عودة إلى حنة آرنت... فيلسوفة العصور

نشر في 04-09-2013 | 00:01
آخر تحديث 04-09-2013 | 00:01
No Image Caption
لوحظ في السنوات القليلة الماضية أن ثمة عودة قوية إلى أفكار الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة آرنت، سواء في أوروبا من خلال فيلم مارغريت فون {تروتّا}، أو في العالم العربي حيث العودة إلى أفكار آرنت التي تتعلق بالشمولية والثورة، حتى في الدراسات عن هذه الفيلسوفة.
بعيداً عن الدخول في عرض فيلم {تورتّا}، فليس هنا محله، وعن قراءة سيرة المفكرة الألمانية الأميركية حنة آرنت فهي تحتاج إلى دراسات خاصة، سواء في يهوديتها أو حبها لهايدغر أو نقدها الشمولية والصهيونية والطغيان، نتأمل في حيثيات حضور آرنت في الثقافة العربية.

آرنت أحد أعلام الفكر النقدي العالمي، لأن تأثير نتاجها الفكري وتميز حضور شخصيتها يجسدا أهم خصائص القرن العشرين. في هذا الإطار، ترجمت مجلة {دراسات} الفلسطينية مقالاً متميزاً للباحث الجامعي ينس هانسن بعنوان {قراءة حنة آرنت في الشرق الأوسط/ ملاحظات أولية في الشمولية والثورة}. كان يمكن لهذا البحث النضر أن يكون كتاباً شاملاً عن هذه المفكرة التي كلما اكتشفناها أكثر أدركنا أنها سبقت الكثيرين في معرفة السياسات التي تحيط بنا، كانت معاناتها وإنسانيتها قادرتين على توليد أفكار جوهرية في الفلسفة والسياسة. يهدف ينس هانسن في دراسته إلى الإجابة عن السؤالين متى، وكيف، استُحضِر كل عمل من أعمال حنّة آرنت في الشرق الأوسط، ولماذا احتفى بها بعض الأوساط الفكرية، بينما تجاهلتها أوساط أُخرى أو طعنت بها؟ ويرى الكاتب أن تجنيد حنّة آرنت في خدمة قضايا هي محلّ نزاع في الغالب، يقول كثيراً عن تطورات فكرية واسعة شهدها الشرق الأوسط في أواسط القرن الماضي.

سبق أن عدّ مؤرخ الثقافة مارتن جاي، في أحد أعمدته الدورية في المجلة الأدبية salmagundi، حنة آرنت بين قلة مختارة من المفكرين الذين كثيراً ما تستحضر هالتهم الثقافية المراوغة لإضفاء شرعية على، أو نزعها عن، مواقف سياسية أو فلسفية في الخطاب الأوروبي العام. وقد سبق أن احتفى صقور الحرب الباردة الظافرين، بآرنت بصفتها المدفع المعتمد الغربي المكرس من أفلاطون إلى الناتو، وبصفتها كتيبة فكرية كبرى في المعركة ضد الشمولية السوفياتية.

 في المقابل، قوّم المفكرون اليساريون الجدد وما بعد الكولونياليين تقويماً عاليا"، ما مارسوه من نقد الليبرالية الجامعة استناداً إلى بحثها عن تشكيلات خفية للحرية السياسية، وضروب شروحاتها المبكرة المناهضة للإمبريالية، وتنظيراتها الثورية العفوية في هنغاريا، وصوغها الفوضوي لصورة المثقف المارق بصفته موقعاً استراتيجياً من مواقع القوة. كذلك كانت آرنت، وألى حد بعيد، ذلك المنبوذ الذي لا تكف المؤسسة الليبرالية الذكورية عن ازدرائه، ويبحث كاتب الدراسة في أثر آرنت في كتابات كثير من المفكرين العرب من حازم صاغية إلى كنعان مكية ووضاح شرارة وفالح عبد الجبار وإدوارد سعيد والطيب صالح. وبينت مقالة هانسن أن استقبال آرنت في الشرق الأوسط كان تبعاً لتقلبات المناخ الخاص بالتيارات السياسية في الشرق الأوسط، فمنذ محاكمة إيخمان في سنة 1961 وترجمة خيري حماد لكتابها {في الثورة} في عام 1964، وهي تستلهم وتدخل أعمالها في الجدالات الفكرية في لحظات الأزمة، فدخلت في كتاب {دولة حزب الله} لوضاح شرارة، ودخلت في كتاب {القسوة والصمت} لكنعان مكية عن النظام الشمولية لصدام حسين، وفي دراسات حول فلسطين ومجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها إسرائيل في لبنان عام 1982.

الفعل السياسي

الحال أنه في العالم العربي، كانت آرنت غائبة في الدراسات الفلسفية العربية ما عدا بعض المقالات لوضاح شرارة أو حازم صاغية أو الترجمات (مثل «أسس الشمولية» و{في العنف» عن دار الساقي «وفي الثورة» عن المنظمة العربية للترجمة. كانت غائبة بالمقارنة مع كثافة الدراسات والترجمات والكتب والملتقيات المخصَّصة لها في القارات الخمس من العالم والتي شغلت الباحثين. وحدث أخيراً أن أصدرت دار الفارابي كتاباً موسوعياً يتضمن كثيراً من الدراسات حول آرنت بعنوان «الفعل السياسي بوصفه ثورة/ دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت» بأشراف علي عبود المحمداوي وتقديم محمد شوقي الزين ومشاركة عشرات الباحثين من مختلف البلدان العربية. واللافت في الكتاب أنه لباحثين جامعيين ويخلو من أي دراسة لأولئك الذين تأثروا بأفكار آرنت في دراستهم وأبحاثهم وحتى أنماط تفكيرهم.

عموماً يأتي كتاب {الفعل السياسي} كمحاولة تلبّي الحاجة وتضطلع بقراءة في أفكار آرنت من زوايا مختلفة وتشمل مباحث متنوّعة لها علاقة بالفاعلية البشرية وسؤال الحرية ومسألة السياسة والفضاء العمومي ومعضلة العنف والاستبداد، بالإضافة إلى مباحث الثقافة والتربية والتاريخ والتراث. في ظل الانتفاضات الحامية الوطيس التي مرّت بها الرقعة الجغرافية العربية ولا تزال تتكبّد هزّاتها الثانوية، ألا تُشكّل أفكار آرنت مادّة دسمة وثريّة في قراءة الشرط الإنساني العربي؟ ألا يمكن لنظرياتها في السياسة والحرية أن تُضيء بعض الزوايا المعتمة من وجودنا وحياتنا؟ يشتغل فكر آرنت كـ{نسق فلسفي} تتعاضد فيه المفاهيم وتتحوّل وتتّخذ مواقع جديدة تبعاً للتفسير الممكن وضعه بشأن تطوّر السياسة أو الثقافة عبر التاريخ. يمكن أن نطرح جُملة من البداهات التي التزمت بها آرنت طيلة مشوارها الفكري والتي تُدبّر الهيكل العام لكتاباتها الفلسفية والسياسية. تكمن هذه البداهات في اعتبار الحرية جوهر السياسة؛ وأنّ هذه الحرية لا تتحقّق سوى في السياسة.

back to top