بين الإسلام العربي والإسلام الآسيوي!

نشر في 13-03-2013
آخر تحديث 13-03-2013 | 00:01
 د. شاكر النابلسي -1-

عندما جاء الإسلام إلى العرب، قبل خمسة عشر قرناً، كان العرب في أشد الحاجة إليه، ولولا خوفهم من أن الدين الجديد سيهدد أمنهم، ويقضي على تجارتهم، والسياحة الدينية التي كانت تجلبها لهم الأصنام، ويثوّر عليهم العبيد والأُجراء والمستخدمين والمعذبين في الأرض، وهو ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: "وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا" (القصص: 58). لدخلوا في دين الله أفواجاً منذ اللحظة الأولى لظهور الإسلام، ولما بقي الرسول يدعوهم في مكة المكرمة طيلة ثلاث عشرة سنة، دون أن يستطيع إدخال أكثر من 150 مسلماً  في الإسلام. خصوصاً أن قبيلة قريش كانت هي المستفيدة من الإسلام، كما لم تستفد أي طائفة أخرى في التاريخ من أيديولوجية أرضية أو سماوية. وهي التي عبّأت خزائنها بفضل الغزوات بمال وفير لا حصر له، وامتلأت بيوتها، وشوارعها، ومدنها، وتجارتها بالعبيد، والجواري، والقيان، والسبايا، الذين بلغ عددهم أضعاف أضعاف ما كان عليه قبل الإسلام. وحكمت قريش إمبراطورية بعد ذلك، تمتد من الشرق إلى الغرب طوال ستة قرون متوالية (632- 1258م) ومن أبي بكر الصديق، إلى آخر الخلفاء العباسيين (المستعصم بالله).

-2-

ولكن قريشاً والعرب من ورائها، استفادوا من الإسلام حضارياً وثقافياً رغم هذه المظاهر المادية الصرفة التي استفادت منها قريش، واستفاد منها بقية العرب من بعدهم على وجه الخصوص، حيث لم يحكم الإمبراطورية الإسلامية طوال ستة قرون غير حكام عرب مسلمين وقرشيين بالذات، علماً أنها كانت "إمبراطورية إسلامية" وليست عربية فقط؛ أي يحق لعبد ذي زبيبة أن يحكمها، فيما لو كان صالحاً للحكم. ولكن يبدو ألا حاكم صالحاً من غير قريش كان صالحاً للحكم في ذلك الوقت، وهو ما ينطبق الآن على العالم العربي، حيث لا حاكم صالحاً غير ما هو ظاهر على الشاشة، يحكم عشرات السنين، دون نائب منظور، ثم يفاجأ القوم بأن النائب كان في كُم الحاكم "الساحر"، وهو الابن "الشاطر"!

-3-

دخلت الإسلام شعوب متقدمة في حضارتها، وعمرانها، وآدابها، وفنونها، وعلومها، وتشكّلت فيما بعد ما يُعرف بالحضارة الإسلامية، وما كان الإسلام غير قشرة ذهبية روحانية، طُليت بها هذه الحضارات التي كانت قائمة قبل الإسلام كالحضارة اليونانية، والفارسية، والهندية، وغيرها، كما لم يكن الإسلام غير عنوان جديد لهذه الحضارات التي تخلّت عن أسمائها ورضيت- نتيجة لظروف تاريخية معينة ومختلفة- التخلّي عن اسمها والعيش تحت اسم جديد، وهو "الحضارة الإسلامية" التي قاد مسيرتها فيما بعد- في أغلب العصور والحقول- علماء، ومفكرون، وشعراء، وفلاسفة، ولغويون، من غير العرب.

-4-

رضي العرب بالإسلام، ورحبوا وتمسكوا به، طيلة ستة قرون، من بداية العهد الراشدي حتى نهاية العصر العباسي، لأنه كان "الكنز"، و"مفتاح الثراء"، ومصدر السلطة في الحياة، فهو الذي أمكنهم من السلطة، والمال. وكان عليهم أن يتشبثوا به، وإلا ماتوا جوعاً، وتشردوا في الأرض، حيث لا صناعة لهم تُغنيهم، ولا زراعة لهم تُطعمهم، ولا ثروة طبيعة في باطن الأرض تُسعدهم، وليس لهم من مصدر رزق غير "الجزية"، وغير ما يكسبوه في الغزوات من مال، وأرض، ونساء، وعبيد للخدمة، والتجارة، وكان الاقتصاد على هذا النحو، "اقتصاد حرب" طيلة ستة قرون، من حياة الامبراطورية العربية. لذا، كان يتوجّب على العرب طوال ستة قرون أن يكونوا تحت السلاح دائماً، وفي حالة حرب دائمة، وغزو مستمر، تأكيداً لقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: "جُعل رزقي تحت ظل رمحي".

وكان كل ذلك، في ظل عدم وجود أيديولوجيات عُظمى، تتحدى المُلك العربي، وتنتزع منه الأرض في الشمال والجنوب، والشرق والغرب، ودون وجود قوى سياسية وعسكرية عُظمى، تتحدى الإمبراطورية العربية وتهددها، وتنتزع منها السلطة والمال، في ذلك الوقت.

-5-

أما في العصر الحديث، فلم يعد الإسلام- كدين للعرب- قادراً على أن يُستخدم كسلاح لغزو الآخرين في ظل وجود أيديولوجيات أرضية جديدة وقوية، وفي ظل وجود قوى عُظمى وصغرى متفوقة على العرب ليس بالدين، ولكن بالقوة العسكرية، وبالعلم، والصناعة، والفكر، والمعلومات، والإعلام... إلخ.

كما أن العرب المسلمين لم يعودوا قادرين على تجييش الجيوش لغزو الآخرين والاستيلاء على أراضيهم، وسبي نسائهم، وتعيين الولاة عليها بحجج مختلفة، بل هم غير قادرين على استرجاع ما انتُزع منهم من أراضٍ من قِبل دول آسيوية- إسلامية كتركيا وإيران، ومن قِبل دول أوروبية كإسبانيا، ومن قِبل إسرائيل.

وفي العصر الحديث انحطَّ العرب، ليس بالشعارات والخُطب فقط، ولكن بالحقائق العلمية والتاريخية إلى الدرك الأسفل علمياً، ومالياً، واقتصادياً، واجتماعيا. وأصبحت قيمهم قيماً "وحشية" ليست إنسانية، ولا رحمانية، ولم يُصدِّق العرب وجههم القبيح في مرآة تقريري التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة لعامي 2002، 2003، وما بعد ذلك من تقارير مخزية، فتعالوا، وأنكروا، واستكبروا، واتهموا معدي التقريرين (وكلهم قاطبة من النُخب العربية الأقحاح ومن ذوي الكفاءات العالية) بأنهم من "الصهاينة"، ومن "عملاء المخابرات الأميركية"، وبأن هذه التقارير "مؤامرة جديدة" على العرب والإسلام.

-6-

 منذ زمن طويل، كانت الأمة العربية أمة حاكمة غير محكومة، وسيدة غير مسودة، وغازية غير مغزيّة، ومُرسِلة غير مُتلقية، وهادية غير مهدية، وقاضية غير متهمة، وظالمة غير مظلومة، ولها الصدر دون العالمين أو القبر... إلخ. ولكنها وجدت نفسها في العصر الحاضر على عكس ذلك، وأنها في الدرك الأسفل من الأمم، وليس تحتها في قائمة العالم غير الصحراء الإفريقية الجنوبية فقط.

فما العمل لكي تحاول أمة العرب- ولو في الخيال والأحلام- أن تعيد مجد الماضي، وتصبح شغل العالم الشاغل، والسيف المُهاب؟

عليها أن تخطف الإسلام أولاً- وهو كل ما تملكه في دنياها- ثم تأسره بعيداً في جبال أفغانستان وكهوفه، وتسرقه من قبل حفنة من المفترين على الدين، وتؤوّله، ثم تحيله إلى موجات من العنف والإرهاب. وتأتي بإسلام عربي جديد لا علاقة له بإسلام الآخرين في العالم، وهم الذين يمثلون 81٪، بينما لا يمثل العرب غير 19٪ من العالم الإسلامي.

وإسلام العرب الآن هذا، له فرسانه الملثمون الظاهرون على شاشات الفضائيات، وله فضائياته، وصحفه وكتبته، وله فقهاؤه المُعممون ذوو الوجوه الثلاثة:

وجه للعرب، ووجه للغرب، ووجه ثالث للتراجع.

وله فقهاء سفك الدماء، وفقهاء الفتاوى والفتاوى المضادة.

وله أصوليوه المقنعون بقناع الدين المخطوف والمزوّر، كما قال المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم في كتابه "الإسلام في الأسر".

وسنكمل بحثنا في مقال قادم إن شاء الرحمن.

* كاتب أردني

back to top