وردة الملاك... إلى علي المعمري

نشر في 16-01-2013
آخر تحديث 16-01-2013 | 00:01
 زاهر الغافري كنّا في ساحة «الملِفون»، في حيّ أصبح الآن أكثر الأحياء جاذبية في مدينة مالمو. حيّ يذكّر قليلاً بحيّ سوهو النيويوركي، وهو يختلف عن سوهو اللندني الشهير. في هذا الحي يلتقي المهاجرون من بلدان عديدة ومختلفة. هنا تسكن فئة من الفنانين والكتّاب، والموسيقيين والشعراء، والرسامين ودهاقنة النبيذ، والمتمردين وبائعي المهربات، وأصحاب الاوشام والمهرجين وعشاق آخر الليل بعد نوم النهار.

هنا المقاهي والمطاعم والحانات المفتوحة على الأرصفة في فصل الصيف. وهنا أيضاً خليط من اللغات والروائح والألوان. أجل هنا كنّا، صديقي القاص علي المعمري وأنا. دخلنا إلى مشرب ماء الحياة وجلسنا في ركن مضاء بنور كتيم. الأحاديث تتواصل عن الهجرات والأمكنة. الصخب المحبب يعلو والموسيقى خافتة، وإذا بعاصفة من الجمال تغزو المكان كلهُ وتهدد الأرواح والأجساد القابعة في مكانها.

هل قلتُ امرأة؟ أجل

امرأة وفي يدها شتلة صغيرة من الورد.

وكأنها ميزت وبلمح البصر، وجوه الرواد تقدمت خطوات قليلة إلى الركن.

وبغرور جمالها المهذّب سحبتْ كرسيّاً وجلستْ قبالة صديقي على ذات الطاولة. لم تقلْ شيئاً إنما مدتْ ذراعها وقدمت شتلة الورد إلى علي المعمري قائلة:

هديتي إليك في نهار رائع كهذا. وهي تُشير إلى الخارج.

يا لهذه البدايات الصعبة والمربكة، قلتُ في سري. فما كان من صديقي إلا أن دعاها على كأس من الشمبانيا الفاخرة. كان جمال تلك المرأة حزيناً ومرغوباً، أثيرياً ومدوّخاً، ورسولياً وقاصفاً، بحيث يُشعرك بأنه ينبغي عليك أن تختفي من على وجه البسيطة فوراً.

ثم توالت الأحاديث وفهمنا من كلامها أنها رسامة ومترجمة سويدية عن الاسبانية وعاشقة لموسيقى الشرق القديمة وروحها في الأندلس كما تسمي الجنوب الاسباني.

يا لهؤلاء الفايكنغ غريبي الطباع. ترى هل خلف ابن فضلان سلالة هنا؟ التاريخ يقول لا. لكن التاريخ في نهاية الأمر ليس سوى مسألة تأويل.

بعد تلك الظهيرة الاستثنائية خرجنا، علي المعمري وأنا وحملَ علي معه انتصاره الكبير. كان الهواء منعشاً في الخارج والوقت لايزال مبكراً. علي الذي عاش حقبة من حياته في الإسكندرية، سحبته الذكريات فلم نجد أنفسنا إلا أمام المشرب اليوناني. من مواهب علي المعمري الأخرى، العطاء وحس المشاركة مع الآخرين. في الداخل قدم علي شتلة الورد الصغيرة إلى صاحب المشرب قائلا:

هديتي إليك في نهار رائع كهذا وهو يُشير إلى الخارج.     

سألتُ علياً، في ظنك، ما الذي كانت تبحث عنه تلك المرأة؟

أمكنة الروح. أجاب.     

حدثت هذه الحكاية قبل سنوات، والآن بعد رحيلك يا علي من سيعتني بتلك الوردة التي تطل من النافذة؟ من سيرعى روح الملاك الذي مر كما لو كان حلماً عابراً.   

لبورخيس قصيدة بعنوان «ملتون والوردة»، تقول بعض مقاطعها:

بين أجيال الورود التي ضاعت.

في قاع الزمن.

أودُ أن تنجو وردة من غائلة النسيان.

لا يميزّ رمز أو علامة عن الأشياء التي خلتْ.

لقد حباني الدهرُ نعمة أن أسمّي للمرة الأولى.

تلك الوردة الصامتة...

أيتها الوردة...

غادري ماضيك السحيق.

والتمعي في هذه القصيدة.

ذهباً أو دماً أو عاجاً أو عتمة.

كما التمعتْ بين يدي الشاعر.

وردة لا مرئية.

back to top