الأزمة الإنسانية في سورية... قضية أخلاقية واستراتيجية

نشر في 06-02-2013
آخر تحديث 06-02-2013 | 00:01
بما أن المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة يجب أن تمر عبر الكيانات التي يسيطر عليها النظام، فإن الاقتراح الجديد- لإنفاق نصف مليار دولار على المساعدات الإنسانية داخل سورية على مدى الأشهر الستة المقبلة- يهدد بأن يصبح حافزاً اقتصادياً واستراتيجياً آخر للنظام المحاصر بدلاً من مصدر العون الحقيقي للشعب السوري.
 معهد واشنطن بينما ينصبّ الكثير من التركيز المتعلق بالصراع السوري على قضايا التكتيك العسكري والسلطة السياسية، لا تلقى الأزمة الإنسانية الكبيرة معالجةً لائقة؛ إذ لا يزال الملايين من المدنيين الأبرياء في مخيمات اللاجئين على امتداد الحدود السورية خصوصاً داخل البلاد، دون حماية من انخفاض درجات الحرارة ونقص الغذاء وحالات الطوارئ الصحية والعنف الجنسي، وغيرها من المخاطر التي قد تعصف بهم. ولعل المؤتمرات الدولية في باريس (28 يناير) والكويت (30 يناير) تندرج في إطار تصحيح هذا النقص الفاضح.

ويستخدم نظام بشار الأسد بصورة متعمدة أساليب الأرض المحروقة لتدمير المراكز السكانية المتعاطفة مع الثوار، على أمل تقويض الدعم للمعارضة الشعبية، وزيادة اعتماد الناس على سخاء الحكومة من أجل البقاء، وإجبار أكثر السوريين على الإذعان للاضطهاد المستمر.

الأزمة الإنسانية

في الوقت الراهن، فإن النصيب الأكبر من المساعدات الإنسانية الدولية المعدة لللاجئين والمشردين السوريين يقدم إلى الفارين من البلاد والذين يزيد عددهم على 650 ألف شخص، ومعظمهم فروا إلى الدول المجاورة؛ تركيا والأردن ولبنان والعراق. هؤلاء اللاجئون بحاجة ماسة إلى هذه المساعدات ويكافحون من أجل البقاء في ظل ظروف الشتاء الصعبة بل البائسة، وتبذل البلدان المضيفة ومنظمات المجتمع المدني المعنية والجهات المانحة الأجنبية جهوداً حثيثة لإعالة طوفان اللاجئين المتنامي.

تقدر الأمم المتحدة إلى أن هناك مليوني شخص مشردين داخلياً؛ وهناك تقديرات موثوق بها أخرى تشير إلى أنّ العدد الحقيقي هو أعلى من ذلك. وبعبارة أخرى، اضطر أكثر من ثلاثة أضعاف السكان الذين تم إجبارهم على عبور الحدود بحثاً عن الأمان أو القوت، إلى النزوح من منازلهم داخل سورية. كما أن هناك مليوني سوري آخرين لا يزالون في منازلهم ويُعتقد أنهم بحاجة إلى الغذاء والوقود والدعم الطبي وغير ذلك من المساعدات الإنسانية الطارئة.

توجيه المساعدات عن طريق الكيانات التي يصادق عليها النظام

يتذرع نظام الأسد مختفياً وراء ستار السيادة بحقه في السيطرة على توزيع جميع المساعدات الإنسانية داخل البلاد وبإصراره على القيام بذلك، وهو يمنح نفسه كل الفرص لرفض المساعدات أو تحويلها متى شاء. ووفقاً لما جاء في «خطة الاستجابة الإنسانية» الرسمية للأمم المتحدة في سورية "يتم [حالياً]- وسيستمر- توصيل جميع المساعدات الإنسانية في إطار الاحترام الكامل لسيادة الجمهورية العربية السورية. إن القرارات المتعلقة بالقضايا الاستراتيجية أو اللوجستية، بما في ذلك مواقع المكاتب الميدانية، ينبغي أن تُتخذ بعد إجراء مشاورات رسمية مع الحكومة من أجل الحصول على التراخيص والاعتمادات".

وتصف الأمم المتحدة نداءها الإنساني الحالي من أجل سورية، الذي يشمل الأشهر الستة المقبلة، بأنه النداء الأضخم والأكثر إلحاحاً على الإطلاق في أي أزمة. ورغم ذلك سيتم تخصيص ثلثي المساعدات المتوقعة البالغة قيمتها 1.5 مليار دولار إلى السوريين المحتاجين خارج البلاد، مما يترك ثلث المعونات فقط للعدد الأكبر بكثير من المشردين الذي لا يزالون داخل البلاد. والأسوأ من ذلك أنه من المقرر تمرير جميع المساعدات الداخلية من خلال وزارات ووكالات الحكومة السورية، ويتم تسليمها من قبل المنظمات المختارة والمعتمدة من قبل النظام.

فعلى سبيل المثال، أعلن" برنامج الأغذية العالمي" أخيراً أنه تلقى الإذن، لأول مرة، للعمل مع الشركاء المحليين داخل سورية بالإضافة إلى المنظمات الوطنية، وأنه اختار 44 شريكاً جديداً للتعامل معهم في توزيع المواد الغذائية في الحالات الطارئة في مواقع كان يصعب الوصول إليها سابقاً. إلا أن كل واحد من هؤلاء الشركاء الجدد تم اختياره من قائمة تضم 110 منظمات حصلت تفويضها من الحكومة التي تقوم أيضاً بالإشراف عليها.

كذلك يتلاعب النظام بمعونات القطاع الخاص، عبر الغموض قانوني. فعلى الصعيد الرسمي ليس لدى سورية أي منظمات مدنية- والمؤسسات الوحيدة التي تعمل بهذه الصفة مسجلة كجمعيات خيرية تحت رعاية أسماء الأسد، كما أن الجمعيات الخيرية والإسلامية التي تعمل خارج شبكتها والتي لها تاريخ في معالجة علل اجتماعية محددة تخضع لرصد ورقابة وثيقة من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وتوزع حالياً الكثير من المساعدات عبر "الهلال الأحمر العربي" السوري، وهي منظمة شبه حكومية تابعة للنظام؛ وعلى الرغم مما ورد بأن أعضاءها قد أظهروا شجاعة في توصيل المعونات إلى بعض المناطق في البلاد، إلا أنه يجري الاحتفاظ بها خارج المناطق "المحررة" التي هي تحت سيطرة المعارضة.

من السذاجة أن نتصور أن تلك الهيئات- التي تعمل نيابة عن النظام الذي قتل بالفعل عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء- بإمكانها إدارة المعونات الإنسانية بطريقة منصفة أو محايدة أو حتى الوفاء بالحد الأدنى من معايير الفعالية.

باختصار، بما أن المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة يجب أن تمر عبر الكيانات التي يسيطر عليها النظام، فإن الاقتراح الجديد- لإنفاق نصف مليار دولار على المساعدات الإنسانية داخل سورية على مدى الأشهر الستة المقبلة- يهدد بأن يصبح حافزاً اقتصادياً واستراتيجياً آخر للنظام المحاصر بدلاً من مصدر العون الحقيقي للشعب السوري.

تنويع سبل المساعدات

عند المقارنة بالإغاثة التي تقودها الأمم المتحدة بشكل إجمالي، يبدو أن المساعدات الإنسانية التي تقدمها الولايات المتحدة إلى سورية تركز على الاحتياجات الطارئة الداخلية المتزايدة في البلاد. ويفيد تقرير وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة قد تبرعت حوالي 210 ملايين دولار بشكل مساعدات إنسانية، تم تقديمها عبر منظمات دولية تابعة للأمم المتحدة وغيرها أو عبر المنظمات غير الحكومية. وفي إشارة غير واضحة إلى محسوبية النظام وما يسببه من عراقيل، ذكرت وزارة الخارجية الأميركية أخيراً "إننا نواصل البحث عن سبل لتقديم المساعدات الإنسانية- على أساس الحاجة وليس الانتماءات السياسية- وللوصول إلى مناطق كان يتعذر الوصول إليها سابقاً".

فما عساها تكون تلك السُبل؟ قد يكون من بينها العمل على نطاق أوسع بكثير مع المنظمات غير الحكومية المختصة وذات السمعة الحسنة غير الخاضعة لسيطرة النظام. فعلى سبيل المثال، لا تزال منظمة "أطباء بلا حدود" قادرة على تشغيل العيادات السرية القليلة القائمة في شمال البلاد رغم عمليات القصف التي يقوم بها النظام.

وهناك سبل أخرى تشمل جمعيات "الهلال الأحمر" و"الصليب الأحمر" من بلدان مختلفة، بشرط أن توافق على الالتفاف على قيود النظام إلى أقصى حد ممكن. ولعل تنسيق المساعدات عبر كثير من القنوات المحلية أكثر صعوبة وتعقيداً، ولكن هذا هو السبيل الوحيد لضمان عدم تحويل الجزء الأكبر من المساعدات لدعم النظام المسؤول عن الأزمة الحالية.

ومن السُبل الأخرى توفير الحماية الفعلية للمنظمات غير الحكومية المستقلة العاملة داخل سورية، ويعني ذلك إنشاء مناطق آمنة، وممرات إنسانية، أو حتى مناطق حظر الطيران وحظر القيادة حيث يمكن إعداد الخبز بدون أي أعمال تفجير وتوفير الضروريات الأساسية الأخرى (مثل وقود التدفئة) بشكل غير متحيز، وإمكان تنفيذ الإجراءات الطبية وفق شروط  صحية وآمنة.

لكن الحديث عن تلك الخيارات سرعان ما يواجه اعتراضات سياسية، حتى بين صفوف الفاعلين الخارجيين أصحاب النوايا الحسنة. ففي الربيع الماضي، مثلاً، اقترحت الحكومة الفرنسية بدء التبرع بالمعونات الإنسانية إلى المستفيدين في سورية بدلاً من التوقف عند الحدود التركية أو الأردنية، سواء بشكل مباشر أو عن طريق الحكومة في دمشق. إلا أن الأمور لم تمض على هذا النحو. فقد أكد أحد مستشاري الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بأنه لا يتم توفير المساعدات الفرنسية بشكل مباشر داخل البلاد، وعندما سئل عن إمكان تحقيق ذلك في حال توفير الحماية لشحنات المساعدات، جاء رده المؤسف: "ولكن هل سيكون ذلك قانونياً"؟

الخلاصة هي أن سورية تصدعت بالفعل وانقسمت إلى أجزاء شتى تخضع لأنواع متباينة من التحكم والسيطرة السياسية والعسكرية وهي حالة قد تستمر لسنوات. وبالتالي سيبقى توفير المساعدات مشكلةً كبيرة في المرحلة القادمة، من الناحيتين اللوجستية والقانونية. إن التقاعس عن مواجهة هذا الدافع الأخلاقي لا يؤدي إلا إلى المزيد من المعاناة الإنسانية، بل يسمح أيضاً للنظام باستخدام المعونات كسلاح للقوة الناعمة ضد المعارضة، كما أن الولايات المتحدة لن تحقق أهدافها الرامية لتخفيف المعاناة الإنسانية، والعمل على "تنحي" الأسد، وإيجاد نظام أكثر سلمية في سورية ديمقراطية في مرحلة "ما بعد الأسد" إلا من خلال حلولٍ قانونية مبتكرة ويشمل ذلك فتح سُبل ذات مصداقية وقابلة للمساءلة خارج قنوات المساعدات الخاضعة لهيمنة النظام.

 David Pollock و Andrew J. Tabler

back to top