في مديح ثقافة البيئة

نشر في 02-10-2013 | 00:01
آخر تحديث 02-10-2013 | 00:01
No Image Caption
هرباً من فكرة المرور في محيط الضاحية الجنوبية في لبنان حيث كان «حزب الله» يقيم حواجزه قبل أن يحل محله الجيش اللبناني، وهرباً من زحمة السير في محيط بيروت والحازمية، قررت الذهاب من طريق جديدة توصلني إلى منطقة البقاع، هي طريق الدامور- المديرج، طريق نادراً ما اخترت المرور عليها لأسباب أجهلها، ربما هو الروتين الشخصي الذي اعتدته.`
المرة الأولى التي عبرت فيها طريق الدامور، كانت عام 1990 قبل حل الميليشيات بأشهر، لم أنتبه يومها للطريق كثيراً، ولم أكن كثير الانتباه، شرودي في أحلامي الخاصة ومراهقتي وتشتتي كانت أقوى من أن أتحمس لمشهد طبيعي وشجرة، ولبنان يومها، ورغم أنه كان في نهايات حربه فإنه كان أقل جنوناً من الآن، وبدت بالنسبة إلي عشوائية العمران والتخطيط أكثر توحشاً من أفعال الحرب.  

الدخول من إقليم الخروب أو من الأوتوستراد البحري الرابط بين صيدا وبيروت إلى «المنطقة الجنبلاطية» أو الشوف، كأنه عبور من بلد إلى آخر، أو هكذا يوحي المشهد. تتبدل الأمور فجأة، من جبل يطل على البحر ويئن من مبانيه وناسه إلى جبل غني بخضاره وصنوبره وسروه وكيناته وكل أنواع شجره. بل يتبدل المشهد من الأوتوستراد الصاخب بالسيارات والحوادث والدراجات النارية الصاخبة والشاحنات العملاقة والمعدنية التي توحي حمولتها بمآل ما يحصل في الربوع اللبنانية، إلى طريق ينقصه عربة وحصان أو سيارة بيضاء مكشوفة تنقل عروسين في منتزه طبيعي، سيارة يبحث سائقها عن صوت المياه في نهر الدامور.

الطريق من الدامور إلى المديرج كأنها صورة رومنطيقية باقية من زمن ما يسمى «لبنان الأخضر»، سيارات بعدد أصابع اليد تمر ببطء على طريق جبلية متعرجة، مخططة لا تسمح للسائق بكثير من السرعة، فيتسنى له في مشواره بعض التأملات وربما الضجر من قلة الحركة المعهودة على طرقات لبنان. المشهد الأخضر يسحر العين، الجبل يحاور نفسه من خلال أشجاره، ربما على العابر أن يترحم على لبنان ومناظره الذاهبة نحو التلاشي والأفول والزوال، فمن جهة ثمة حرائق مفتعلة وغير مفتعلة تلتهم المناطق الحرجية، ومن جهة أخرى ثمة توحش عمراني وكسارات تجهز على ما تبقى من رواسب الجمال الطبيعي.

النظافة أيضاَ تلفت الانتباه في المنطقة الجنبلاطية، لا يوجد قناني فارغة ولا علب دخان مستهلكة مرمية على جانبي الطريق، على عكس أوتوستراد بيروت صيدا الذي يضج بالنفايات كأن الناس لم يزوروه يوماً. كذلك لا صور لسياسيين ولزعماء ولا إعلانات تجارية، فقط مبان قليلة ومحال تجارية أقل، ولا عشوائية في البناء، ربما تكون تلك المنطقة من المسافات الأطول التي يقطعها العابر بسياراته من دون أن يلاحظ عليها اختراقات لمبانٍ عشوائية هنا وهناك، ربما ثمة «اختراقات» لبعض مشاتل الأشجار وبسطات الخضار التي تعرض الطماطم الجبلية وأجمل الثمار.

كأن قلّة النمو الديموغرافي في بعض المناطق اللبنانية، تتيح المجال لبقاء الجمال حاضراً في مكانه، بل تتيح المجال للمكان أن يبقى نظيفاً أنيقاً منتعشاً بذاته، فالنافل أنه حيث يكثر النمو الديموغرافي تنفجر المباني العشوائية وتصبح البيئة في خبر كان، على أن الدولة اللبنانية بفساد بعض موظفيها العارم و{العظيم» تساهم في إفساد البيئة وهدمها بسبب الرشاوي.  

دير القمر

وكثير من البلدات على طريق الدامور - المديرج، تنعم بالعمارة الأثرية والتراثية التي تناسب البيئة والسياحة والتنزه، بلدات تبدو بدعة في رواقها وعماراتها القديمة، من دير القمر إلى بيت الدين، كأننا نقرأ التاريخ اللبناني من خلالها. دير القمر البلدة التاريخية الأثرية كأنها «كارت بوستال»، تفضح رواقها عمارة الحداثة، هي عاصمة الأمراء المعنيين والشهابيين لا تزال تحافظ على طابعها التاريخي. وأجمل ما في هذه القرية أن الزائر ما إن يصبح على تخومها حتى يشاهد بأم عينيه تحفة طبيعية. في ساحة دير القمر تمثالاً فؤاد أفرام البستاني والرئيس كميل شمعون، كنيسة سدة التلة والمبنى الأثري الذي أقيمت فيه البلدية، وكانت هذه القرية بندر الشوف تاريخياً ومنه على امتداد جبل لبنان وهي كانت تضم سوقاً للحرير وقد تحول اليوم إلى المركز الثقافي الفرنسي. ولا ننسى الجامع القديم. كل شيء أثري في هذه البلدة العريقة.

يعترض قصر المعلم موسى المعماري درب الزوار على منتصف الطريق بين دير القمر وبيت الدين، ويقدم نماذج صارخة بإبداعها عن مجمل أوجه الحياة اللبنانية القديمة في مشاهد وتحف، وهنا أكثر من 15 ألف نموذج للأسلحة القديمة التي استعملها اللبنانيون، لا سيما في محاربة الأتراك. ولا تكتمل متعة الزيارة وسر اكتشاف الإبداع الطبيعي الذي أنعم به الله على أبناء الشوف وما تركته الأيام من تراث عريق إلا بالمرور في بيت الدين. لا مجال هنا للحديث عن الأماكن الأثرية في دير القمر وبيت الدين فهي كثيرة ولها لغتها الخاصة.

 

جسر المديرج

 

ما إن يطل المرء على جسر المديرج الشاهق والفاحش بارتفاعه، حتى يظن أنه أمام ضريح للبشاعة والقبح والموت، هذا الجسر الخراساني الذي تباهى لبنان بأنه الجسر الأعلى في الشرق الأوسط، يوصل بين جبلين، سبق أن دمرته إسرائيل وأعيد تشييده، هو الشاهد على الجحيم العمراني في لبنان. على مقربة من الجسر ما زال نفق القطار المتوقف محفوراً بالصخور، ذلك القطار الذي يذكرنا برومانسية غابرة، ربما بسبب سحر الصورة. من بعد جسر المديرج يبدأ الشعور بالخواء والتصحر، خصوصاً حين نلمح كسارات عين دارا التي قرشت الجبل على مقربة من غابة أرز الباروك. عند حاجز ظهر البيدر الشاحنات ككوابيس تنزل من الجبل محملة بالبحص والرمل، الشاحنات وحدها تقرأ كيف تموت الجبال والطبيعة تحت أنياب البشر والجشع المالي...

back to top