انعزالية أميركا تخلق عالماً بلا مرسى

نشر في 18-09-2013 | 00:01
آخر تحديث 18-09-2013 | 00:01
No Image Caption
 Roger Cohen قد يعمد الأسد المتمرس بالخداع والقتل إلى تسليم غاز الخردل وغيره من المواد السامة، ويوقع معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية، ويُصافح بوتين، ويعود إلى حربه الأهلية، معولا على تصريح أوباما: «لا أعتقد أن علينا الإطاحة بحاكم مستبد آخر بالقوة».

خلال تناول العشاء قبل بضعة أيام، رحت أناقش مع جنرال صديق لي المعضلة السورية، فقال: "نعيش في عالم ما بعد الولايات المتحدة، وهذا يعني انتشار الفوضى"، وانضم إلينا بعد ذلك جون كورنبلوم، السفير الأميركي السابق في ألمانيا، الذي كان له رأي مشابه: "نشهد اليوم تفككاً متواصلاً لنظام ما بعد الحرب".

وعدَت الولايات المتحدة على لسان رئيسها ووزير خارجيتها كليهما برد عسكري "بالغ الصغر" على قتل الرئيس السوري بشار الأسد مئات الأولاد السوريين بالغازات السامة، ثم تعهدَت: "لا ينفذ الجيش الأميركي عمليات بسيطة"، إلا أنها ما لبثت أن تراجعت، كذلك تخلت بريطانيا عن أقرب حلفائها في وقت الشدة، في حين بدا الاتحاد الأوروبي منقسماً، وحلف شمال الأطلسي غائباً، وفرنسا تقف بمفردها، وإن كنتم تعرفون أسساً أخرى للتحالف عبر الأطلسي، فأعملوني بها من فضلكم.

يعمل فلاديمير بوتين على ملء الفراغ الغربي، مستنداً إلى ملاحظة غير مدروسة صدرت عن جون كيري في لندن (حتى إن كيري نفسه استبعدها)، فسمعنا نظام الأسد في سورية يتعهد فجأة بالتخلي عن الأسلحة الكيماوية، التي سبق أن أنكر وجودها، وبتسليمها إلى مراقبين دوليين.

تمسكت الولايات المتحدة، التي سئمت الحرب، بهذه القشة السورية وقبلت بالوساطة الروسية، وهكذا أُرجئ إلى أجل غير مسمى تصويت الكونغرس على العمل العسكري، تصويت أوشك أوباما، على ما يبدو، أن يخسره، كذلك انتهز أوباما فرصة إدلائه بخطاب غريب شاهده كثيرون حول العالم ليذكر أن الحكام المستبدين "يعولون على أن العالم سيشيح بنظره"، عندما يرتكبون الفظائع، ولذلك قرر اتباع "المسار الدبلوماسي" في الوقت الراهن.

كما كتب ويستن هيو أودن، "يقوم الغول بما تفعله الغيلان عادة". ونحن واثقون اليوم أنه ما من غول حول العالم، خصوصاً في دمشق، يرتعد خوفاً.

لا شك أن كل أزمة تشمل بعض الخطوات غير المدروسة، لكن صعُبَ علينا فهم نمط الرسائل، التي ما انفكت تطلقها إدارة أوباما المترنحة بشأن سورية منذ الاعتداء المريع بالأسلحة الكيماوية الذي نفذه الأسد قبل ثلاثة أسابيع؛ لذلك ذكر سفير أميركي سابق آخر: "لو كان هؤلاء المسؤولون يبنون سيارات، لما اشتريت واحدة".

قد يعمد الأسد المتمرس بالخداع والقتل إلى تسليم غاز الخردل وغيره من المواد السامة، ويوقع معاهدة حظر الأسلحة الكيماوية، ويُصافح بوتين، ويعود إلى حربه الأهلية، معولاً على تصريح أوباما: "لا أعتقد أن علينا الإطاحة بحاكم مستبد آخر بالقوة"، وربما ينسى بوتين، الذي أعرب عن تأييد كبير للقانون الدولي، كبوته في المسألة الليبية ويسمح بتمرير قانون صاغه الغرب في الأمم المتحدة يُدرِج هذه الصفقة ضمن إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يسمح بالتدخل العسكري في حال رفض النظام السوري تنفيذ المطلوب منه (من دون هذه الخطوة، يُعتبر أي اتفاق فارغاً).

إذا حدث ذلك، يكون أوباما قد خرج من حفرة حفرها بنفسه، وسيحقق بعض المكاسب.

لكن شكوكا كثيرة تساورني، إذ تذكرني هذه المعمعة بمهزلة حرب البوسنة التي شملت تسليم الصرب "كل" أسلحتهم الثقيلة إلى الأمم المتحدة لتفادي الضربات الجوية، ومن ثم استئنافهم قصف سراييفو.

أصابت متحدثة باسم وزارة الخارجية عندما وصفت اقتراح كيري في البداية بأنه "مجرد حبر على ورق"، لأننا "لا نستطيع الوثوق بأن هذا الدكتاتور العنيف، الذي يحفل تاريخه بالمراوغة والخداع، سيسلم أسلحته الكيماوية".

سلط التردد البارز منذ الاعتداء الكيماوي الضوء على غياب القيادة الأميركية في مختلف مراحل الصراع السوري، فلم تتلقَ القضية العادلة، التي ناضل في سبيلها الثوار، محاربين 43 سنة من طغيان عائلة الأسد، الدعم بتسليحهم، وعندما تدفق الإسلاميون المتشددون إلى سورية، استُخدم ذلك كمبرر لوقوف الغرب مكتوف اليدين، علما أن هذا الموقف بالتحديد ما زاد من تقاطرهم إلى سورية في المقام الأول.

لا شك أن مشهد رئيس يرسم خطاً أحمر بشأن اعتداء كيماوي ومن ثم يقول "أنا لم أرسم خطاً أحمر" (رسمه العالم)، يجعل كيري يسعى جاهداً ليمهد الطريق أمام عمل عسكري ليماطل بعد ذلك، يلجأ إلى الكونغرس إلا أنه يبدو سعيداً لأن الكونغرس أرجأ قراره إلى جلسة بعد أكثر من أسبوع، ويشير إلى أن "الولايات المتحدة كانت طوال سبعة عقود مرساة الأمن العالمي"، ومن ثم يعلن أن "الولايات المتحدة ليست شرطي العالم"، مشهد وسم لحظة بدأت فيها الولايات المتحدة استدارة نحو الداخل، تاركة العالم بدون أي مرساة.

عكس الرئيس الأميركي الجو العام في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، يُظهر استطلاع أخير أجرته New York Times بالتعاون مع CBS News أن ثلثي المستطلعين يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب ألا تؤدي الدور الرئيس في محاولة حل الصراعات الخارجية. جعلت المبادئ المدعومة بقوة عالية المصداقية الولايات المتحدة مرساة الأمن العالمي منذ عام 1945، وحررت مئات ملايين الناس. لكن أوباما يتبنى نزعة انعزالية متنامية، وقد بدا تقلبه أشبه برضوخ لتبدل في قوى العالم.

نرى هذا التبدل بوضوح في برلين، التي صمدت كمدينة حرة بفضل أحد خطوط الولايات المتحدة الحمراء، كذلك لاحظته طهران، وموسكو، وبكين، وتل أبيب.

جاء في رسالة للدكتور تويس ويشمان من هايدلبرغ بألمانيا نُشرت في المجلة الألمانية "دير شبيغل": "سيسألنا أولادنا عما فعلناه لنوقف عملية القتل الجماعي هذه، تماماً كما سألنا نحن أهلنا عن النازية. فسنخفض عندئذٍ أعيننا ونبقى صامتين".

* صحافي New York Times الأول عام 2009، وله كتابان بعنوان Hearts Grown Brutal: Sagas of Sarajevo و Soldiers and Slaves: American POWs Trapped by the Nazis’ Final Gamble. كذلك شارك في كتابة السيرة الذاتية للجنرال نورمان شوارزكوف بعنوان In the Eye of the Storm.

back to top