الولايات المتحدة تقلص تمددها خارجياً... وتنكبّ داخلياً!

نشر في 25-01-2013
آخر تحديث 25-01-2013 | 00:01
عند مراجعة أحداث الولاية الثانية من العهود الرئاسية الحديثة، نلاحظ أن بوش تعثر بسبب فشل الاحتلال الأميركي للعراق، وقد تعثر بيل كلينتون بدوره بسبب فضيحته مع مونيكا لوينسكي، وتعثر رونالد ريغان بسبب فضيحة «إيران- كونترا».
 إنديان إكسبرس تبدأ الولاية الثانية من أي عهد رئاسي في الولايات المتحدة دوماً مع توقعات كبرى وخطاب عالي السقف من الرئيس بعد إعادة انتخابه. يُقال إن الرئيس، بعد تجاوز ضغوط الحملة الانتخابية، يصبح حراً كي ينفذ أفكاراً طموحة ويترك إرثه في البيت الأبيض.

يدرك باراك أوباما الذي حلف اليمين للولاية الثانية يوم الأحد حجم الفرص السياسية المتاحة أمامه وحدود ما يمكن أن يفعله خلال ولايته الثانية. من الناحية الإيجابية، يقود أوباما ما يشبه المرحلة الانتقالية التي تمهد لحصد أغلبية ديمقراطية في الولايات المتحدة.

يُقال إن انتصاره المقنع على خصمه الجمهوري ميت رومني في شهر نوفمبر الماضي نجم أساساً عن تغيّر المعطيات الديموغرافية في الولايات المتحدة ونشوء تحالف بين الطبقات الوسطى في المدن والطبقة العاملة والأقليات والنساء. في المقابل، يبدو أن العوامل السابقة التي مهدت لنشوء الأغلبية الجمهورية (سكان الضواحي والأرياف، والشركات الصغيرة، واليمين الديني، والمحافظون الاجتماعيون) بدأت تنهار.

يضغط بعض الداعمين الليبراليين للرئيس على أوباما كي يبذل كل ما بوسعه لتدمير التحالف الجمهوري نهائياً وضمان نشوء أغلبية ديمقراطية، لكن أوباما يدرك مخاطر توسيع طموحاته خلال ولايته الثانية ومصاعب تحويل أي أغلبية انتخابية إلى هيمنة سياسية.

لم يستطع سلفه، جورج بوش الابن، تحويل السيطرة الجمهورية في البيت الأبيض والأغلبية في مجلس النواب والكونغرس معاً (نتيجة انتخابات عام 2004) إلى دعم لإصلاح نظام الضمان الاجتماعي في الولايات المتحدة. كذلك، أدت محاولات بوش تغيير قوانين الهجرة إلى تداعيات عكسية في الحزب الجمهوري.

لكن الأسوأ من ذلك هو أن معظم العهود الرئاسية خلال الولاية الثانية تفقد طاقتها سريعاً وتصبح مثيرة للجدل. عند مراجعة أحداث الولاية الثانية من العهود الرئاسية الحديثة، نلاحظ أن بوش تعثر بسبب فشل الاحتلال الأميركي للعراق، وقد تعثر بيل كلينتون بدوره بسبب فضيحته مع مونيكا لوينسكي، وتعثر رونالد ريغان بسبب فضيحة "إيران- كونترا".

مع ذلك، لا أحد يستطيع إنكار الجرأة السياسية التي اتسم بها أوباما في الأسابيع التي تلت انتخابه، فقد أقنع الجمهوريين بالتخلي عن العقيدة المعادية لرفع الضرائب، وتحدى جماعات الضغط النافذة التي تدعم تجارة الأسلحة، وتحدى جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل حين عيّن السيناتور السابق تشاك هيغل في منصب وزير الدفاع.

صحيح أن هذه التحركات مثيرة للإعجاب، لكن لن يتجنب أوباما مواجهة مقاومة شرسة (من حزبه الخاص أيضاً) لإقناع الكونغرس بالموافقة على التغيير الاقتصادي والاجتماعي المُنتظَر منذ فترة طويلة في الولايات المتحدة.

حين تحصل انتخابات التجديد النصفي في عام 2014، قد يضعف موقع أوباما مع اقتراب نهاية ولايته بحسب ما تثبته جميع التجارب السابقة. ستكون حملة الانتخابات الرئاسية المقبلة لعام 2016 قد بدأت في ذلك الوقت. بحلول السنة السادسة من العهد الرئاسي، تميل كبار الشخصيات في الإدارة إلى التخلي عن دعمها للرئيس واستنزاف قدرته على الحكم.

في نهاية العهد الرئاسي، لا يحتاج الرئيس بالضرورة إلى أن يفقد فاعليته في الملفات الخارجية أيضاً، فوفق الأفكار التقليدية الشائعة، يتمتع الرؤساء خلال ولايتهم الثانية بهامش أكبر من الحرية السياسية والدوافع لإطلاق مبادرات كبرى في مجال السياسة الخارجية.

سعى كلينتون مثلاً إلى عقد اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين حتى يومه الأخير في البيت الأبيض، وطرح ريغان أجندة طموحة للسيطرة على الأسلحة النووية مع رئيس الاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشيف، وضغط بوش في نهاية عهده على الكونغرس الأميركي للموافقة على المبادرة النووية المدنية مع الهند في الأشهر الأخيرة من عهده الرئاسي في عام 2008.

لكن في ملف السياسة الخارجية، يبدو أن أوباما عالق في وضع شائك، فهو ركز على إنهاء المغامرات الأميركية في الخارج وضخّ جرعة ضرورية من النزعة الواقعية في الرؤية الأميركية، لكن لا يمهّد هذا النمط إلى تنفيذ تحركات جذرية وجديدة في السياسة الخارجية.

كان أوباما جريئاً بما يكفي كي يعلن أن الولايات المتحدة يجب أن تركز على شؤونها الداخلية بدل استعمال طاقتها لحل مشاكل العالم. كان إنهاء حربَي الولايات المتحدة المكلفتين في العراق وأفغانستان على رأس أجندة أوباما السياسية.

استعمل بوش خطاباً حاداً للتحدث عن واجب الولايات المتحدة في مجال نشر الديمقراطية حول العالم خلال خطابه الافتتاحي الثاني في يناير 2005. في المقابل، ركز أوباما في خطابه على أهمية بناء الوطن محلياً، وقد عبر عن هذه الرؤية طوال حملة إعادة انتخابه.

لم يكن اليمين السياسي (بمن في ذلك المحافظون الجدد) المصدر الوحيد لسياسة التدخل الأميركية بعد حقبة الحرب الباردة، فقد أبدى الليبراليون اليساريون الذين سيطروا على السياسة الخارجية في الحزب الديمقراطي حماسهم تجاه استعمال النفوذ الأميركي لتغيير العالم.

خلال الولاية الأولى، واجه أوباما ضغوطاً مستمرة من المعسكر اليساري كي ينفذ تدخلاً حاسماً في الشرق الأوسط، لكن في ليبيا وسورية والآن مالي، فضّل أوباما الحد من التدخل الأميركي. كما أنه خفف من وطأة الدعوات إلى استعمال القوة ضد إيران.

أوضح أوباما أن الولايات المتحدة لن ترسل بعد الآن جيوشها لتنفيذ عمليات عسكرية واسعة في الخارج. من المتوقع أن تصبح استراتيجية مكافحة التمرد (الوجه الآخر لسياسة بناء الأوطان) مجرد عامل هامشي بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.

لا تشير هذه المواقف إلى أن أوباما هو من دعاة السلام بل إنها تؤكد حذره السياسي.

تقضي استراتيجية أوباما باستعمال أعداد قليلة من القوات الخاصة والطائرات بلا طيار لتحقيق الأهداف الأمنية الأميركية في الخارج. في المقام الأول، تتعلق هذه الاستراتيجية بالسماح لقوى أخرى، مثل فرنسا وبريطانيا، بلعب دور أكبر في الدول المجاورة لأوروبا في شمال إفريقيا. يبدو أن أوباما مقتنع بأن الولايات المتحدة يجب ألا تبقى أول ملجأ عسكري لإدارة التحديات الأمنية حول العالم.

بالنسبة إلى أوباما، تتعلق استراتيجية الأمن القومي بتحديد الأولويات وتجنب تبذير الموارد العسكرية الأميركية مع التركيز على أبرز المناطق التي تخدم المصلحة الوطنية. لا بد من مقاربة توجه الولايات المتحدة خلال ولاية أوباما الأولى نحو محور شرق آسيا، بعيداً عن الشرق الأوسط، وفق هذا السياق تحديداً.

إذا تمسك أوباما بالمسار الواقعي الراهن في السياسة الخارجية، وإذا قاوم الضغوط الليبرالية التي تدعوه إلى التدخل في كل مكان، وإذا تابع التركيز على إعادة تنشيط الولايات المتحدة وتحديد معنى المصالح الوطنية الأميركية، فسيتعامل العالم مع نسخة مختلفة جداً من الولايات المتحدة. في هذه الحالة، قد يتعلق إرث أوباما بتكييف الولايات المتحدة مع منطق التقشف محلياً والاعتراف بحدود نفوذ البلد وسط هذا العالم المتغير.

C. Raja Mohan

back to top