تونس ومصر بحاجة إلى انتشار الثورات العربية!
يحتاج الوضع في تونس ومصر إلى خطوة في الاتجاه الذي سلكته حكومات تقدمية لاتينية، مثل دولة الإكوادور التي أدارت ظهرها لنموذج اقتصادي فاشل، ووسّعت قاعدتها الضريبية، وحَدَّت من الفقر، واستخدمت المصارف والشركات العامة لتنشط نمو الاقتصاد.
منذ انطلاق الثورات العربية في تونس، تبيّن بوضوح أن قوى نافذة ستبذل قصارى جهدها لعرقلتها أو إضعافها، تشمل هذه مصالح محلية ضاعت بسبب الإطاحة بالأنظمة القديمة، ودولاً خليجية خشيت انتقال العدوى إلى شواطئها، وقوى غربية خسرت عملاء استراتيجيين ولا ترغب في خسارة المزيد منهم.نتيجة لذلك، بعد أن سقطت تونس ومصر بسرعة، خُطفت الانتفاضات التالية، كما حدث في ليبيا، أو سُحقت، كما في البحرين، في حين بُثت السموم الطائفية في أرجاء المنطقة المنطقة، ما فاقم إراقة الدماء في سورية على وجه الخصوص. كذلك أُنفقت الأموال بهدف زعزعة دول ما بعد الثورة أو السيطرة عليها.يبدو أن تونس وحدها بدت صغيرة ومتماسكة كفاية لتنجو من هجوم كامل مناهض للثورة، كذلك أعرب قادتها الإسلاميون المنتخبون حديثاً عن تقبلهم الجميع، ما أدى إلى تبني الديمقراطية بنجاح وقدم نموذجاً تقدمياً لسائر دول المنطقة. استمر هذا الوضع إلى أن أدى اغتيال القائد اليساري شكري بلعيد في شهر فبراير إلى موجة متنامية من الصراعات بين المجموعات العلمانية والإسلامية (تخللتها بعض الحوادث العنيفة شملت سلفيين متطرفين). ولا شك أن مَن أمر بتنفيذ عملية القتل، التي أشعلت تظاهرات واسعة النطاق وأعمال شغب ومطالبات بحل البرلمان والإطاحة بالحكومة، كان يسعى إلى زعزعة البلد.بعد مرور شهرين، استقبلت العاصمة تونس عشرات آلاف الناشطين الدوليين الذين قدموا لحضور المنتدى الاجتماعي العالمي، أُقيم هذا المنتدى للمرة الأولى في البرازيل قبل 12 سنة بهدف محاربة العولمة، وقد عقد في تونس بغية دعم التغيير الجذري في شمال إفريقيا وأنحاء العالم المختلفة.رغم كل التقارير عن كثرة الاضطرابات وعدم الاستقرار، لاحظ هؤلاء الناشطون أن المدينة هادئة وخالية من المخاطر، خصوصاً أن السلفيين المتطرفين غير فاعلين على الأرض، بخلاف الشبكات الناشطة للحركات الاجتماعية والاتحادات العمالية وحملات الاحتجاج، لكن أزمة البطالة والفقر التي أشعلت الانتفاضة التونسية باتت اليوم أسوأ مما كانت عليه عام 2010، وما زال الفساد في سلك الشرطة والبيروقراطية متفشياً.في هذه الأثناء، صارت السياسات أكثر تحيزاً مع بروز خلاف معطِّل بين الدين والعلمانية: بين "حزب النهضة" الإسلامي الوسطي (الذي تعرّض للقمع العنيف خلال عهد بن علي المستبد وفاز في الانتخابات عام 2011) وأحزاب المعارضة اليمينية واليسارية التي تتهم "حزب النهضة" بالعمل في الخفاء لإنشاء دولة ثيوقراطية.إن كان هدف هذا الصراع حماية حقوق المرأة والحقوق المدنية، يكون بذلك ضرورياً، ولكن ما يجعل هذا الصراع يبدو غريباً واقع أن "النهضة" التزم دوماً بالتحالف مع الأحزاب العلمانية وبحقوق المرأة (على سبيل المثال، تصف نائبة رئيس البرلمان محرزية العبيدي، التي تنتمي إلى حزب النهضة، نفسها بأنها ناشطة تدافع عن حقوق المرأة)، رفض محاولات إدراج الشريعة وإشارة إلى الأدوار "التكاملية" بين الرجل والمرأة في الدستور، وأصر على أنه ما من صراع بين الإسلام والعلمانية. يلوم قاسم عفية من الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يتمتع بنفوذ واسع، الإسلاميين على هذا الشرخ، ويقول إن الضغط الاجتماعي يشكّل المفتاح الرئيس في الدفاع عن الحقوق المدنية. أما مصطفى بن جعفر، الرئيس العلماني للمجلس الوطني التأسيسي، فيعتقد أن إصرار المعارضة على شنّ حملة ما إن خسرت الانتخابات هو سبب الخلاف.في مطلق الأحوال، يبرز خطر أن تتحول هذه السياسات، كما في مصر (حيث تبدو الانقسامات أعمق)، إلى حروب ثقافية أميركية الطراز بين الدين والهوية، وذلك على حساب النضال من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسيادة الوطنية. يُلائم هذا الصراع القوى التي دعمت الأنظمة القديمة (في تونس تتركز حول فريق المعارضة الرئيس، حركة نداء تونس)، ويؤدي إلى تحالفات مريبة. فتدعم بعض الدول المتشددة دينياً عناصر من المعارضة الليبرالية والعلمانية في مصر وتونس لأنها تخشى بروز حكومة إسلامية ديمقراطية في هاتين الدولتين، ما قد يؤدي إلى انعكاسات سلبية على مستقبل أنظمتها.لكن هذا لا يلائم غالبية المصريين والتونسيين، فكان تأثير الأزمة الأوروبية في الاقتصاد التونسي، الذي مُني بخسائر كبيرة نتيجة إصلاحات النظام المستبد الليبرالية الجديدة، السبب الحقيقي وراء اندلاع الثورة، وكانت مطالبها الرئيسة الكرامة، الوظائف، والعدالة الاقتصادية.بعد مرور سنتين، بدأت الحكومة تخفض معدل البطالة، الذي ارتفع بشكل كبير (يبلغ رسمياً اليوم 17%)، وتحوّل الإنفاق إلى المناطق الفقيرة، ولكن عليها أن تعمل راهناً للتخلص من سياسات صندوق النقد الدولي التي ورثتها من النظام السابق. يتحدث قادة "حزب النهضة" عن "اقتصاد اشتراكي" يكون حلاً وسطاً بين رأسمالية السوق الحرة والاشتراكية. لكن التفاصيل لا تزال غير واضحة. ويزداد الضغط راهناً للحد من إعانات الغذاء والوقود واستئناف الخصخصة.لا شك أن هذا لا يُلائم طموحات الشباب المعدمين الذين قادوا ثورتَي تونس ومصر، وفي ظل الظروف الراهنة، يحتاج الوضع إلى خطوة في الاتجاه الذي سلكته الحكومات التقدمية في أميركا اللاتينية، مثل دولة الإكوادور التي أدارت ظهرها لنموذج اقتصادي فاشل، ووسّعت قاعدتها الضريبية، وحَدَّت من الفقر، وأعادت التفاوض بشأن عقود مع عدد من الدول، واستخدمت المصارف والشركات العامة لتنشط نمو الاقتصاد.بدلا من ذلك، يطالب الاتحاد الأوروبي بأن تحرر تونس نظامها المصرفي (علماً أن عملية تخفيف القيود المالية عينها هي التي أدت إلى انهيار عام 2008). رغم ذلك، تحاول تونس تنويع تجارتها واستثمارها، مبتعدة عن أوروبا، التي تعاني أزمة كبرى، وفرنسا، تلك القوة الاستعمارية المهيمنة السابقة، وكما ذكر رئيس الوزراء الجديد علي العريض: "تقوّي الثورات الاستقلال الوطني". وفي شهر يناير، أكد مسؤولون أن الحكومة التونسية رفضت منح فرنسا حق المرور في أجوائها خلال تدخلها العسكري في مالي الممول خليجياً. ولا شك أن الحاكم المستبد السابق ما كان ليقدِم على خطوة مماثلة.لم يتضح بعد المدى الذي ستبلغه الثورات العربية، وما إذا كانت ستحقق أحلام الشعب أو ستتراجع لتغرق في التبعية للغرب. يعتمد ذلك على الضغط الاجتماعي المحلي وعلى ما إذا كانت هذه الثورات ستبلغ الأنظمة المستبدة التي يدعمها الغرب وتحاول السيطرة على هذه العملية، لكننا نعرف يقيناً أنه كلما انتشرت الديمقراطية، ازدادت فرص أن يتمكن العرب من التحكم بمستقبلهم ومصيرهم.