قاسم سليماني... رجل الظلّ وصاحب القرار يُمسك بالأدوات والمصائر في الشرق الأوسط (2-2)

نشر في 29-09-2013 | 00:01
آخر تحديث 29-09-2013 | 00:01
عندما يظهر قاسم سليماني علنية (يدلي خطاباً في مناسبة لقدامى الحرب أو يلتقي مع خامنئي)، لا يحاول البروز وقلما يرفع صوته. أخبرني مسؤول عراقي بارز سابق: {إنه قصير القامة، إلا أنه يتمتع بحضور مذهل. يكون في الغرفة عشرة أشخاص، وعندما يدخل سليماني، لا يأتي ويجلس معك، بل يجلس وحده بكل هدوء في الجهة المقابلة من الغرفة. لا يتكلّم ولا يعلّق. يكتفي بالجلوس والإصغاء. لذلك يبدأ الجميع التفكير به}. {ذي نيو يوركر} ألقت الضوء على العميل الإيراني الذي يعيد صياغة الشرق الأوسط ويوجِّه حرب بشار الأسد في سورية.
خلال الفوضى التي عمّت، بعد اعتداءات 11 سبتمبر، سافر راين كروكر الذي كان آنذاك مسؤولاً في وزارة الخارجية الأميركية، سرّاً إلى جنيف حيث التقى مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين. أخبرني كروكر: {كنت أسافر يوم الجمعة وأعود يوم الأحد كي لا يعرف أحد أين أذهب. كنا نبقى مستيقظين طوال الليل خلال تلك الاجتماعات}. وقد بدا جليّاً لكروكر أن الإيرانيين تابعون لسليماني الذي كانوا يشيرون إليه باسم {حجي قاسم}، وأنهم متحمسون لمساعدة الولايات المتحدة في تدمير عدوهم المشترك، حركة طالبان. صحيح أن الولايات المتحدة وإيران قطعتا العلاقات الدبلوماسية بينهما عام 1980، بعد أخذ الدبلوماسيين الأميركيين رهائن في طهران، إلا أن كروكر لم يفاجأ بمدى مرونة سليماني. يقول: {لا يمكنك أن تنجو من ثماني سنوات من الحرب لو لم تكن عمليّاً}. كان سليماني أحياناً يمرر رسائل إلى كروكر، إلا أنه حرص على ألا يبعث إليه بأي رسائل مكتوبة. يوضح كروكر: {حجي قاسم أذكى من أن يقع في خطأ مماثل. فما كان ليترك أي أثر مكتوب للأميركيين}.

قبل بدء القصف في أفغانستان، شعر كروكر أن الإيرانيين سئموا إدارة بوش، معتبرين أنها تماطل في ضرب طالبان. ففي نهاية أحد الاجتماعات في مطلع أكتوبر 2001، وقف كبير المفاوضين الإيرانيين وضرب الطاولة برزمة ورق، وصاح: {إذا لم تتوقفوا عن بناء كل تلك الحكومات الخيالية في السماء وتبدأوا بإطلاق النار على الأرض، فلن يحدث أي أمر من هذا كله. عندما تصبحون مستعدين للتحاور بشأن القتال الجدي، تعرفون أين تجدوني}. وخرج من الغرفة. يذكر كروكر: {كانت لحظة مميزة}.

خارطة طالبان

دام التعاون بين البلدين خلال المرحلة الأولى من الحرب. أعطى كبير المفاوضين كروكر ذات مرة خارطة تفصّل موقع قوات طالبان. وقال: {إليكم نصيحتنا: اضربوهم هناك أولاً ومن ثم هنا. هكذا يجب أن تسير الحرب}. فاعترت الصدمة كروكر وسأل: {هل يمكنني أن أدوّن ملاحظات؟} فأجابه المفاوض: {يمكنك الاحتفاظ بالخارطة}، وكان تدفق المعلومات متبادلاً. ففي إحدى المرات، أعطى كروكر، حسبما يقول، نظراؤه موقع عميل تنظيم القاعدة في مدينة مشهد، فاعتقله الإيرانيون وسلموه إلى قادة أفغانستان الجدد، الذين سلموه بدورهم إلى الولايات المتحدة، حسبما يعتقد كروكر. أخبر المفاوض كروكر: {حجي قاسم مسرور جدّاً من تعاوننا}.

لكن النوايا الطيبة لم تدم. في يناير 2002، يخبر كروكر الذي كان آنذاك نائب رئيس البعثة الدبلوماسية في السفارة الأميركية في كابول، أن مساعديه أيقظوه من نومه ذات ليلة وأخبروه أن الرئيس جورج بوش الابن اعتبر، في خطاب {حالة الاتحاد} إيران جزءاً من {محور الشر}. وعلى غرار دبلوماسيين بارزين كثر، أُخذ كروكر على حين غرة. التقى بالمفاوض الإيراني في اليوم التالي في مجمع تابع للأمم المتحدة في كابول، وكان يغلي من شدة الغضب. يتذكر كروكر أن المفاوض قال: {أسأت إلي إساءة كبيرة. سليماني غاضب جدّاً. يشعر أنه أُهين}. وتابع المفاوض مخبراً كروكر أن سليماني كان يفكر في إجراء إعادة تقييم كاملة للولايات المتحدة، رغم ما يشمله ذلك من مخاطر. ثم أضاف: {ربما حان الوقت لنعيد النظر في علاقتنا مع الأميركيين}. وهكذا أنهى خطاب محور الشر هذه الاجتماعات. نتيجة لذلك، اضطر المصلحون داخل الحكومة، الذين طالبوا باستئناف العلاقات مع الولايات المتحدة، إلى اتخاذ موقف دفاعي. يتذكر كروكر تلك الفترة وهو يهز رأسه، ثم يقول: {كنا قريبين جدّاً. لكن كلمة واحدة في خطاب واحد بدّلت التاريخ}.

حرب العراق

قبل أن تنقطع هذه الاجتماعات، تحدث كروكر إلى كبير المفاوضين عن احتمال شن حرب على العراق. قال كروكر: {اسمع! لا أعلم ما قد يحدث، إلا أن العراق من ضمن مسؤولياتي. ويمكنني قراءة الإشارات جيداً. أظن أننا سنهاجم العراق}. فرأى المفاوض في هذا فرصة كبيرة. يكره الإيرانيون صدام وظن كروكر أنهم سيكونون مستعدين للتعاون مع الولايات المتحدة}. أخبرني كروكر: {لست من مؤيدي هذا الغزو. لكنني فكرت: ما دمنا سننفذه في مطلق الأحوال، فلنجتهد لتحويل العدو إلى صديق، تكتيكيّاً على الأقل، ولنرَ أين يمكننا الوصول بعد ذلك}. فأكد له المفاوض أن الإيرانيين مستعدون للتحاور، وأن العراق، على غرار أفغانستان، يشكّل جزءاً من مسؤوليات سليماني: {يتحكم رجل واحد في الشأنين}.

بعد بدء الغزو في مارس 2003، سارع المسؤولون الإيرانيون إلى إبلاغ الأميركيين أنهم يريدون السلام. فقد راقب كثيرون منهم النظام يسقط في أفغانستان والعراق وظنوا أن النظام الإيراني هو التالي. أخبرني ماغواير، ضابط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق في بغداد: {تملكهم الخوف، حتى إنهم أرسلوا موفدين عبر الحدود إلى عناصر نخبتنا، قائلين: لا نريد أي مشاكل معكم. كنا أكثر تفوقاً بأشواط}. وفي تلك السنة عينها، أدرك المسؤولون الأميركيون أن إيران عدّلت خططها لتتابع تطوير سلاحها النووي بشكل سري ووتيرة أبطأ، مخافة أن تستفز الغرب وتتعرض لهجوم بدورها.

بعد انهيار نظام صدام، أُرسل كروكر إلى بغداد ليؤلف حكومة ناشئة دُعيت المجلس الحاكم في العراق. فلاحظ أن كثيراً من السياسيين العراقيين يسافرون إلى طهران للحصول على المشورة والتوجيه، فاستغل الفرصة للتفاوض بطريقة غير مباشرة مع سليماني. وخلال فصل الصيف، مرر له كروكر أسماء المرشحين الشيعة المحتملين، وعملا على تقييم كل منهم. صحيح أن كروكر لم يمنحه حق رفض أي منهم، إلا أنه تخلى عن المرشحين الذين عارضهم سليماني بشدة. يذكر: {يُعتبر تشكيل المجلس الحاكم في جوهره عملية تفاوض بين طهران وواشنطن}.

شكّل هذا التبادل ذروة التعاون الإيراني-الأميركي. يوضح كروكر: {بعدما شكّلنا المجلس الحاكم، انهارت العلاقة بيننا}. فمع إخفاق الاحتلال الأميركي، أطلق سليماني حملة تخريب عنيفة. يعتقد أميركيون كثر قابلتهم أن تبدّل الإستراتيجية الإيرانية جاء نتيجة سعي إيران إلى استغلال الفرص المتاحة. فقد ازداد الإيرانيون عدائية عندما بدأ الخوف من غزو أميركي يتراجع.

أرسل سليماني طوال سنوات عملاءه إلى العراق لبناء ميليشيات شيعية. هكذا، عندما سقط صدام، كانت قوته المحاربة جاهزة على الأرض: فيلق بدر، الجناح العسكري للحزب السياسي الشيعي الذي يُدعى المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. واللافت أن قادة الحزب دعموا الثورة الإيرانية إلى حد أن رجال ميليشيا بدر قاتلوا إلى جانب القوات الإيرانية في الحرب الإيرانية-العراقية.

في السنوات التي تلت الغزو، صب الجنرال ماكريستال اهتمامه على إنزال هزيمة بالمتمردين السنّة. وعلى غرار قادة أميركيين آخرين في العراق، امتنع، إلى حد كبير، عن ملاحقة عملاء فيلق القدس. فلن يحقق استفزاز إيران أي هدف غير مفاقمة الصراع. وفي مطلق الأحوال، كان عملاء كثيرون يتمتعون بحماية وتغطية دبلوماسية، ولكن مع تواصل الحرب، نما خطر الميليشيات المدعومة من إيران، ما أرغم الجنرال ماكريستال في أواخر 2006 على تشكيل فرقة خاصة مهمتها اعتقال المتمردين المدعومين من إيران أو قتلهم فضلاً عن ناشطي فيلق القدس.

محسن شيرازي

في ديسمبر من تلك السنة، أغارت القوات الأميركية على مجمع عبد العزيز الحكيم، سياسي شيعي واسع النفوذ، حيث عثروا على الجنرال محسن شيرازي، قائد العمليات في فيلق القدس. يروي كتابThe Endgame لمايكل غوردون وبرنارد تراينور أن القوات الأميركية اعتقلت شيرازي، ما أثار بلبلة في بغداد. أخبرني مسؤول عسكري كبير سابق: {صُعق الجميع. صُدم الإيرانيون. فقد انتهكنا قانوناً غير مكتوب}. طلب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من الأميركيين تسليم شيرازي، وعندما فعلوا ذلك بتردد، أطلق المالكي سراحه. بعد هذه الحادثة، قال السفير الأميركي للمالكي إنهم سيحتفظون بأي ناشط إيراني يلقون القبض عليه في المرة التالية.

بعد شهر، تلقى ماكريستال تقارير عن أن محمد جعفري، قائد حرس الثورة في إيران، يتنقل على الأرجح في موكب نحو الحدود العراقية، وأفادت المصادر الاستخباراتية أن سليماني كان برفقته. انتظرتهم مجموعة من المقاتلين الأكراد لترحب بهم ومن ثم عبروا الحدود. قرر ماكريستال السماح للإيرانيين باجتياز الحدود. يذكر: {لم نرد أن نخوض معركة مع الأكراد}.

تتبع رجال ماكريستال الموكب فيما راح يتوغل في الأراضي العراقية، قاصداً مدينة أربيل الكردية. فتوقف عند مبنى عادي يحمل لافتة صغيرة كُتبت عليها كلمة {قنصلية}. ما كان أحد يعلم بوجود قنصلية مماثلة، إلا أنها عنت أن الرجال داخلها يعملون تحت غطاء دبلوماسي، فاقتحم الأميركيون المبنى واعتقلوا خمسة إيرانيين، كانوا يحملون جوازات سفر دبلوماسية وينتمون، وفق ماكريستال، إلى فيلق القدس. لم يعثر الأميركيون في الموكب على سليماني أو جعفري. يبدو أنهما انفصلا عنه في اللحظة الأخيرة واختبآ في ملجأ يحميه الزعيم الكردي مسعود بارزاني. أخبرني رئيس الموساد السابق داغان، مشيراً إلى تلك المداهمة: {كان الحظ حليف سليماني. ومن الأهمية بمكان أن يكون الإنسان محظوظاً}.

بعد تسعة أيام، توقفت خمس سيارات سوداء ذات دفع رباعي أمام بوابات مركز محافظة كربلاء في جنوب العراق. كان الرجال في داخلها يرتدون بزات أميركية ويتكلمون الإنكليزية، وأظهروا بطاقات تعريف، لذلك سُمح لهم بعبور البوابات. في المجمّع، خرجوا من سياراتهم وركضوا مباشرة إلى مبنى يعمل فيه جنود أميركيون، فقتلوا أحدهم وأسروا أربعة، متجاهلين البقية. وفي غضون ساعات، عُثر على الجنود الأربعة مقتولين بعيار ناري في الرأس أُطلق من على مسافة قريبة.

نفذت هذه العملية عصائب أهل الحق، إحدى العصابات المدعومة من إيران. ويعتقد المسؤولون الأميركيون أن سليماني أمر بها ردّاً على اعتقال ناشطي فيلق القدس في أربيل. وفي غضون شهرين، قتل الأميركيون القائد المزعوم لهذا الهجوم واعتقلوا عدداً من المشاركين فيه، من بينهم علي موسى دقدوق، قائد في حزب الله تدرّب في إيران. ادّعى دقدوق في البداية أنه عاجز عن الكلام، فلقبه الأميركيون بحميد الأخرس. ولكن بعد فترة بدأ يتكلّم وأخبرهم أن العملية نُفّذت بأمر من مسؤولين إيرانيين. وكانت هذه المرة الأولى التي يشير فيها القادة الأميركيون علانية إلى سليماني. أعلن الجنرال كيفن بيرغنر في مؤتمر صحافي: {كان فيلق القدس على علم بخطط اعتداء كربلاء الذي أودى بحياة خمسة من جنود الائتلاف، ودعمها}.

عبور الحدود

مع تصاعد وتيرة الحرب السرية مع إيران، درس المسؤولون الأميركيون احتمال عبور الحدود إلى إيران لمهاجمة معسكرات التدريب وقصف المصانع. يوضح مسؤول أميركي بارز خدم في العراق في تلك الفترة: {أراد بعضنا ضربهم بشدة}. استمرت النقاشات بهذا الشأن حتى مرحلة متقدمة من العام 2011، إلى أن رحل آخر جندي أميركي من العراق. كان الأميركيون يرفضون، في كل مرة، عبور الحدود، معتبرين أن هذه الخطوة ستسهل على الإيرانيين تصعيد القتال.

في تلك الفترة عينها، تبادل سليماني الرسائل مع مسؤولين أميركيين بارزين مستعيناً بوسطاء. فحاول طمأنة الأميركيين حيناً، وسعى إلى الحصول على معلومات منهم حيناً آخر. تلقى الأميركيون إحدى أولى هذه الرسائل في مطلع 2008، حين أعطى الرئيس العراقي جلال طالباني الجنرال ديفيد بترويس، الذي كان تسلّم قبل سنة قيادة القوات الأميركية، هاتفاً خلويّاً عليه رسالة نصية، جاء فيها: {عزيزي الجنرال بترويس، عليك أن تعرف أنني أنا قاسم سليماني أتحكم في سياسة إيران تجاه العراق، لبنان، غزة، وأفغانستان. ولا شك في أن السفير في بغداد ينتمي إلى فيلق القدس. ومن سيحل محله عضو أيضاً في فيلق القدس}. وبعد مقتل الجنود الأميركيين الخمسة في كربلاء، بعث سليماني برسالة إلى السفير الأميركي مفادها: {أقسم على ضريح الخميني أنني لم آمر بإطلاق رصاصة واحدة ضد الولايات المتحدة}. لكن الأميركيين لم يصدقوه بالتأكيد.

في تقرير للبيت الأبيض، كتب بترويس أن سليماني {شرّ حقيقي}، إلا أن هذين الرجلين اضطرا في مراحل عدة إلى التفاوض. تشير البرقيات الدبلوماسية التي سربها موقع ويكيليكس إلى أن بترويس بعث برسائل إلى سليماني من خلال مسؤولين عراقيين سأله فيها إلغاء الهجمات الصاروخية على السفارة والقواعد الأميركية. وفي 2008، شن الأميركيون والجيش العراقي هجوماً على جيش المهدي (ميليشيا مقتدى الصدر الشيعية)، الذي ردّ بقصف المنطقة الخضراء بانتظام. فاستغل سليماني الفرصة السياسية التي أُتيحت أمامه، وأرسل إلى بترويس رسالة يتأسف فيها على الوضع ويؤكد أنه عيّن رجالاً لوقف المعتدين. فردّ بترويس: {ولدتُ يوم أحد، ولكن ليس الأحد الماضي}. في النهاية، أدى سليماني دور الوسيط في التوصل إلى وقف لإطلاق نار بين الصدر والحكومة.

بدا سليماني، أحياناً، مسروراً بالسخرية من نظرائه الأميركيين، وانتشرت قصص استغلاله. خلال حرب الـ 34 يوماً بين إسرائيل وحزب الله في لبنان في صيف 2006، تراجع العنف في بغداد. وعندما انتهى القتال، أخبرني السياسي العراقي أن سليماني بعث، على ما يُفترض، برسالة إلى القائد الأميركي ورد فيها: {آمل أن تكون قد استمتعت بفترة السلام والهدوء في بغداد. كنت منهمكاً بما يدور في بيروت}.

في خطاب ألقاه الخميني عام 1990، ذكر أن مهمة فيلق القدس {إقامة خلايا من حزب الله تتمتع بشعبية كبيرة في مختلف أرجاء العالم}.

صحيح أن الفيلق لم يحقق الهدف، إلا أن حزب الله بات القوة الأوسع نفوذاً في لبنان. تحوّل إلى قوة عسكرية وحزب سياسي كاد يحلّ محلّ الدولة. يعتقد بعض الخبراء المطلعين على شؤون المنطقة أن اعتماد الحزب على إيران تراجع مع توسّع نفوذه، ولكن خلال مأدبة عشاء في بيروت السنة الماضية، اشتكى وليد جنبلاط، سياسي لبناني، من أن قادة حزب الله لا يزالون خاضعين لطهران. قال لي: {عليك أن تجلس وتتحاور معهم، ولكن ماذا تقول؟ لا يعود القرار إليهم، بل إلى خامنئي وقاسم سليماني}.

يلتزم الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، مفهوم ولاية الفقيه الذي يعتبر القائد الأعلى في إيران، السلطة العليا، كذلك أقرّ بوجود ناشطي فيلق القدس في لبنان. وبين 2000 و2006، خصصت إيران مئات ملايين الدولارات سنويّاً لحزب الله. ويشكّل مقاتلو هذا الحزب أعواناً فاعلين: بخلاف الإيرانيين، يجيدون العربية، ما يسهّل عليهم العمل في سورية ودول أخرى من العالم العربي. وبالتعاون مع الإيرانيين، نفذوا أو استعدوا لينفذوا اعتداءات في قبرص، أذربيجان، وتركيا.

لكن حزب الله لا يعمل دوماً بالتنسيق مع إيران. على سبيل المثال، بعدما نفذ أحد عملاء حزب الله هجوماً على حافلة سياح تقلّ إسرائيليين في بلغاريا في يوليو الماضي، علمت السلطات الأميركية أن سليماني سأل المسؤولين تحت قيادته: {هل كان أحدكم على علم بهذه العملية؟}. فجاء الجواب بالنفي. {نفّذ حزب الله هذه العملية بمفرده}، حسبما أخبرني مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية. رغم ذلك، بدا فيلق القدس متورطاً في حوادث أكثر أهمية في تاريخ لبنان الحديث. ففي عام 2006، أمر نصر الله مجموعة من مقاتليه بخطف جنود إسرائيليين، عملية أخبرني المسؤول الأمني في الشرق الأوسط أنها نُفّذت بمساعدة سليماني. أدت هذه العملية إلى حرب وجيزة إنما عنيفة، دمّرت خلالها قوات الدفاع الإسرائيلية مناطق كثيرة من لبنان. أضاف هذا المسؤول: {لا اعتقد أن سليماني توقع ردّة فعل مماثلة}.

نوري المالكي

في 22 ديسمبر 2010، هنّأ جيمس جيفري، السفير الأميركي إلى العراق، والجنرال لويد أوستن، القائد الأميركي الأعلى في ذلك البلد، الشعب العراقي بتشكيل حكومة جديدة بقيادة رئيس الوزراء نوري المالكي. استغرق تشكيل هذه الحكومة نحو تسعة أشهر بعدما وصلت الانتخابات البرلمانية إلى حائط مسدود. اعتُبر تشكيل الحكومة بالغ الأهمية، خصوصاً أن الولايات المتحدة كانت لا تزال تملك نحو مئة ألف جندي في العراق وأن القادة الأميركيين كانوا يأملون بترك قوة صغيرة وراءهم. ذكر جيفري وأوستن: {نتطلع بشوق إلى العمل مع الحكومة الائتلافية الجديدة بهدف تعميق رؤيتنا المشتركة عن دولة عراقية ديمقراطية}.

لكنهما أغفلا عن ذكر أن الصفقة الأساسية التي أدت إلى ولادة الحكومة العراقية لم تكن من صنعهما بل من صنع سليماني. يوضح مسؤولون عراقيون وأميركيون أن سليماني دعا، في الأشهر السابقة، قادة بارزين من الشيعة والأكراد للاجتماع معه في طهران وقم، وأخذ منهم وعداً بدعم المالكي، مرشحه المفضّل. شملت هذه الصفقة مجموعة معقدة من الحوافز. فالأسد والمالكي يكرهان أحدهما الآخر، بيد أن سليماني وحّدهما بعقد اتفاق لبناء خط أنابيب نفط مربح من العراق إلى الحدود السورية. وبغية استمالة السيد مقتدى الصدر، وافق سليماني على تعيين رجاله في وزارات خدماتية عراقية.

لكن اللافت للنظر، وفق المسؤولين العراقيين والغربيين، الشرطان اللذان فرضهما سليماني على العراقيين: الأول أن يصبح جلال طالباني (صديق النظام الإيراني القديم) رئيساً، والثاني أن يصر المالكي وشركاؤه في الائتلاف على رحيل الجنود الأميركيين من البلد. أخبرني القائد العراقي السابق: {قال سليماني: لا للأميركيين. وهكذا ذهبت علاقة عشر سنوات هباء}.

أخبرني المسؤولون العراقيون أن الأميركيين كانوا يدركون، حين أصدر جيفري تهنئته، أن سليماني طردهم من البلد، إلا أنهم خجلوا من الإقرار بذلك علانية. قال لي القائد العراقي السابق، الذي استشاط غضباً حين تذكر ذلك الوضع: {كنا نسخر من الأميركيين. اللعنة! اللعنة! تفوق عليهم سليماني. وفي العلن، كانوا يهنئون أنفسهم على تشكيل الحكومة}.

شكّلت هذه الصفقة ضربة قاسية لإياد علاوي، سياسي علماني موالٍ للولايات المتحدة فاز حزبه بالأكثرية البرلمانية في الانتخابات، إلا أنه أخفق في تشكيل ائتلاف يحظى بتأييد الغالبية. أشار علاوي في مقابلة معه في الأردن إلى أنه كان سيشكل ائتلافاً مماثلاً، لو أنه حظي بدعم أميركي. بدلاً من ذلك، استبعده الأميركيون وأيدوا المالكي. كذلك أخبرني أن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن اتصل به ليخبره أن عليه التنحي جانباً في السباق إلى رئاسة الوزراء، قائلاً: {لا تستطيع تأليف حكومة}.

يظن علاوي، على حد تعبيره، أن الأميركيين ما كانوا مستعدين للتعامل مع المشاكل التي كان سيثيرها الإيرانيون لو أنه أصبح رئيس وزراء. رغبت الولايات المتحدة في البقاء في العراق شرط ألا تُضطر عندئذٍ إلى بذل مجهود يُذكر، وفق علاوي. ويضيف: {احتجت إلى دعم الولايات المتحدة. لكن الأميركيين أرادوا الرحيل وسلموا البلد إلى الإيرانيين. نتيجة لذلك، صار العراق اليوم دولة فاشلة ومستعمرة إيرانية}.

يؤكد مسؤولون سابقون أميركيون وعراقيون أن سليماني يمارس نفوذه في عالم السياسة العراقي بدفعه المال للمسؤولين، وتمويل الصحف والمحطات التلفزيونية، والتهويل عند الضرورة. نتيجة لذلك، يُعتبر قليلون محصنين ضد أساليبه هذه. أخبرني المسؤول العراقي البارز السابق: {لم أرَ بعد حزباً سياسيّاً شيعيّاً واحداً لا يتقاضى المال من قاسم سليماني. يُعتبر سليماني الرجل الأقوى في العراق من دون منازع}.

حتى المالكي نفسه يشعر أحياناً أنه أسير الإيرانيين. بعدما نفاه صدام، عاش المالكي فترة وجيزة في إيران ومن ثم انتقل إلى سورية. ويعلل بعض العراقيين الذي يعرفونه انتقاله هذا برغبته في الهرب من التأثير الإيراني. يذكر كروكر أن المالكي قال له ذات مرة: {لن تعرف معنى التعجرف إلا إذا كنت عراقيّاً عربيّاً اضطر إلى اللجوء إلى إيران}. وأخبرني السياسي العراقي المقرّب من الرجلين أن المالكي يكره سليماني، وأن هذا الشعور متبادل. قال لي: {يؤكد المالكي أن سليماني لا يصغي إليه، ويذكر سليماني أن المالكي يكذب}.

رغم ذلك، يبدو أن المالكي مضطر إلى دفع ثمن باهظ لسليماني مقابل الجهود التي بذلها لتعيينه رئيساً للوزراء. يذكر المسؤول الاستخباراتي البارز السابق أن حكومة المالكي تدير عدداً من الخطط بقيمة مئات ملايين الدولارات سنويّاً، هدفها مساعدة النظام الإيراني في التحايل على العقوبات الاقتصادية الغربية. أخبرني رجل أعمال عراقي بارز أن العملاء المدعومين من إيران يستخدمون بانتظام النظام المصرفي العراقي لإجراء معاملة مالية غير مشروعة تتيح لهم بيع العملة العراقية بأرباح ضخمة. ويتابع: {إن رفض المصرف، تقفله الحكومة}.

أما مصدر الدخل الرئيس الثاني للإيرانيين، فهو النفط. يذكر مسؤولون أن حكومة المالكي تضع جانباً ما يعادل مئتي ألف برميل من النفط يوميّاً (أي نحو عشرين مليون دولار وفق الأسعار الحالية) وترسل هذا المال إلى سليماني. وهكذا حصّن فيلق القدس نفسه ضد الضغوط الاقتصادية للعقوبات الغربية. يوضح المسؤول الاستخباراتي البارز السابق: {هذا برنامج سري يتمتع بتمويل ذاتي. فلا يحتاج سليماني إلى الموازنة الإيرانية ليموّل عملياته}.

في شهر ديسمبر الماضي، حين بدا أن نظام الأسد سيسقط، رصد المسؤولون الأميركيون تقنيين سوريين يعدون قنابل تحمل عاز السارين لتُحمّل في طائرات. كانت كل الدلائل تشير إلى أنهم يخططون لهجوم ضخم بالغازات السامة. فذُعر الأميركيون وسارعوا إلى الاتصال بالقادة في روسيا، الذي اتصلوا بدورهم بنظرائهم في طهران. يذكر المسؤول الأميركي في وزارة الدفاع أن سليماني أدى دوراً بارزاً في إقناع الأسد بالعدول عن استخدام هذه الأسلحة.

لا نعرف موقف سليماني الأخلاقي من الأسلحة الكيماوية. فخلال الحرب الإيرانية-العراقية، عانى آلاف الجنود الإيرانيين نتيجة الهجمات الكيماوية، ولا يزال الناجون يتحدثون اليوم علنية عن مأساتهم. لكن بعض المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن جهوده لمنع الأسد من الإقدام على خطوة مماثلة اتخذت طابعاً عمليّاً: الخوف من استفزاز الولايات المتحدة ودفعها إلى توجيه ضربة عسكرية إلى سورية. يخبر مسؤول عسكري أميركي بارز سابق: {أكد الروس والإيرانيون للأسد أنهم يعجزون عن دعمه أمام الرأي العام العالمي في حال استخدم هذه المواد}.

يُعتقد أن النظام استعمل الأسلحة الكيماوية ما لا يقل عن أربع عشرة مرة منذ السنة الماضية. ولكن حتى بعد الهجوم الكبير بغاز السارين في 21 أغسطس، الذي أودى بحياة ألف وأربعمئة مدني، ظل دعم سليماني للأسد راسخاً. وكي ينقذ الأسد، لجأ إلى كل الأصول التي بناها منذ توليه قيادة فيلق القدس: مقاتلو حزب الله، الميليشيات الشيعية من مختلف أرجاء العالم، وكل المال والمواد اللذين استطاع الاستحصال عليهما من حكومته المحاصرة. في بغداد، اخبرني عراقي شيعي شاب يدعو نفسه {أبو حسن} أن مجموعة من الرجال العراقيين جندته للقتال. فاستقل حافلة إلى مدينة مشهد الإيرانية، حيث تلقى هو ونحو 36 عراقيّاً آخرين تعليمات من مدربين إيرانيين مدة أسبوعين. ومن ثم سافروا إلى مقام السيدة زينب قرب دمشق، حيث أمضوا ثلاثة أشهر في القتال إلى جانب حكومة الأسد مع جنود من حزب الله وقناصة من إيران. يذكر أبو حسن: {خسرنا أناساً كثيرين}.

الذخيرة على دمشق

لعل أبرز إنجازات سليماني إقناع أعوانه في الحكومة العراقية السماح لإيران باستخدام مجالها الجوي لنقل الرجال والذخيرة إلى دمشق. أخبرني الجنرال جيمس ماتيس، الذي كان حتى شهر مارس الماضي قائد القوات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، أن نظام الأسد كان سيسقط منذ أشهر لولا تلك المساعدة. يشرف على هذه الرحلات وزير النقل العراقي هادي العامري، الذي يُعتبر حليفاً قديماً لسليماني. فهو القائد السابق لفيلق بدر وجندي حارب إلى جانب إيران في الحرب الإيرانية-العراقية. ولكن في مقابلة معه في بغداد، أنكر العامري أن الإيرانيين يستخدمون المجال الجوي العراقي لنقل الأسلحة، إلا أنه عبّر عن مدى ولائه لقائده السابق. فقال، ضارباً الطاولة بيده: {أحب قاسم سليماني. فهو صديقي العزيز}.

قاوم المالكي حتى اليوم الضغوط التي يتعرض لها ليمد الأسد بما يحتاج إليه برّاً عبر العراق. بيد أنه لم يوقف الرحلات الجوية. فقد طغى احتمال تشكّل نظام سني متشدد في سورية على تحفظاته بشأن التورط في حرب أهلية. أخبرني كروكر: {لا يحب المالكي الإيرانيين، ويكره الأسد. إلا أنه يمقت جبهة النصرة. ولا يريد أن تسيطر حكومة تابعة لتنظيم القاعدة على الحكم في دمشق».

قد يكون هذا الجو المشحون طائفيّاً تأثير سليماني الأبرز والأكثر ديمومة في الشرق الأوسط. فكي ينقذ إمبراطوريته الإيرانية في سورية ولبنان، ساهم في تأجيج صراع سني شيعي يهدد بابتلاع المنطقة بأسرها طوال سنوات. ويبدو سعيداً بشن هذه الحرب. قال لي ماتيس: «يملك أسباباً كثيرة تدفعه إلى الاعتقاد بأن إيران قوة ناشئة في المنطقة. فلم نوجه إليه يوماً ضربة قاسية».

في شهر يونيو الماضي، انتخبت إيران رئيساً جديداً معتدلاً وعد بإنهاء العقوبات التي أنهكت البلد وقوّضت طبقته الوسطى، فنما الأمل في الغرب بأن يسمح خامنئي لروحاني بعقد صفقة. صحيح أن روحاني يُعتبر معتدلاً وفق المعايير الإيرانية فحسب (فهو رجل دين شيعي ومن المؤيدين القدامى للثورة)، إلا أن إدارته الجديدة أقدمت على خطوات إيجابية، بما فيها إطلاق سراح السجناء السياسيين الأحد عشر وتبادل الرسائل مع الرئيس أوباما. وقد سافر روحاني أخيراً إلى نيويورك للتحدث في الأمم المتحدة وربما يلتقي أوباما. ولا شك في أن المحادثات ستتمحور حول احتمال أن تحدّ إيران من برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات.

يأمل كثيرون في الغرب أن تساهم إيران أيضاً في وضع حد للحرب الضروس في سورية. فقد طرح نائب رئيس الوزراء السوري أخيراً احتمال التوصل إلى وقف لإطلاق النار، قائلاً: «لا داعي لأن يقلق أحد بشأن استمرار النظام بشكله الحالي». إلا أنه لم يذكر أن الأسد سيتنحى، خطوة اعتبرها الثوار شرطاً أساسيّاً للقبول بالتفاوض.

لاحظنا بعض التلميحات من بعض الإيرانيين النافذين عن أن التمسك بالأسد لا يستحق العناء. ففي خطاب أخير ألقاه الرئيس الإيراني السابق هاشمي رافسنجاني، قال: «تحوّل الشعب إلى هدف الاعتداءات الكيماوية التي تنفذها حكومته الخاصة» (بعد أن تسبب تسجيل مسرّب للخطاب بلبلة في إيران، أنكر رافسنجاني تفوهه بتعليقات مماثلة). لكن تشكيل نظام أقل تعاطفاً وتعاوناً في سورية سيقسم محور الممانعة، ويزيد شراكة إيران مع حزب الله تعقيداً وصعوبة.

في مطلق الأحوال، قد يكون النظام الإيراني أكثر انقساماً من أن يتوصل إلى قرار بالإجماع. أخبرني كيفان هاريس، عالم اجتماع في جامعة برنستون درس الشأن الإيراني بعمق: «كلما تسمع تصريحاً صادراً عن الحكومة، تذكّر أن عدداً كبير من الناس يتقاتلون في الكواليس».

فيما يحاول روحاني التقرب من الغرب، سيصطدم بالمتشددين، بمن فيهم سليماني ورفاقه، الذين حددوا طوال أكثر من عقد سياستهم الخارجية التي اعتبروها قائمة على حرب سرية يخوضونها ضد الولايات المتحدة وإسرائيل. يوضح هاريس: «لا يثقون بالطرف الآخر. ويعتقدون أن الغرب سيرى أي تنازل يقدمونه علامة ضعف».

يعتبر سليماني التخلي عن الأسد إنهاء مشروع التوسع الذي شغله طوال خمس عشرة سنة.

تحدث سليماني في خطاب ألقاه أخيراً أمام مجلس خبراء القيادة (مجموعة من رجال الدين يختارهم القائد الأعلى) عن سورية بكلمات قوية داعمة. قال: «لا نولي دعاية العدو اهتماماً لأن سورية تشكّل جبهة المقاومة. ولا يمكننا إنكار هذا الواقع. من واجبنا الدفاع عن المسلمين لأنهم يتعرضون للضغوط والاضطهاد». يخوض سليماني الحرب ذاتها ضد العدو نفسه الذي كان يحاربه طوال حياته. فهو يظن، على ما يبدو، أن تسويات الحكم لا تُقارن بجنة ساحة القتال. فقد أعلن: «سندعم سورية حتى النهاية».

فوق الانقسام السني - الشيعي

تخطت حملة سليماني ضد الولايات المتحدة الانقسام السني-الشيعي، الذي بدا مستعدّاً لتناسيه بغية تحقيق هدف أكبر. أخبرني مسؤولون عراقيون وغربيون أن سليماني شجّع، في مطلع الحرب على العراق، رئيس استخبارات نظام الأسد على تسهيل حركة المتطرفين السنة في سورية بهدف محاربة الأميركيين. حتى تنظيم القاعدة حظي في حالات كثيرة بحرية أكبر في إيران أيضاً. أخبرني كروكر أن الأميركيين تلقوا في مايو 2003 معلومات عن أن مقاتلي القاعدة في إيران يحضّرون هجوماً على أهداف غربية في المملكة العربية السعودية، فأثارت المعلومات مخاوف كروكر. يذكر: «كانوا هناك تحت الحماية الإيرانية يخططون لعمليات»، فسافر إلى جنيف، حيث مرر تحذيراً إلى الإيرانيين، لكن جهوده هذه ذهبت سدى. فقد فجر المقاتلون ثلاثة مجمعات سكانية في الرياض، ذهب ضحيتها 35 شخصاً، بينهم تسعة أميركيين.

ولكن تبيّن لاحقاً أن إستراتيجية مساعدة السنة الإيرانية أدت إلى نتائج عكسية مريعة: بعيد بدء الاحتلال، أخذ المتطرفون السنة أنفسهم يهاجمون المدنيين الشيعة والحكومة العراقية ذات الغالبية الشيعية. وشكّل ذلك لمحة عن الحرب الأهلية المقبلة. قال لي دبلوماسي غربي في بغداد: «أهلاً بك في الشرق الأوسط. أراد سليماني استهداف الأميركيين، فدعا المجاهدين، إلا أن الأوضاع ما لبثت أن خرجت عن سيطرته».

رغم ذلك، لم تكن السياسة الإيرانية تجاه الأميركيين في العراق معادية بالكامل. فكان البلدان يحاولان دعم الأكثرية الشيعية في العراق. لذلك سعى سليماني إلى التفاوض مع الأميركيين حيناً وقتلهم أحياناً. فخلال مراحل الحرب كافة، استدعى القادة العراقيين إلى طهران لعقد صفقات هدفت عادةً إلى تمكين الشيعة. حتى إنه سافر مرة على الأقل إلى قلب معقل الأميركيين في بغداد. أخبرني سياسي عراقي: «قدم سليماني إلى المنطقة الخضراء للاجتماع بالعراقيين. أعتقد أن الأميركيين أرادوا اعتقاله. لكنهم أدركوا أنهم لا يستطيعون ذلك».

فيما سعى الطرفان إلى التفوق، أدى تبدّل التحالفات إلى صدامات مزعجة وأحياناً غريبة. فقد اجتمع قائدا الحزبين الكرديين الرئيسين مسعود بارزاني وجلال طالباني بانتظام مع سليماني والأميركيين على حد سواء. صحيح أن علاقة الأكراد بالولايات المتحدة كانت جيدة عموماً، إلا أن روابطهم مع القادة الإيرانيين، أمثال سليماني، كانت أعمق وأكثر تعقيداً. فقد آوى النظام الإيراني أكراد العراق خلال حربهم مع صدام، إلا أن العلاقة بينهما لم تكن يوماً بين ندّين. يوضح القادة الأكراد أن هدف سليماني كان دوماً إبقاء الأحزاب السياسية في العراق منقسمة وغير مستقرة، ما يضمن بقاء هذا البلد ضعيفاً، فالحرب العراقية-الإيرانية ما زالت حية في ذهنه. قال لي مسؤول كردي بارز: «يصعب علينا معارضة سليماني، لأنه يسبب لنا مشاكل، من التفجيرات إلى إطلاق النار. الإيرانيون جيراننا. لطالما كانوا كذلك وسيظلون. لذا علينا التعامل معهم».

يتذكر مسؤول استخباراتي بارز في بغداد زيارته طالباني في منزله خلال رحلة قام بها إلى شمال العراق. عندما دخل المنزل، رأى قاسم سليماني جالساً أمامه، مرتدياً قميصاً وسترة أسودين. راح الرجلان يتأملان أحدهما الآخر. يروي المسؤول: «أدرك مَن أكون وعرفت مَن يكون. تصافحنا من دون أن ننبس ببنت شفة. لم يسبق لي أن رأيت طالباني يعامل أحداً بهذا القدر من الاحترام. بدا مرتاعاً».

جيش المهدي

صبّ فيلق بدر كل اهتمامه على الانتقام من أعضاء حزب البعث، والحدّ من النيران التي وجهها ضد الأميركيين. إلا أن ميليشيا أخرى تحظى بدعم إيراني، {جيش المهدي} بقيادة الزعيم الشعبي ورجل الدين مقتدى الصدر، بدأت تتصدى للأميركيين منذ المراحل الأولى للاحتلال. فبعدما شن الأميركيون على العراق هجوماً مضاداً دمويّاً في أغسطس 2004، سِرتُ في مقبرة غير متقنة في مدينة النجف جنوب بغداد، فلاحظت عشرات القبور الضحلة وقد وُضع على كل منها مرطبان زجاجي صغير فيه قطعة ورق تحمل اسم المقاتل الذي سقط وعنوانه. وقد كُتب على كثير منها طهران.

اعتبر سليماني أن الصدر كثير التقلب، وأن التحكّم  به صعب. لذلك بدأ فيلق القدس بتنظيم ميليشيات أخرى مستعدة لمهاجمة الأميركيين. فدرّب عملاؤه المقاتلين في إيران، وأحياناً بمساعدة رفاقهم من حزب الله. فبدا في تلك المرحلة أن سيطرة سليماني على بعض الميليشيات العراقية كاملة، حتى إن مسؤولاً عراقيّاً بارزاً ألقى علانية، خلال رحلة قام بها إلى واشنطن، مسؤولية تفاقم وتيرة العنف في العراق على القائد الأعلى الإيراني. ولكن بعيد عودته إلى بغداد، أخبرني أنه تلقى رسائل من قائدين اثنين من الميليشيات الشيعية العراقية، وطرحا كلاهما السؤال ذاته: هل تريد أن تموت؟

في عام 2004، أغرق فيلق القدس العراق بعبوات ناسفة توضع على جوانب الطرقات أشار إليها الأميركيون باسم «عبوات خارقة»، لأنها تُطلق كتلاً من النحاس الذائب القادر على اختراق الآليات المدرعة. فنشرت العبوات الهلاك بين فرق الجيش الأميركي، مسببةً بنحو %20 من الوفيات أثناء القتال. يحتاج صنع العبوات الخارقة إلى تقنيين مهرة وتطلقها غالباً أجهزة استشعار معقدة. أخبرني الجنرال ستانلي ماكريستال، الذي كان سابقاً قائد العمليات الخاصة المشتركة: «لم يساورنا الشك مطلقاً حيال مصدر العبوات. علمنا أن مصانعها كانت في إيران. وأودت العبوات الخارقة بحياة مئات الأميركيين».

back to top