استراتيجية أميركية منقوصة لمغادرة أفغانستان

نشر في 18-01-2013 | 00:01
آخر تحديث 18-01-2013 | 00:01
No Image Caption
أتصور أن الرئيس وأعضاء فريقه الذين تعافوا الآن بالكامل من جرعة التفاؤل العسكري يشككون في التقارير المتعلقة بجاهزية الجيش الأفغاني كما يفعل معظم الناس. هم يريدون الحفاظ على سلامة الوضع في أفغانستان بعد عام 2014، ولكنهم لم يعودوا مستعدين لدفع الثمن المطلوب منهم.
 James Traub أصغى الرئيس باراك أوباما إلى جنرالاته في المرة الأولى، ولكنه بات يعرف الآن ما يجب فعله، ففي عام 2009، كان أوباما يفتقر إلى الخبرة، ولم تكن علاقته وثيقة بالجيش، وربما كان يشعر ببعض الرهبة تجاه أشهر قائدين عسكريين، ديفيد بتريوس وستانلي ماكريستال، لذا وافق على إرسال 30 ألف جندي إضافي إلى أفغانستان تحت شعار متابعة حملة مكافحة التمرد التي لم يكن يؤيدها أصلاً، لكن في عام 2013، يبدو أوباما مستعداً للتغاضي عن توصيات قائده العسكري الراهن، الجنرال جون آلين، والاكتفاء بترك قوات محدودة (أو حتى معدومة) بعد سحب وحدات القتال الأميركية في نهاية عام 2014. لا شك أن هذا التبدل في المواقف يعكس تنامي معارفه المكتسبة في شؤون الحكم.

أدى الهوس الأميركي بالإرهاب إلى تضرر العلاقة بين القيادة المدنية والجيش وسيرها في اتجاهات مختلفة. كانت اعتداءات 11 سبتمبر كفيلة باحتشاد الأيديولوجيين حول الرئيس جورج بوش الابن (وفضح أبرز أحلامه الدفينة)، بينما تمسك الجيش بالمفاهيم الحذرة والموروثة عن حرب فيتنام. كان وزير الخارجية دونالد رامسفيلد هو الذي أدى دور المارشال الميداني في حرب العراق، فكان ينشط عن طريق القائد العسكري الذي اختاره تومي فرانكس. بعد أن هزم حركة "طالبان" على طريقته الخاصة، شعر رامسفيلد بأنه يستطيع تجاهل توصيات القادة العسكريين الذين نصحوا بزيادة عدد الجنود، مثلما تجاهل توصيات المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية حين دعوا إلى الاستعداد لحقبة ما بعد الصراع. يعلم الجميع إلى أين وصلنا بسبب تلك القرارات.

حين وصل باراك أوباما إلى الرئاسة، انقلب الوضع، كان أوباما شخصية حذرة وكان يشكك في قدرة الولايات المتحدة على إعادة رسم شكل العالم، لا سيما عبر استعمال القوة. بحلول عام 2009، صار ديفيد بتريوس (العقل المدبر لخطة "زيادة القوات العسكرية" في العراق في عام 2007) يجسد نوعاً جديداً من الأبطال العسكريين، فكان جريئاً ولامعاً وجذاباً، وكان ستانلي ماكريستال الذي حل مكانه في منصب قائد القوات العسكرية في أفغانستان يتمتع بجاذبية من نوع مختلف. أسر الرجلان الرأي العام بحسب رأي فريد كابلان في كتابه الجديد "المتمردون" (The Insurgents)، وساهما في تغيير طريقة فهم الرأي العام للثقافة والقيادة العسكرية. كذلك، توصل الاثنان إلى فكرة لامعة: مكافحة التمرد. كان بتريوس وماكريستال شخصين إيديولوجيين مثلما كان بول وولفويتز وديك تشيني في السنوات السابقة.

لم ينجرف أوباما في هذه الموجة كما فعل سلفه بوش، بل كلّف نائبه جو بايدن برصد الثغرات في خطاب مكافحة التمرد التفاؤلي. مع مرور الوقت، تحدث بوب ودوارد في كتاب "حروب أوباما" (Obama's Wars) عن زيادة تشكيك الرئيس بقدرة الولايات المتحدة على إعادة بناء أفغانستان خلال السنوات القصيرة المقبلة التي ستشهد بقاء القوات الأميركية هناك. فتساءل عن السبب الذي يدفع الولايات المتحدة إلى القلق بشأن استيلاء "طالبان" على أفغانستان بما أن التهديد الحقيقي يكمن في تنظيم "القاعدة"، لكن أصر وزير الدفاع روبرت غيتس ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون على أن انتصار "طالبان" سيعني عودة "القاعدة" إلى أفغانستان. وافق أوباما في نهاية المطاف على نسخة مخفّفة من خيار ماكريستال الوسطي الذي دعا إلى نشر 40 ألف عنصر إلى جانب زيادة كبرى في الوجود المدني. ربما شعر بأنه لا يستطيع تحمّل استبدال مقاربته بتقييمات القادة العسكريين الأميركيين.

بدأ اختبار برنامج مكافحة التمرد وتبين أنه منقوص، ولم تساهم برامج المساعدات التنموية والإصلاحات الحكومية التي رافقت الزيادة العسكرية في تقديم منافع كثيرة لتقليص الفساد وقلة الكفاءة في الدولة الأفغانية أو للفوز بقلوب وعقول الرأي العام الأفغاني. وجدت دراسة حديثة أن المساعدات في أكثر المحافظات المتنازع عليها ترتبط بشكل سلبي بالاستقرار والأفكار الشائعة عن الوجود الدولي. لم يكن منطقياً (إلا بالنسبة إلى ماكريستال على الأرجح) أن تتمكن الولايات المتحدة من تعزيز شرعية حكومة حامد كرزاي خلال ثلاث سنوات. وقد توقف البيت الأبيض منذ ذلك الحين عن التحدث عن الإصلاح السياسي أو الاقتصادي كجزء أساسي من استراتيجية مغادرة البلد.

خلال السنة الماضية، تزامناً مع انهيار دعم الرأي العام للحرب واقتصاره على نسبة 23%، تخلى أوباما عن جزءٍ تلو الآخر من الاستراتيجية التي كان قد تصورها سابقاً. برزت "شراكة" جديدة مع باكستان وكانت تشمل تقديم مساعدات تنموية، وضمان التنسيق الأمني، وإطلاق جهود دبلوماسية إقليمية، بهدف إقناع إسلام أباد بضرورة إغلاق المخابئ التي استعملها المتمردون للتدريب والتنظيم والاختباء من القوات الأميركية. لكن تبين أن ذلك المشروع كان مجرد حلم. سيكون إنجازاً أن تتوافق واشنطن وإسلام أباد على التحاور اليوم، فالاصطلاح الجديد الذي يعرف بـ"أفباك"  AfPak ويشير إلى الترابط المعقد بين مشكلتَي أفغانستان وباكستان، أصبح ينطوي في حد ذاته على مفارقة تاريخية بارزة، فقد صمد مكتب الممثل الخاص لأفغانستان وباكستان، الذي أنشأه أوباما بعد توليه الرئاسة بهدف إيجاد حلول كاملة لهذه المشكلة الإقليمية المعقدة، على الرغم من تراجع فاعليته.

 في نهاية المطاف، كان ذلك المكتب معداً لريتشارد هولبروك، الدبلوماسي الراحل الذي كان يؤيد هذه المقاربة بشدة. يُقال إن البيت الأبيض يفكر باستبدال المكتب بمبعوث خاص الآن.

تبدو استراتيجية مغادرة أفغانستان منقوصة بشكل متزايد. أصر الجنرال آلين على تخفيض عديد القوات العسكرية التي يجب أن تبقى في البلد بعد عام 2014 لتنفيذ مهمات مكافحة الإرهاب ومتابعة تدريب القوات الأفغانية (على أن ينخفض العدد من 15 أو 20 ألف عنصر إلى ثلاثة خيارات تتراوح بين 3 أو 6 أو 9 آلاف عنصر). لكن قد يكون هذا العدد مفرطاً أيضاً: في وقت سابق من هذا الأسبوع، قال بنجامين رودس، نائب مستشار الأمن القومي، إن الرئيس قد لا يترك أي جندي هناك على الإطلاق. كانت تلك الرسالة موجّهة إلى الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي زار البلاد لإقناع واشنطن بإبقاء عدد إضافي من الجنود الأميركيين، وإلى البنتاغون أيضاً. الجنرال آلين لا يشبه ديفيد بتريوس (مع أن بتريوس لم يعد يشبه نفسه الآن!). لذا من المتوقع أن يتخذ أوباما قراراته بنفسه علماً أنه مضطر للتفكير بأمور كثيرة لا علاقة للجنرالات بها، مثل توجّه الرأي العام وعجز الميزانية. هو يقول إنه يستطيع تقبل الفشل.

هل هذا الأمر سيئ؟ في افتتاحية وردت في صحيفة "واشنطن بوست" في شهر نوفمبر الماضي، توقع فريديريك وكيمبرلي كاغان من معهد دراسات الحرب أن تعجز الولايات المتحدة، ما لم تَبْقَ قوة مؤلفة من 40 ألف عنصر، عن تنفيذ عمليات فاعلة لمكافحة الإرهاب، أو التأثير بمسار العملية السياسية الأفغانية مع اقتراب البلد من انتخابات حاسمة في عام 2014، أو إطلاق عملية ناجحة لبناء الوطن. قد يكون هذا التحليل مبالغاً فيه ولكنه يعطي فكرة عن المجازفات المرتقبة. من المستبعد مثلاً أن تتمكن القوات الأفغانية من تدبير أمورها بنفسها بعد مغادرة القوات الأميركية. حتى تقرير البنتاغون التفاؤلي في ديسمبر 2012 يعترف بأن لواءً واحداً فقط من أصل 23 في الجيش الوطني الأفغاني مستعد للقتال وحده. وذكرت مقالة حديثة وردت في صحيفة "نيويورك تايمز" أن الناس في منطقة مرجا، في محافظة هلمند، تقبلوا فكرة عودة "طالبان" منذ الآن بعد رحيل القوات الأميركية.

يريد أوباما التركيز على محور آسيا وبناء وطنه محلياً، وهو لا يبالي على الأرجح بأفغانستان بعد الآن. أتصور أن الرئيس وأعضاء فريقه الذين تعافوا الآن بالكامل من جرعة التفاؤل العسكري يشككون بالتقارير المتعلقة بجهوزية الجيش الأفغاني كما يفعل معظم الناس. هم يريدون الحفاظ على سلامة الوضع في أفغانستان بعد عام 2014، ولكنهم لم يعودوا مستعدين لدفع الثمن المطلوب منهم. هم يأملون أن يتمكنوا من قلب صفحة أفغانستان كما فعلوا في العراق، وأن يتابعوا توفير المساعدات التنموية ودعم الميزانية والتدريب العسكري فيما يتولى الأفغان حل مشاكلهم الأمنية والسياسية بأنفسهم. أدت حرب الطائرات بلا طيار إلى نسف جماعات "القاعدة" في باكستان، ثم انتقلت الحرب على الإرهاب إلى اليمن وشمال إفريقيا. لذا لم يعد مفهوم مكافحة الإرهاب في الحرب الأفغانية ملحّاً بالقدر نفسه.

إذا كانت الآمال بالتوصل إلى اكتفاء ذاتي في أفغاستان بعيدة المنال، فهل سيبقى الوضع على حاله؟ كان يُفترض أن يساهم الفشل الأميركي في فيتنام في تلافي الكارثة ومقاربة الوضع بشكل مختلف، لكن لم يحصل ذلك. إذا كانت أفغانستان هي النسخة المعاصرة عن فيتنام، فيبدو أن باراك أوباما قرر (مثل ريتشارد نيكسون) الحد من خسائره.

back to top