لبنان يبكي وديعه! (2-2)

نشر في 14-10-2013 | 00:01
آخر تحديث 14-10-2013 | 00:01
عن عمر 92 عاماً رحل وديع فرنـسيس الشهير بوديع الصافي (ولد في 1 نوفمبر 1921)  عرّاب الأغنية اللبنانية الجبلية الصافية، وهو أحد عمالقة الطرب في لبنان، وصاحب الصوت الجبار والنادر والاستثنائي، النقي كالدموع والصافي كأجراس الكنائس في الجبال الغضة. كان له الدور الرائد في ترسيخ قواعد الغناء اللبناني وفنه، أحدث نقلة نوعية في رفع مستوى الغناء الفلكلوري من طبيعته المحلية الزراعية إلى أفق الوطنية، واقترن اسمه بلبنان وجباله ووديانه، هو صاحب الصوت العنفوان الذي تسافر الأذن مع مداه، وهو في صوته «مخالف للطبيعة البشرية» بحسب الناقد فكتور سحاب.

عاد وديع الصافي إلى بيروت من البرازيل عام 1950 وجاء إلى الموسيقار حليم الرومي (والد الفنانة ماجدة الرومي) في الإذاعة، فقال له: «لا تغنِّ أغنيات الطرب؛ إننا نريد لون الزجل بصوتك، أما الطرب «فلاحقين عليه»!». كانت «الكرنك» و{الجندول» قد اختفتا من الإذاعة وحلّت محلّها أغان خفيفة لفريد الأطرش مثل «يا عوازل فلفلوا»، فضرب وديع أخماساً بأسداس. كان المستمعون قد نسوا صوته لأنه كان يغني على الهواء ولم تكن الإذاعة تسجّل الأغاني؛ عرف أن الأوقات قد تغيّرت وأن عليّه أن يأتي بشيء جديد خفيف على نسق «العوازل»، وهكذا ولدت فكرة «عاللومة». لم تكن الأغنية اللبنانية واضحة المعالم آنذاك وكانوا يغنونها ملتبسة رغم أن الأولين قد اجتهدوا فيها من أمثال نقولا المني وايليا بيضا والياس ربيز وسامي الصيداوي وغيرهم. هؤلاء بدأوا الأغنية المحلّية اللبنانية، المحيّرة بين الأمزجة العراقية والسورية والفلسطينية والمصرية.

بعد عودته من البرازيل، أطلق «عاللّوما»، فذاع صيته بسبب هذه الأغنية التي صارت تردَّد على كل شفة ولسان، وأصبحت بمثابة التحية التي يلقيها اللبنانيون بعضهم على البعض. وكان أول مطرب عربي يغني الكلمة البسيطة وباللهجة اللبنانية بعدما طعّمها بموال «عتابا» أظهر قدراته الفنية. قال عنه محمد عبد الوهاب عندما سمعه يغني أوائل الخمسينيات «ولو» المأخوذة من أحد أفلامه السينمائية وكان وديع يومها في ريعان الشباب: «من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت». فشكّلت هذه الأغنية علامة فارقة في مشواره الفني وتربع من خلالها على عرش الغناء العربي، فلُقب بصاحب الحنجرة الذهبية، وقيل عنه في مصر إنّه مبتكر «المدرسة الصافية» (نسبة إلى وديع الصافي) في الأغنية الشرقية.

عام 1952، تزوج من ملفينا طانيوس فرنسيس، إحدى قريباته، فرزق بدنيا ومرلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد. عندما اندلعت حوادث عام 1958 في لبنان بسبب الانقسام السياسي بين الرئيس كميل شمعون والمعارضة، سافر الصافي إلى بنما في رحلته الاغترابية الثانية. لم تكن رحلة موفقة البتّة، إذ مرض هناك وتقطّعت به الأسباب كلها لا أكلاً ولا مبيتاً ولا وسيلة سفر، فأرسل إلى صديق له ليسعفه فأرسل إليه المال اللازم لتأمين عودته إلى لبنان عام 1959 . في هذه المرحلة، تميز عقد الخمسينيات بمعلمين مهمين من معالم هذه النهضة الموسيقية:

- إنشاء مهرجانات بعلبك الدولية، في أواخر عهد الرئيس اللبناني كميل شمعون في عام 1956، واعتمادها في العام الثاني لولادتها (1957) حصة للفن اللبناني المحلي تحت عنوان «الليالي اللبنانية». 

- بدء النهضة الجديدة لإذاعة بيروت الكبرى في عام 1958، مع بداية عهد الرئيس اللواء فؤاد شهاب.

للنهوض بهاتين المؤسستين الفنيتين، اجتمعت المواهب الفنية كافة التي ولدت وترعرعت في لبنان وفلسطين في الربع الأول من القرن العشرين، والربع الثاني منه.

لم يكن وديع الصافي شاهد مهرجاناً من قبل، إلا أنّ زوجته كانت قد شاهدت مهرجاناً وأخبرته، وكان الرحابنة قد خاضوا التجربة عام 1957 في بعلبك ونجحوا. لم تكن المهرجانات في مزاجه أصلاً لأنه كان يرى أن موسم الصيف كله سيضيع لقاء 15 ألف ليرة بينما كان يكسب في موسم الصيف من 100 إلى 125 ألف ليرة (أيام العز). قال لنفسه: «خدمت لبنان في الغربة كثيراً وحان الوقت لأهتمّ بمصلحتي وأترك الفرصة لغيري ليخدم لبنان من خلال المهرجانات»! ثم أرسل له رئيس الجمهورية كميل شمعون طالباً إليّه أن يوافق على المشاركة في مهرجانات بعلبك الدولية فوافق. 

وشهد لبنان مواسم مهمة من المهرجانات والحفلات طوال مرحلة الستينيات، بل شهد نهضة موسيقية كان روادها وديع الصافي، فيلمون وهبي، الأخوين رحباني، زكي ناصيف، وليد غلمية، عفيف رضوان، توفيق الباشا، سامي الصيداوي، وغيرهم. وبعد ذلك جاءت الحرب فأجهض المشروع الموسيقي اللبناني. أحرقت الحرب الأهلية كل أخضر ويابس وشتّـتت من لم تحرقه إلى غربة وطنية وفنّية لم يعد منها. اضطر الصافي إلى الهجرة القسرية، عاش فترة طويلة رحالة، يتنقل من بلاد إلى أخرى وأبرزها البرازيل وفرنسا، حيث بقي فيها طيلة فترة الحرب اللبنانية. تعرض لأكثر من نكسة صحية فأصيب عام 1979 بمرض باكتيري في رئتيه وخضع عام 1989 لجراحة  قلب مفتوح. ثم عاد إلى لبنان مع انتهاء الحرب.

يقول الناقد المؤرخ إلياس سحاب: {مع أن حنجرة وديع الصافي تملك عدداً من المزايا الفنية الطبيعية لدى الأصوات الجميلة، فإن هذه الحنجرة قد حباها الله بمزايا أخرى استثنائية، إلى درجة تبدو أحياناً مخالفة للطبيعة البشرية للأصوات}.

في التكوين الطبيعي لحنجرة وديع الصافي أولاً ميزة اتساع المساحات الصوتية على الدرجات المرتفعة والمنخفضة كافة، حتى أطلق عليه شيخ النقاد العرب كمال النجمي لقب «غاغارين الطبقات الصوتية» (معلوم أن غاغارين هو أول إنسان ارتاد الفضاء الخارجي)، وميزة امتلاك معدن بالغ النفاسة، عزَّ نظيره في الأصوات المعروفة. وإذا كانت هذه المزايا هبة الخالق، فإن الدربة الطويلة التي درب وديع الصافي صوته على أدائها، في مختلف الألوان الدينية والدنيوية التي استعرضنا في مطلع هذه السطور، قد زودت صاحب هذه الحنجرة المميزة أصلاً، بأساليب ساحرة في الأداء الغنائي، أولها قدرته على تغليف المعدن النفيس لحنجرته بما يشبه الحرير أو المخمل، أي بحنان ورقة ودفء إنساني قل أن اجتمعت في صوت بهذه المواصفات الجميلة.

ويصل أداء وديع الصافي إلى ذروة تجعله يبدو مخالفاً للقوانين الطبيعية، فهذه القوانين تقول إن الصوت البشري عندما يرتفع إلى درجاته العليا، فإنه يزداد ضيقاً وحدة، إلا صوت وديع الصافي، الذي يسيطر عليه صاحبه في مساحاته العليا، ليغلفه بحنان ورقة عز نظيرها في الأصوات الأخرى، عندما تصل إلى هذه المساحات العليا المرتفعة، بما يذكرنا بصوتي عبدالوهاب وأسمهان فقط.

الميزة الأخرى في أداء وديع الصافي، خصوصاً عندما يدخل غناؤه في مساحات الارتجال اللحني والغنائي، أن الدربة الطويلة على تراث الفولكلور اللبناني، والتراث العربي الكلاسيكي، والإنشاد الديني المسيحي المشرقي، الذي يوازي في غناه ينابيع الإنشاد الديني الإسلامي، هذه الدربة زودت أداء وديع الصافي بقدرة على التنقل بين المقامات الموسيقية العربية، إلى حد كثيراً ما يصيب المستمع العارف أو الحساس بالدهشة والذهول، ويبدو ذلك أكثر ما يبدو في أدائه للمواويل، خصوصاً مع صباح ونجاح سلام، وفي بعض تسجيلاته مع فيروز، مثل فاصل «سهرة حب» وفواصل الموشحات والقصائد. حتى إن فكتور سحّاب سجل له في كتابه عنه مساجلة ثنائية بينه وبين صباح، يغني فيها مقام الهزام على الدرجات العليا، ثم الوسطى، ثم المنخفضة، حتى يصل إلى الدرجة المناسبة لصوت صباح، ذلك كله اعتماداً على حنجرته، وليس على الآلات الموسيقية المرافقة، التي كان بعضها يتوقف عن العزف عجزاً عن مجاراة التقلبات السحرية في أداء حنجرة وديع الصافي.

ومع أن هذه المواهب الربانية والمزايا المكتسبة في أداء وديع الصافي قد أمّنت له انتشاراً واسعاً بين جميع طبقات المستمعين، فإن التعرّف الكامل إلى كل كوامن السحر في هذه الحنجرة وهذا الأداء، يظل محصوراً في طبقة المستمعين العارفين بأسرار الصنعة، وكبار الموسيقيين والمطربين المحترفين.

back to top