ومعنى المثقف الحر.

back to top