قضية العصر جريمة الشيخ «الفيل» (1–2)

نشر في 06-08-2013 | 00:02
آخر تحديث 06-08-2013 | 00:02
بعض الجرائم لا يمكن الوصول إلى فاعليها، فتظل عالقة في الهواء، لا القانون استطاع أن يكشفها ولا الشهود توصلوا إلى الفاعلين. على الرغم من ذلك يبقى الانتقام الإلهي قادراً، دون غيره، على تحقيق القصاص من المجرمين معدومي الضمير، الذين ساعدتهم الظروف في الهروب من فخ القبض عليهم، ناسين أن العدالة الإلهية لا تعرف عبارة «ضد مجهول».
لغز آخر في سلسلة القضايا الغامضة في تاريخ الجريمة التي تقع فوق أرض مصر... لغز مثير يكشف عما يدور أحياناً في كواليس القضايا الكبرى التي تشغل الرأي العام ثم تتحول إلى علامة استفهام وسؤال عريض يبقى طويلاً... بلا إجابات؟

إنها قضية الموسم كما أطلق عليها الإعلام وقت وقوعها. والحقيقة أنها قضيتان وليست قضية واحدة... ولا يمكن النظر إلى الأولى من دون الثانية. والمثير أن دور البطولة في كل واحدة منهما محجوز لأحد كبار المستشارين من رجال القضاء... في الأولى كان المستشار المتهم الرئيس فوق الأوراق الرسمية التي حققتها محكمة الجنايات... وكانت تهمته في غاية البشاعة وتدور حول اغتصابه إحدى المتقاضيات في دعوى منظورة أمامه، ثم القبض عليه!

والأكثر إثارة أنه على رغم القبض على معالي المستشار متلبساً، كما تقول أوراق التحقيقات، وعلى رغم أن أحراز القضية كانت مما يندى له الجبين... فإن الحقيقة التي تكشفت بعد ذلك كانت مفاجأة من العيار الثقيل. كذلك كان في القضية الثانية المستشار رئيس محكمة الجنايات التي أصدرت الحكم في قضية المستشار الأول... والطريقة التي انتهت بها حياته... وهذا يدعونا إلى أن ندلف وبسرعة إلى قلب هذا الملف الخطير بكل ما فيه من أسرار!

الشيخ الفيل

ذات صباح، اهتزت مصر، من أدناها إلى أقصاها، لخبر القبض على رئيس المحكمة الشرعية في الإسكندرية... ولأن تهمة القاضي كانت قضاء سهرة حمراء مع ثلاث مطلقات من أصحاب القضايا المنظورة أمامه، ولأن الصحف نشرت مع الخبر أحراز القضية، وصور صاحبة أول بلاغ، انتشر باعة الصحف في إرجاء مصر وارتفع صياحهم: «... إقرأ حادثة القاضي بتاع النسوان»... وتحولت الواقعة إلى فضيحة مدوية... لكن كيف بدأت؟

مساء 21 يونيو 1955، وقفت إحدى السيدات أمام المقدم عبد القادر محمود في مديرية أمن الإسكندرية تقدم بلاغاً كالقنبلة... قالت إن رئيس المحكمة الشرعية في المنشية، واسمه الشيخ عبد القادر الفيل، يراودها عن نفسها. وسألها الضابط بدهشة وكانت تجيب ببرود وثقة:

* كيف يراودك عن نفسك؟

** طلب مقابلتي على انفراد... ولما سألت موظفاً بالمحكمة عنه قال لي إنه قاضٍ بتاع نسوان... وخلي بالك منه!

أحمرّ وجه الضابط... حبس أنفاسه... تأمل السيدة من شعر رأسها إلى أصابع قدميها التي ظهر جانب منها داخل الصندل الذي تلبسه، ولا يتماشى لونه مع ما ترتديه من ملابس... ثم عاد الضابط يحاورها من دون أن يفقد دهشته بينما زادت هي من جرأتها وثقتها بنفسها:

* ما اسمك؟

** شفيقة شاكر!

* ما علاقتك بالمحكمة والقاضي؟

** أنا كنت رافعة قضية نفقة لي ولولديّ عطية وفريدة... وحكمت المحكمة برئاسة الشيخ الفيل لي بنفقة 240 قرشاً فقط، على رغم أن دخل زوجي 14 جنيهاً في الشهر، عملت معارضة في الحكم وقدمت المستندات المطلوبة... لكن القاضي ظل يؤجل القضية. وفي الجلسة الأخيرة طلب مقابلتي على انفراد وفهمت منه أنه يرشح لي موظفاً بالمحكمة ليشرح لي سبب المقابلة!

حرر الضابط محضراً بالبلاغ الخطير وضرب كفاً بكف من فرط الذهول الذي أصابه والأسئلة التي تحيره: هل يعقل أن يطلب الشيخ الوقور مقابلة إحدى المطلقات على انفراد... وفي نهار رمضان والناس صائمون؟ هل يمكن أن تكون السيدة مبالغة في ادعائها؟ هل يمكن أن تتلاعب المحاكم في مصر بالمطلقات وشاكيات أزواجهن مقابل سهرات حمراء وممارسات جنسية؟

لم يكن ثمة وقت للدهشة أو التساؤلات. أسرع الضابط إلى إبلاغ كمال الديب محافظ الإسكندرية الذي أشار إلى عرض الموضوع على النيابة العامة... وأن تتم التحقيقات بسرية تامة!

داخل أروقة النيابة كانت الأوراق تنتقل بسرعة من مكتب إسماعيل حسن رئيس النيابة إلى مكتب محمود عباس الغمراوي وكيل أول النيابة الذي أسرع بدوره إلى استدعاء السيدة الشاكية شفيقة شاكر، لفحص بلاغها وبدء التحقيق فيه. بعدها أمر المحقق أن تساير الشاكية القاضي وتتظاهر بقبول عرضه والاستجابة لرغبته في «الخلوة» التي يريدها... وفي الوقت نفسه تأمر النيابة بأن تعمل المباحث التحريات وما يلزم من مراقبات.

 وبالفعل كانت التحريات تتم على قدم وساق، كما جاء في الأوراق الرسمية؟ لكن بعد سبعة أيام فقط عادت شفيقة إلى مديرية أمن الإسكندرية لتفجر مفاجأة جديدة أمام الضابطين اللذين توليا عمل التحريات. قالت السيدة إنها قابلت الشيخ الفيل فعلاً... واصطحبها لمقابلة زميله القاضي عبد الفتاح سيف بعدما اتفق الاثنان معها على اللقاء عند السادسة من مساء اليوم نفسه في مكتب المحامي الشرعي محمد كحيل... وهناك ستنضمّ سيدتان مطلقتان إلى السهرة المرتقبة في إحدى الفيللات... ثم تقول أوراق القضية ما هو أغرب، فقد انتهى دور شفيقة، وقالت التحريات إن الشيخ الفيل وزميله القاضي سيف وثلاث مطلقات من أصحاب القضايا سيسهرون الليلة في فيللا تاجر معروف بشارع «الأولياء» في منطقة المندرة؟ هنا تهتز أسلاك الهاتف ويرتفع رنين الاستعداد في مكاتب كبار المسؤولين بوزارتي العدل والداخلية.

يُكلّف كبار المسؤولين بمتابعة الواقعة بدقة متناهية قبل إخطار القيادة السياسية بما يجري وسيجري داخل فيللا المندرة... بل يأمر رئيس النيابة بوضع الفيللا تحت الحصار الأمني من الاتجاهات كافة وعدم اقتحام المكان إلا بحضوره شخصياً ومعه باقي أعضاء النيابة العامة!

قولوا للريس

تقول أوراق التحقيقات ما هو أكثر إثارة وخطورة:

«... داخل مكتب المحامي الشرعي حضرت السيدات الثلاث وهن: جميلة فايد، وسعاد الدسوقي، وعزيزة منصور... واصطحبن وكيل المحامي في سيارة تاكسي «أجرة الإسكندرية» في اتجاه المندرة... وتوقفت السيارة عند مزلقان فيكتوريا حيث كان الشيخ الفيل وزميله القاضي الشيخ سيف في الانتظار، ثم اتجهت السيارة بعدما استقلها الشيخان إلى الفيللا القريبة من الشاطئ ونزل ركاب السيارة واتجهوا أفراداً إلى داخلها.

وهنا تعطي النيابة إشارة البدء المتفق عليها، فيهاجم البوليس الفيللا في وقت تأكدت فيه النيابة من أن كل شيء يجري في الداخل مخالفاً للآداب العامة. وما إن اقتحم البوليس الفيللا حتى تولى وكيل النيابة التفتيش والمعاينة بنفسه... وثبت أولاً أن الفيللا من الداخل كانت معبأة برائحة الحشيش، وأن ثمة مائدة طويلة عليها سمك ولحوم وسبعة كؤوس ومنكرات، بالإضافة إلى «جوزة وماشة». وفي إحدى الغرف مرتبة من القطن مفروشة فوق الأرض وعليها ملاءة سرير فوقها آثار ممارسة جنسية حديثة... وفي إحدى الحجرات كان الشيخ سيف مع إحدى النسوة بينما كان الشيخ الفيل وابنا صاحب الفيللا مع سيدتين.

 

تقول الأوراق

 

ألقي القبض على الجميع ونقلوا إلى نقطة شرطة المنتزة، وعلى الفور اتصل المحامي العام بوزير العدل الذي تولى بنفسه إخطار القيادة السياسية بعد أخذ رأي مساعديه الذين نصحوه بإبلاغ الرئيس. كان وزير العدل يتوقع أن يعقد مجلس قيادة الثورة اجتماعاً ليقرر إحالة القضاة للمحاكمة أو أن يكون له رآي آخر. لكن جمال عبد الناصر رأى الاكتفاء بأن يقدم القاضيان استقالتهما بهدوء. إلا أن مصطفى أمين وصحيفة «أخبار اليوم» التي كانت سباقة في نشر الأسرار، مهما كانت توابع هذه المغامرات الصحافية، نشرا تفاصيل الواقعة المذهلة على صفحة كاملة تحت عنوان «قضية العصر».

هكذا أصبحت القضية على كل لسان، وحديث الصباح والمساء في البيوت والأندية وأماكن العمل والتجمعات ووسائل النقل، ما دفع جمال عبد الناصر إلى التراجع عن قراره السابق وأمر بإحالة القاضيين إلى المحاكمة... وتولى المستشار كامل البهنساوي، رئيس محكمة جنايات الإسكندرية، النظر في القضية وسط ذهول الرأي العام.

إلا الشيوخ

تم النظر في القضية في جلسات انعقد بعضها بسرية، وأصبح جميع المتهمين بمن فيهم الشيخ الفيل والشيخ سيف خلف أسوار سجن «الحضرة»... لكن سرعان ما تخلي النيابة سبيل المتهمين جميعاً ما عدا الشيخ الفيل والشيخ سيف فقد ظلا في السجن رهن المحاكمة!

لم يكن الرأي العام متفقاً على رأي واحد. شعر كثر من أبناء مصر بأن شيئاً ما يدبّر للقاضيين اللذين نفيا في التحقيقات تورطهما في التهم المنسوبة إليهما... وقالا إنهما يعرفان بالفعل بعض النسوة المقبوض عليهن في القضية باعتبارهن من أصحاب القضايا المنظورة أمام محكمة المنشية الشرعية. لكن لم يحدث على الإطلاق... أن تم الاتفاق معهن أو مع إحداهن على سهرة حمراء أو سوداء.

وعن علاقتهما بفيللا المندرة التي قالت الأوراق الرسمية إنها كانت مسرحاً لممارسة الرذيلة، أقرّ القاضيان بأنهما بالفعل يترددان على هذه الفيللا لصداقة قوية تربط بينهما وبين صاحب الفيللا، وهو تاجر معروف. لكن الصحافيين لم يلتفتوا إلى دفاع القاضيين وتعمدوا إضافة التوابل الحراقة إلى السهرة التي تمت في فيللا المندرة.

كانت الاتهامات الموجهة إلى القاضيين أثناء المحاكمة ووفقاً لقرار الإحالة تدور حول:

* أولاً: قبول رشوة لأداء أحد أعمال الوظيفة، وهو الحكم لصالح الخصوم في القضايا المعروضة عليهم. وكانت الرشوة في صورة ملذات ومخدرات... وعقوبة هذه التهمة الأشغال الشاقة المؤبدة!

* ثانياً: إحراز مخدرات بقصد التعاطي... وعقوبتها السجن مدة لا تتجاوز خمسة عشر عاماً.

* ثالثاً: استغلال سلطة وظيفتهما لأغراض ذاتية وهي تهمة عقوبتها السجن.

أما المفاجأة الجديدة فكانت أن أحد الأشخاص أقام دعوى الزنا ضد الشيخ الفيل... وظهر أن هذا الشخص هو زوج إحدى المتهمات... وما زالت في عصمته باعتبارها في فترة العدة التي لم تنته بعد.

* وتراوحت اتهامات باقي المتهمين في القضية حول الرشوة وحيازة المخدرات.

ظل الرأي العام متوجساً من تطورات القضية... لم يتخلص الناس من إحساسهم بأن شيئاً خطيراً يدبر للقاضيين اللذين ظلا مسجونين بينما أخلي سبيل باقي المتهمين. أخيراً صدرت الأحكام في قضية العصر وسط ترقب الرأي العام المصري والعربي... وكانت الأحكام إحدى مفاجآت هذا الملف الخطير الذي عرفه الناس بقضية الشيخ الفيل، على رغم أن في الدعوى قاضياً ثانياً هو الشيخ سيف... لكن شهرة الشيخ الفيل كانت مدوية باعتباره أبرز قضاة المحاكم الشرعية الذي أصبح اسمه فجأة رمزاً لفضيحة كبرى... فماذا كانت الأحكام الصادرة في الدعوى؟ وماذا حدث لرئيس محكمة الجنايات الذي أصدر الأحكام.

back to top