البغدادي وتكوين الفكر العربي الجديد

نشر في 29-05-2013
آخر تحديث 29-05-2013 | 00:01
يعتبر بعض المفكرين العرب، أن الدعوة الحداثية العربية هي التي أفزعت المجددين الفكريين الدينيين من التجديد الديني، خصوصاً عندما تم تفريغ الحداثة من القيم الأخلاقية التي يتشدد الدين بالتمسك بها، وهذا الفزع من الحداثة هو الذي عطّل التجديد لمن ابتغى التجديد الديني في الحاضر.
 د. شاكر النابلسي -1-

منذ بدأ المُعلِّم الأكاديمي والمفكر الكويتي الراحل أحمد البغدادي المشاركة في تكوين الفكر العربي الليبرالي الجديد، وهو يركز على ضرورة تجديد الفكر الديني، والدعوة لاستخدام العقل في هذا التجديد.

وهو خلال أكثر من عشر سنوات، استطاع أن يؤكد أن تجديد الفكر العربي الليبرالي لا يمكن أن يتم دون القيام بتجديد الفكر الديني الذي هو أساس وأُس تجديد الفكر العربي. ولعل كتابه (تجديد الفكر الديني: دعوة لاستخدام العقل، 1999)، قد جاء ليؤكد هذه الحقيقة التاريخية العلمية الراسخة.

-2-

فما الأسباب المعيقة لتجديد الفكر الديني عموماً للوصول إلى تجديد الفكر العربي، الذي يمثِّل الفكر الديني فيه النسبة الكبرى والمساحة الأوسع، علماً أن الإسلام دين مرن، فيه قابلية التجدد الفكري الذي حدث في الماضي عدة مرات، وعلى مدار خمسة عشر قرناً، وتعسَّر في الحاضر، كما نرى؟

هناك أسباب عدة منها:

1- لا مستقبل عربياً مضيئاً بعيد عن الحداثة، أو إقصاء لها بخيرها وشرها، وهناك قطيعة واضحة بين الحداثة والفكر الإسلامي المعاصر في مجمله، بل تكاد الحداثة تكون في خطاب التشدد والتطرف الفكري هي العدو الأغشم، والشيطان الأكبر للدين. والسلفيون في هذه الحالة سيكونون بين مطرقة العصر وتحدياته، وثوابت التراث وقيوده. وهم بذلك في وضع تراجيدي لا يحسدون عليه، على حد تعبير المفكر والأكاديمي السوري - الفرنسي والناشط السياسي برهان غليون، ويقفون بصلابة في وجه تجديد الفكر الديني.

2- يعتبر بعض المفكرين العرب، أن الدعوة الحداثية العربية هي التي أفزعت المجددين الفكريين الدينيين من التجديد الديني، خصوصاً عندما تم تفريغ الحداثة من القيم الأخلاقية التي يتشدد الدين بالتمسك بها. وهذا الفزع من الحداثة هو الذي عطّل التجديد لمن ابتغى التجديد الديني في الحاضر.

3- لقد تعرّض الدين، منذ مطلع القرن العشرين حتى الآن، على أيدي الجيل الثاني من الليبراليين (طه حسين، قسطنطين زريق، علي عبدالرازق، خالد محمد خالد، خليل عبدالكريم، صادق جلال العظم، وغيرهم) إلى نقد علمي تاريخي ترك ردة فعل عنيفة لدى المصلحين والمجددين الدينيين، الذين اعتبروا ما أنتجه هؤلاء من فكر، هو "هجوم على الدين"، وهو "مشروع تخريبي"، وليس "نقداً علمياً". فتعطلت بذلك كل حركات التجديد الديني كردة فعل لذلك الفعل.

4- إن معظم دعوات تجديد الفكر الديني، جاءت من خارج الفكر الديني العربي. وهي جاءت من الفكر الليبرالي الغربي بالدرجة الأولى. ونستثني من ذلك بعض الأمثلة البارزة (الشيوخ: الطاهر حداد، علي عبدالرازق، الطاهر عاشور، خالد محمد خالد، خليل عبدالكريم، جمال البنا، أحمد صبحي منصور، وغيرهم). وكان وما زال كل ما يأتي به الفكر الليبرالي العربي فكراً منبوذاً مرفوضاً من السلفية الدينية، حتى إن كانت فيه الفائدة.

وإذا أُريد لفكرة ما أن تُقتل، فليتبنها الليبراليون لكي يجهضوها، ويجهزوا عليها. حيث إنهم يدسّون "السُمَّ في العسل" كما هي السياسة الأميركية اليوم بالنسبة إلى شعوب الشرق الأوسط، في رأي الشارع العربي السلفي الديني والقومي، على السواء.

5- كان الدين كقضبان الحديد في الخرسانة السياسية العربية، منذ بدء "دولة الرسول" الكريم في المدينة المنورة وإلى الآن، بل إننا نقول، إن الذي لعب دوراً كبيراً في تشكيل الدولة العربية من العهد الراشدي إلى الآن، كان الدين وليست السياسة وحدها. ولم يكن هناك فارق بين التوظيف السياسي للدين في التاريخ القديم وهذا التوظيف في العصر الحديث. كما لعب الدين ورجال الدين دوراً أساسياً في التشكيل السياسي العربي بعد الاستقلال في بداية الخمسينيات حتى الآن. وأصبحوا (كفكر تشريعي، وتسويغي، وتبريري، وتحريضي، وتكفيري، وتحريمي، وتحليلي) من الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي العربي ظاهرياً وباطنياً، فكانت الدعوة إلى التجديد الديني تعني ضمناً الدعوة إلى التجديد السياسي، وهو ما ترفضه معظم السلطات السياسية القائمة، والتي ساهمت مساهمة كبيرة في عدم تجديد الفكر السياسي، لأن هذا يعني بالتالي، مباشرة تجديد الفكر السياسي للسلطات، والذي لا يُمسُّ، ولا يُجسُّ.

6- في السنوات العشر الماضية، زادت مقاومة أي دعوة لتجديد الفكر الديني بعد وقوع كارثة 11 سبتمبر 2001، لربط الإصلاح الديني والتجديد الديني وتعديل المناهج الدينية المدرسية بهذه الواقعة، وما تبعها من أعمال إرهابية، حيث تم الربط بين الدين والإرهاب وبين المسلمين والإرهابيين. وكانت تلبية أو قبول أي دعوة لتجديد الفكر الديني معناه القبول بما يطرحه الغرب عموماً خصوصاً أميركا (العدو الأول للمسلمين) من إصلاحات دينية مرفوضة رفضاً باتاً، ولكن غاب عن ذهن الجميع أن مشاريع التجديد والإصلاح الديني مشاريع مطروحة منذ أكثر من 150 سنة؛ أي منذ القرن التاسع عشر على أيدي جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي، ورشيد رضا، وغيرهم، ومن تبعهم بعد ذلك في النصف الأول والنصف الثاني من القرن العشرين، بل كان هناك في تاريخ الفكر الإسلامي دائماً محاولات الكشف عن عدم التعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول (كما لدى ابن تيمية)، أو بين الشريعة والحقيقة (كما لدى المتصوفة)، أو بين الحكمة والشريعة (كما لدى ابن رشد)، كما يقول المفكر المصري الراحل نصر أبو زيد في (تجديد الخطاب الديني ضرورة معرفية وليس استجابة لاستحقاقات 11 سبتمبر).

7- وأخيراً، ساهمت بعض الظروف الاقتصادية العربية التي أدت إلى اغتناء بعض الدول العربية في الحيلولة دون تجديد الفكر الديني، بل هي ساهمت على عكس ذلك في تثبيت السلفية الدينية خصوصاً الاقتصادية منها، وكانت مظاهر هذه السلفية الاقتصادية انتشاراً لما يُسمى بالبنوك الإسلامية بدءاً من عام 1973 لمحاربة البنوك الربوية التي هي علامة من علامات الحداثة الاقتصادية في العالم العربي، كما أن ارتفاع أسعار البترول وتضخم ميزانيات بعض الدول المنتجة للنفط في العالم العربي عزز من تثبيت أركان السلفية السياسية.

* كاتب أردني

back to top