ظاهرة خطف الرؤساء
الرئيس هو كل من أوتي أو أوكل إليه أمر من أمور الناس، ومُنح- في سبيل ذلك- القوة والقدرة والسلطة والتأثير والقيادة لتحقيق مصالح الرعية. ووصف سيدنا عثمان، رضي الله عنه، قوة تأثير الرئاسة في عباد الله قائلاً: "إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن".فالرئيس هو المسؤول أمام الله والرعية عن أحوالهم وأرزاقهم وتيسير أعمالهم وشؤونهم وقيادتهم وتقويم أخلاقهم وتعليمهم ورعايتهم وتوحيد كلمتهم وقلوبهم والسهر على مصالحهم ونشر الأمن والعدل بينهم والذود عنهم والأخذ بيد ضعيفهم حتى يقوى، والقصاص من قويهم وشريفهم حتى يعدل ويعتدل، فالرئيس هو المقصود بالحكمة القائلة "رُب همة أحيت أمة"، فإذا صلح الرئيس صلحت الرعية.ومن هنا كان الرئيس مستهدفاً ومرصوداً ومحسوداً في كل زمان ومكان، وكانت الرئاسة- في عصور قليلة وأزمان بعيدة- أمانة وفي الآخرة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وَأَدَّى الذي عليه فيها، وكان يتولاها أناسٌ أشبه بالملائكة لم يطلبوها ولم يسعوا إليها، وهم أهل لها وكانوا يدعون الله أن يرزقهم خفض الجناح للمؤمنين وذكر الموت في كل حين وأن يثبت قلوبهم على البر والتقوى واليقين ولا يدعهم في غمرة ولا يأخذهم على غرة ولا يجعلهم من الغافلين، كانوا يذكرون أنفسهم بأن أولهم نطفة مذرة وآخرهم جيفة قذرة لا يرزقون أنفسهم ولا يدفعون حتفهم ولا حيلة لهم في قدرهم، ومنهم أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز كان يذكِّر نفسه قائلاً: "أنا ميت ابن ميت، ونحن فرع لأصل مات، فكيف لا يموت الفرع الذى مات أصله، وإن غداً لآتٍ بما هو فيه، وأين يهرب وهو يمشي بين يدي خالقه، فلا أقوى من الطالب ولا أضعف من المطلوب"، وحين سأله والي خراسان في الموافقة على بناء سور حول خراسان لتحصينها فأجاب: "حصنها بالعدل، وطهر سبلها من الظلم، فذلك أعدل لها وأبقى". وكانوا يناشدون رعيتهم أن يذكروهم بالحق والنصيحة قائلين: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، كان الرئيس حصيف العقل، حكيم القوة، لا يطَّلع الناس منه على عورةٍ، ولا يحث في الحق على حرة، ولا يخاف في الله لومة لائم، وكانت لهؤلاء الرؤساء رعية مؤونتها التقوى وزادها القناعة فإذا سألت أحدهم هل أفدت مالاً عظيماً؟ أجاب: وهل ملكت أياماً أنفقه فيها!كانوا رعية تؤمن بأن زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران، ويقول لسان حالهم لا تحسبن سروراً دائماً أبداً، فمن سره زمن ساءته أزمان، كانوا رجالاً إذا دعوا للجهاد لا يختبئون في الزوايا وكانوا في الميدان رجالاً لا يخشون المنايا ويحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبهم الرؤساء لأنه إذا لم يكن الرئيس يراهم فإن الله يراهم، كانوا في البر سباقين وعلى الوحدة والحق والخير والعدل والمعروف مجتمعين، من أصبح منهم مُعَافى في جسده، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا.لقد أنصفت الرعية فاستراح الرئيس والقاضي والناس أجمعين، كانت خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعتصمون بحبل الله المتين جميعاً وينصحون من يتولى أمرهم بخير النصح ويتقون الله فيه حتى لو كان رئيسهم عبداً حَبَشِيّاً مُجَدَّعاً (مقطوع الأنف)، وجاءت على البشرية عصور طويلة كان فيها منصب الرئيس شرفاً وقوة وسلطة وسلطاناً ونفوذاً وسعة وثراء ورغداً وقليلاً من المسؤولية فهي عصور يختلط فيها الحابل بالنابل ولا تدرى أيهم ظالم وأيهم المظلوم، الراعي أم الرعية؟ الرئيس أم المرؤوسين؟ يتقاتلون جميعاً ودائماً، إما طلباً للحرية أو للقوت أو طمعاً أو فساداً أو اجتراءً على رئيس ضعيف لإجباره على الخضوع لهم، أو الجلوس على مقعده أو لنيل رضاه، وفي هذه الأجواء تظهر فئات أخرى عديدة تسعى لخطف الرئيس تقدم له يد العون والدعم والمساندة والتأييد حتى يأمن إليهم ويختلسون ثقته ورضاه حتى لا يحب مجالسة غيرهم ولا يسمع حديثاً إلا حديثهم، ثم يحجبونه عن الرعية ويصبحون هم عينه التي يرى بهما وأذنه التي يسمع بها، فلا يسمع منهم إلا ما يعلمون أنه يُرضيه، يلوون الحقيقة له، فالشعب كله يحبه ومن يعارضونه أو ينصحونه هم أعداء الوطن، يزينون له سوء عمله بأنه أعظم الإنجازات ويوغرون صدره بالصدق أحياناً وبالكذب في أغلب الأحيان ويغرقونه في توافه الأمور، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم طمعاً في رضائه ودرءاً لسخطه، فيأبى قلب الرئيس أن يسع غيرهم فيحجبون عنه الحقيقة ويعمون عينيه وبصيرته بالنفاق والرياء والمداهنة والتملق حتى إنهم أقنعوا فرعون مصر أنه إله العالمين، وطلبوا من رعيته أن تسجد له إلى أن أصبح فرعون آية وعظة إلى يوم القيامة يذكرنا ببطانة وحاشية السوء الذين لا يبتغون إلا أن تؤول لهم المشورة ثم يليها القرار ويصبحون سيفاً على رقاب العباد يسخرونهم لمنافعهم ويتاجرون بالوطن وبالرئيس ويجلبون البلاء لكل الرعية، ويصدق فيهم قوله تعالى "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون" (المنافقون- الآية 4) عافانا الله وإياكم من بطانة وحاشية السوء وحفظ أوطاننا ورؤساءنا من شرورهم.