إيران... جزيرة الاستقرار في القرن الحادي والعشرين
نظراً إلى التطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة خلال فصل الصيف (مصر، والعراق، وسورية، وتركيا)، قد يكون التصويت لروحاني العمل الثوري الأبرز المتاح أمام الجماهير الإيرانية.
شكلت الثورة الإيرانية عام 1979 (بالمساهمة في التخلص من جيمي كارتر وانتخاب رونالد ريغان) إحدى المناسبات القليلة في الشطر الثاني من القرن العشرين التي تؤثر فيها السياسات المحلية لإحدى دول العالم الثالث في السياسات المحلية الأميركية، لا العكس، ولم يتردد آية الله روح الله الخميني في التعبير عن ذلك صراحة: لم تستطع الولايات المتحدة الحؤول دون ذلك.يبقى هذا الواقع سبباً غير معلن يعطي الجمهورية الإسلامية تأثيراً كبيراً في النفسية الأميركية التي تفتقر إلى الأمان، ونرى هذا المشهد يتكرر اليوم بعد مضي نحو 34 سنة.ألم يهدف هجوم باراك أوباما الأخير على "المتطرفين" في الحزب الجمهوري إلى نسخ إعادة صياغة روحاني السياسة المحلية الإيرانية وتحويلها إلى صدام بين "المتطرفين" و"المعتدلين"؟ يواجه كلا الرئيسين معارضة محافظة مقسمة ومحاصرة، ويبدوان بأمس الحاجة إلى علامات تقدم، سواء كانت رمزية أو حقيقية، بغية منح أجندتهما الشرعية الضرورية والمضي قدماً بها. علاوة على ذلك، باتت سمعة كل منهما مرتبط بسمعة الآخر في السراء والضراء. إلا أن روحاني، الذي يتقن بوضوح كيفية تحوير الدوائر الإخبارية الأميركية والإيرانية كلها لمصلحته، يبدو أكثر مهارة في التعاطي مع معارضيه.يتزايد اليوم عدد مَن يدركون أن انتخابات يونيو عام 2013 في إيران لم تكن مجرد مصادفة، فيسعى الصحافيون والباحثون بدأب للتوفيق بين الأحداث المتسارعة الأخيرة والنموذج القسري الذي يخلط بين التحليل ودراسات الدول الشيوعية، هذا النموذج الذي بدا كافياً في ظل غياب محاورين إيرانيين كفوئين. ومن حسن الحظ أن عباراتنا الشرقية المستهلكة، التي نستخدمها لوصف الوضع، والتي تعود إلى سجلات سفر الفرس خلال العهد الفيكتوري، أوشكت أن تنفد، مثل "بازار السجاد"، "مباريات المصارعة"، و"لعبة شطرنج". توقفتُ صراحة عن قراءة تعليقات مؤيدي الدولة. في المقابل، إذا ألقينا نظرة سريعة على الصحف المحلية الإيرانية، نحصل على جواب بسيط عما أتاح لروحاني بلوغ هذه المرحلة المتقدمة بهذه السرعة: استغل الرئيس الإيراني الجديد اليمين المنقسم أصلاً وزاده تفككاً.ندرك اليوم، بفضل تذمر الفريق المهزوم، أن كل أعمدة "النظام" الرئيسة المفترضة كانت منهمكة في الصراعات الداخلية خلال المرحلة التي سبقت انتخابات يونيو، ففي مدينة قم مثلاً، رفض آية الله محمد تقي مصباح اليزدي دعم ائتلاف محافظ كان العلماء البارزون الآخرون، مثل آية الله محمد رضا مهدوي كني، يحاولون تعزيزه، ما دفع بهؤلاء إلى تقديم دعمهم لروحاني وآخرين. ووصلتنا تقارير موثوق بها ذات مرة أكدت أن مصباح اليزدي هو القوة المخيفة الفعلية وراء ستار الدولة. لم يقرر القائد والمرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، مطلقا "السماح لروحاني بالفوز"، بخلاف الصورة المخادعة التي تحاول وسائل الإعلام الأميركية تقديمها، إلا أنه ظل يراوغ إلى أن فات الأوان وما عاد بإمكانه منع الانتخابات من أن تأخذ مجراها. وهكذا علق مع بقية المحافظين في معضلة آسرة من صنعه الخاص، ففي خطاب ألقاه في 5 سبتمبر أمام مجلس خبراء القيادة، وسلطت وسائل الإعلام الأميركية الضوء على جملة عابرة فيه عن "أن الولايات المتحدة ستعاني الخسائر في سورية" في حال نفذ أوباما ما يخطط له من ضربات (وهذا صحيح بغض النظر عمّا إذا تدخلت إيران في هذه المسألة أم لا)، خصص الجزء الأكبر من تعليقاته لينسب لنفسه الفضل في برنامج روحاني الانتخابي كله. إذن، بدل أن يكون خامنئي المحور الرئيس والمحرك الأول في عملية اتخاذ القرارات في الدولة، بات المؤشر الأبرز إلى الاتجاه الذي تسلكه النخبة السياسية. فقبل بضع سنوات، اعتُبر ابن خامنئي، مجتبى، القوة المخيفة (الأخرى) في السياسة الإيرانية، هذا إن لم نقل القائد المقبل بدون أي منازع، ولكن هل سمعتم أي خبر عن مجتبى أخيراً؟ ربما قرر هو والزيدي الانتقال إلى ممارسة لعبة الطاولة.تحول الحرس الثوري الإسلامي وقائده المفترض قاسم سليماني إلى مصدر الخوف الأبرز راهناً، لكن اقتباس أقوال الناطقين باسم الحرس الثوري بهدف توقع السياسات الإيرانية يشبه مشاهدة فيلم Red Dawn بهدف فهم تفاصيل السياسة الخارجية الأميركية. لهذا السبب، ذكر قليلون أن المتحدث الرسمي باسم الحرس الثوري، الجنرال رمضان شريف، أجرى مقابلات مع اثنتين من أبرز الصحف المؤيدة للإصلاح، "الشرق" و"الاعتماد"، وذلك بهدف تبديل صورة حرس الثورة، فقد أعلن شريف أن الحرس الثوري لم يُعامل بإجحاف من قبل إدارتي رافسنجاني وخاتمي، بل من قبل فريق أحمدي نجاد المغتصب. احتلت ادعاءات الحرس الثوري المثيرة للاهتمام هذه الصفحات الأولى في الصحف الإيرانية، لكن المقلق حقاً أن تصدر هذه المزاعم الأخبار في الصحف الأميركية أيضاً. لا تكمن الحقيقة في أي من هاتين المناورتين الكلاميتين، بل في الإقرار أن هذه المنظمة منقسمة تماماً مثل سائر الأجهزة السياسية في إيران، مع تمتع المجموعة الداخلية المتعاطفة مع روحاني بالأفضلية؛ لذلك يعمد الحرس الثوري إلى الظهور بمظهر المتواضع، مطلقاً في الوقت عينه السهام.يعود تبدل السياسات الإيرانية في جزء منه إلى أن روحاني يعتبر بعض المحافظين البارزين من أهم المساهمين في نجاح إدارته. هذه هي قاعدة ليندون جونسون: يفضل السياسيون البارعون تقريب الخصوم منهم وحضهم على توجيه انتقاداتهم إلى الخارج، لا العكس، فبخلاف خاتمي، لم يتبوأ روحاني سدة الرئاسة وهو يتكلم بضعف عن المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وغيرها من أحلام الحكام الليبراليين. على العكس، قلب روحاني خطاب الأمن القومي اليميني عن "المقاومة" رأساً على عقب. وعبر مستشار الرئيس الحالي، وزير الدفاع السابق أكبر تركان، عن هذه المسألة بوضوح قبيل الانتخابات: "مَن يقول إن فرض عقوبات مختلفة على البلد خطوة ثورية تتماشى مع خدمة النظام السياسي والشعب؟ نعتبر نحن العقلانية ثورية". إذن، أعاد روحاني رسم أطر جديد للمناظرة: الاعتدال ثوري، أما التطرف فرجعي. وإذا ظلت هذه المعايير الجديدة قائمة، فقد يخسر المتشددون العناد المزيد من نفوذهم، خصوصاً إذا كرروا تكتيكات تسعينيات القرن الماضي باللجوء إلى العنف خارج المؤسسات. لكننا نلاحظ اليوم أن اللاعبين المحافظين يسيرون مع التيار حتى الآن.تشمل الأسباب الأخرى لهذا التبدل السياسي (سبب تعزوه إدارة أوباما إلى نفسها) واقع أن شريحة من الشعب الإيراني، التي قلما تشارك في الانتخابات، تصدت علانية للنخبة السياسية في ما يمكن وصفه بعمل وعي جماعي بطولي. نستطيع القول فعلياً إن روحاني فاز بتفويضه الحالي من خلال ائتلاف اجتماعي يمكننا وصفه بـ"الحركة الخضراء الموسعة": داعمو المرشحين المصلحين مير حسين موسوي ومهدي كروبي عام 2009، فضلاً عن المحايدين في ضواحي المدن والأقليات الإثنية. ونظراً إلى التطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة خلال فصل الصيف (مصر، والعراق، وسورية، وتركيا)، قد يكون التصويت لروحاني العمل الثوري الأبرز المتاح أمام الجماهير الإيرانية. ولهذا السبب وصف روجر كوهين من صحيفة "نيويورك تايمز" الجمهورية الإسلامية بأنها "جزيرة من الاستقرار" في مطلع الشهر الماضي، مردداً مديح كارتر لطهران خلال عهد الشاه في شهر ديسمبر عام 1977، إنما من دون أي سخرية.لا يعرف أوباما أو روحاني مدى قدرتهما على ضمان نفوذهما الداخلي، ولكن إذا سمحتم لي باستخدام العبارات الشرقية للحظة، أقول إن الطرفين حاولا دفع جدار فوجداه ستاراً من خرز. باختصار، بدأت المناورات السياسية لتوها وقد يزداد الحلفاء غرابة.